لم يكد حبر الاتفاقية التجارية بين الولايات المتحدة والصين يجف، ليؤشر إلى تهدئة عبر عنها صراحة الرئيس الأميركي دونالد ترامب يوم توقيع بنود الاتفاقية الأولى بإشادته بالفصل الجديد في العلاقات مع بكين، والتي اعتبر أنها “الأفضل بيننا منذ سنوات عدة”، حتى فاجأ فيروس “كورونا” البلدين والعالم ليعيد العلاقة بين واشنطن وبكين إلى مربع النزاع والاشتباك.
في واشطن لا تغيب الصين عن ألسنة مسؤوليها الرسميين، إذ لا يخلو حديث لترامب مؤخراً من كلام عن بكين ودورها في أزمة وباء “كورونا”.
ومنذ آخر مكالمة هاتفية بين ترامب ونظيره الصيني تشي جي بينغ يوم الجمعة (27 آذار/مارس)، والتي اتفق فيها الجانبان على تخفيف التوترات، تغيرت لهجة ترامب ومسؤولي إدارته وعادوا للهجوم على بكين.
تفشي الوباء بسرعة كبيرة في الولايات المتحدة أحبط ما كانت ترى فيه واشنطن استفادة اقتصادية بسبب أزمة الصين مع تفشي الوباء لديها، وهو ما عبر عنه وزير التجارة ويلبر روس، حين توقع أن يعود فيروس “كورونا” بمنفعة اقتصادية من خلال إمكانية انتقال الشركات من آسيا إلى شمال القارة الأميركية.
في مرحلة لاحقة وجد ترامب وإدارته أنفسهم في حالة تخبط وفوضى وعشوائية في مواجهة تفشي “وكورونا” وتداعيات ذلك على الولايات المتحدة، في لحظة مفصلية قبيل أشهر على الانتخابات الرئاسية نهاية العام الحالي.
هذا الأمر دفع ترامب إلى لهجة عدائية كبيرة تجاه الصين، إذ لا بد من اختراع عدو توجه له أصابع الاتهام بشأن ما حصل، في محاولة لكسب ثقة الناخبين الأميركيين في وقت سجلت فيه بلاده أرقاما تاريخية للبطالة، حيث سجل نحو 20 مليون مواطن طلبات جديدة للحصول على إعانات البطالة في شهر نيسان/ابريل المنصرم.
محللون أميركيون رأوا في توجيه اللوم إلى الصين استراتيجية فعّالة لإدارة ترامب، المضطرة حالياً إلى تخفيف هذه اللهجة، لأن استمرار النهج الحالي سيفاقم من الورطات التي وجدت هذه الإدارة نفسها فيها.
ويقول محللون أميركيون أن اتهام الصين، التي أخفقت أولاً في فرصة إبلاغ العالم بشفافية حول انتشار الوباء، لا يزال الورقة الرابحة الوحيدة في يد ترامب في نهاية عهده، لاسيما في ما يرتبط باستكمال تقسيم المجتمع الأميركي، والطبقة السياسية، بعدما وجد خطابه صدى له في الدوائر الجمهورية.
وفي هذا السياق، يذهب وزير الخارجية مايك بومبيو إلى المدى الأقصى في استعداء الصين، فالرجل الذي يعتبر الأكثر تشدداً تجاه بكين في إدارة ترامب، اتهم علانية بكين بأنها “عدو الإنسانية”. هي اتهامات طالب بسببها الديموقراطيون بومبيو بتقديم أدلة على خروج الوباء من مختبر صيني، ومنهم السيناتور كريس مورفي الذي كتب في موقع “ذا هيل” منذ أيام أن الجمهوريين “يسعون إلى تحويل اللوم من ترامب، وتبدو الصين الكبش المناسب”.
وفي آخر فصول معركة ترامب “الكلامية” تجاه بكين، هدد الرئيس الأميركي بقطع جميع العلاقات مع التنين الصيني بسبب إدارته لأزمة “كورونا”، مؤكداً أنه لم يعد يريد التحدث إلى رئيسها تشي جين بينغ.
الجمهوريون يسعون إلى تحويل اللوم من ترامب، وتبدو الصين الكبش المناسب
ترامب الذي لم يوضح ما هي التدابير الانتقامية التي قد يتخذها رغم كثرتها على حد تعبيره، أكد أنه إذا قُطعت العلاقة مع بكين فإن بلاده ستوفر 500 مليار دولار.
بكين سارعت إلى الرد على ترامب بتأكيد وزارة الخارجية على أن استقرار العلاقات بين البلدين يخدم مصالح الشعبين.
وكان ترامب قال يوم الجمعة الماضي، إنه يعيش “في دوامة” حول ما إذا كان عليه الاتفاق مع الصين، وذلك بعد يوم واحد من مكالمة بين وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوتشين ونائب رئيس الحكومة الصيني ليو هي، أكدا فيها التوافق على المضي قدماً في المرحلة الأولى من الاتفاق التجاري على الرغم من حالة الطوارئ العالمية التي يفرضها الفيروس.
كذلك كان مستشار البيت الأبيض بيتر نافارو، المعروف بعدائيته الشديدة للصين، قد أكد أن على النظام الصيني أن يدفع فاتورة انتشار الوباء، معتبراً أن المسألة ليست مسألة عقاب، بل ترتبط بالمحاسبة. ورفض نافارو الإقرار بما إذا كان ينصح الرئيس بفرض ضرائب جديدة على بكين، أو تمزيق “المرحلة الأولى” من الاتفاق التجاري، الذي كان تمّ التوصل إليه بين البلدين بداية العام الحالي، لكنه اعتبر أن إدارة الحزب الصيني الحاكم لأزمة “كورونا”، قد خلّفت للعالم أضراراً لا تزال متواصلة إلى الآن، وكلّفت الولايات المتحدة حوالي 10 تريليونات دولار حتى اللحظة لمواجهة الأزمة.
خطوات واشنطن التصعيدية
لم تكتف واشنطن بالتصريحات ورمي الاتهامات بوجه بكين، بل عمدت إلى اتخاذ إجراءات من شأنها تعميق الخلاف بين البلدين، على الرغم من تأكيد الجانبين السعي إلى الالتزام بالاتفاق التجاري الموقع.
البداية كانت في آذار/مارس الماضي مع إقرار ترامب قانوناً يعزّز زيادة الدعم الأميركي لتايوان دولياً، ما دفع الصين إلى التنديد، مهدّدة بأنها سترد إذا تم تطبيق القانون.
كذلك وافق مجلس الشيوخ الأميركي بالإجماع، على تشريع يدعو إدارة ترامب إلى تشديد ردّها على حملة الصين على أقلية الأويغور المسلمة، وبذلك يحال التشريع إلى مجلس النواب الذي يسيطر عليه الديمقراطيون، والذي يتعين أن يوافق عليه قبل إرساله إلى البيت الأبيض ليوقعه ترامب ليصبح قانوناً، أو يستخدم حق النقض (الفيتو) ضده. ويطالب مشروع القرار الذي تقدّم به السيناتور الجمهوري ماركو روبيو وزارةَ الخارجية الأميركية بتقديم تقرير يوثق الانتهاكات بحق الأقلية المسلمة في الصين.
سبق ذلك طرح أعضاء جمهوريين في مجلس الشيوخ مناهضين لبكين، مشروع قانون يمنح الرئيس سلطة فرض عقوبات على الصين إذا لم تساهم بشفافية تامة في تسليط الضوء على منشأ كورونا. وتشمل العقوبات التي يمكن فرضها، إن لم يؤكد ترامب أن الصين تعاونت، وأغلقت سوق الحيوانات التي يقال إن الفيروس بدأ انتشاره منها، وأفرجت عن محتجين اعتقلتهم في الأيام الأولى لظهور الفيروس، تجميدَ الأصول وحظر السفر إلى الولايات المتحدة وإلغاء إدراج أسهم الشركات الصينية في سوق الأسهم الأميركية.
كذلك أصدر ترامب أوامر لصندوق استثمار التقاعد الفيدرالي بعدم شراء أسهم أي شركات صينية، لاعتبارات وصفها مستشاروه بالأمنية. يأتي ذلك، بعد ستة أشهر من رفض الصندوق الذي يدير ما يقرب من 600 مليار دولار من مستحقات التقاعد للعاملين لدى الحكومة الفدرالية ضربة مزعجة، طلباً من مجلس الشيوخ بعدم استثمار أمواله في مؤشر أسهم “مورغان ستانلي” لشركات العالم، لاشتماله على شركات صينية.
يدرك ترامب أن أية ضربة للاتفاق التجاري الموقع ستكون له ارتدادته السلبية على قطاعات مهمة بالاقتصاد الأميركي وخصوصا القطاع الزراعي الذي سيستفيد من تحقيق الاتفاق بنحو 200 مليار دولار كصادرات لبكين، من هنا يعلم ترامب أن أي خلل في هذا القطاع سيرتد سلبا على رغبته بالعودة إلى البيت الأبيض مجدداً.
بكين: العداء نحونا يزداد
في المقابل لا تزال بكين تتعامل مع الاتهامات والادعاءات الأميركية بلغة دبلوماسية تسودها الحكمة، فهي تدرك أن الوقت الآن هو للعمل على الخروج من تداعيات الأزمة على اقتصادها واقتصاد العالم الذي يشهد انكماشا خطيراً. إلا أن بكين تدرك أن “العداء تجاهها والذي تقوده الولايات المتحدة يزداد وينذر باحتمال اندلاع حرب بين الصين والولايات المتحدة” قد تغيّر العالم، بحسب ما حذر تقرير من إعداد المعهد الصينية للعلاقات الدولية المعاصرة، وهو مؤسسة فكرية تابعة لوزارة أمن الدولة، أكبر جهاز استخبارات في الصين.
العداء تجاه الصين الذي تقوده الولايات المتحدة يزداد وينذر باحتمال اندلاع حرب بين البلدين
وقال التقرير إن بكين “تحتاج إلى أن تستعد لمواجهة مسلحة بين القوتين العالميتين في أسوأ سيناريو”.
وخلص التقرير الذي قدم في أوائل الشهر الماضي، للرئيس تشي جين بينغ وزعماء آخرين في الحزب الشيوعي الحاكم، إلى أن المشاعر العالمية المناهضة للصين وصلت أعلى مستوياتها منذ حملة ميدان تيانانمين عام 1989.
وكالة “رويترز” رأت أن عرض التقرير يبيّن مدى الجدية التي تتعامل بها بكين مع التهديد برد فعل عنيف يمكن أن يهدد ما تعتبره بكين استثمارات استراتيجية في الخارج ورؤيتها لمكانتها الأمنية.
بدورها صحيفة “إيكونوميست” البريطانية وفي تحليلها للتقرير، رأت أنه “من المرجح أن تكون تايوان بؤرة التوتر الأكبر بين البلدين، إن لم يكن الصراع المسلّح. فواشنطن تدعم محاولة الجزيرة المتمتعة بالحكم الذاتي، الحصول على صفة مراقب في الهيئة المسؤولة عن صنع القرار في منظمة الصحة العالمية. ومن المتوقع إجراء تصويت في وقت لاحق من هذا الشهر”.
ونقلت «إيكونوميست» عن ديفيد أوشمانك، من مؤسسة “راند” التابعة للبنتاغون، أن اكثر ما يخشاه “عند القيام بألعاب حربية بين الصين وأميركا، هو إقدام الصين على غزو تايوان، التي تتولى الولايات المتحدة ضمان أمنها”.
من جهته، أكد مدير مركز العلاقات الأمريكية الصينية في جمعية آسيا، أورفيللي شيل، لـBusiness Insider، “أننا في الأساس في بداية حرب باردة”، مضيفاً “نحن في انحدار نزولي نحو شيء عدائي متزايد مع الصين”.
تؤكد المعطيات أن المرحلة المقبلة بين البلدين ستكون أمام اختبار صعب قد لا يعيد العلاقات بينهما إلى مرحلة من الاستقرار، فالصين فرضت حضورها أكثر فأكثر في بلدان تعتبر في الحضن الأميركي.
وفي هذا الخصوص يرى المدير التنفيذي لمعهد “ميركاتور للدراسات الصينية”، ومقره في برلين، ميكو هووتاري، لـ”فاينانشيال تايمز”، أنه “سيكون من الصعب للغاية ترسيخ العلاقة المتدهورة مرة أخرى. ستبقى المنافسة الاستراتيجية هي النموذج السائد. السؤال هو ما إذا كان يميل نحو العداء الدائم والشامل”.
يلخص تعامل الرئيسين الأميركي والصيني مع أزمة “كورونا” بعضاً من الصورة، ففيما ترامب “المتخبط” و”المتململ” يلوح بكل ما في وسعه أمام بكين، فإن نظيره تشي جين بينغ يراقب بهدوء العدائية الأميركية، ويتابع جهود بلاده في محاصرة الوباء وتقديم العون للدول المحتاجة، وحتى لواشنطن إن احتاجت.
لا شك في أن الولايات المتحدة والرئيس ترامب سيواصلان مهاجمة “العدو” الصيني، وفيما يقول المحللون إن وعيد ترامب مجرد “حرب كلامية” وأن “الطلاق” بين البلدين غير وارد لأن كل طرف منهما بحاجة للآخر، يقول البعض الآخر أن ذروة النزاع السياسي والتجاري والاقتصادي بين البلدين لم يأت بعد، ما يضع العالم بأثره بحالة ترقب لما ستؤول إليه المعركة.