يشرح الكاتب رونين بيرغمان في مقدمة الكتاب أنه في مرحلة البحث عن الوثائق السرية لأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، التي مرّ عليها خمسون عاماً، راوغت هذه الأجهزة ومنعته من الوصول إليها، وعندما لجأ إلى المحكمة الإسرائيلية العليا، فإن هذه الأخيرة، وبضغط مخابراتي، رفعت فترة الحجر على الوثائق إلى سبعين عاماً عبر تعديل قانوني أظهر بشكل فاضح تسخير القضاء لمصلحة قرارات أجهزة الإستخبارات.
يقول الكاتب “لقد ذهبت كل الجهود التي بذلتها لإقناع المؤسسة العسكرية بالتعاون مع الأبحاث التي أجريها هباءً منثوراً، وواجهت كل الطلبات التي تقدمت بها لأجهزة الإستخبارات لتنفيذ القانون الذي يتيح فتح أرشيفها أمام الوثائق التي تجاوز عمرها الخمسين عاماً، آذاناً صماء، وعند اللجوء إلى المحكمة العليا للمطالبة بتنفيذ القانون، جرت المماطلة لسنوات وإنتهت إلى لا شيء سوى تعديل القانون نفسه عبر تمديد فترة الحجر على الوثائق سبعين عاماً، أي أكثر من عمر الدولة نفسها”.
ومع صدور التعديل على القانون، لم تقف المؤسسة العسكرية مكتوفة الأيدي، يضيف الكاتب، بل إنها، وفي العام 2010، وحتى قبل توقيع عقد كتابة الكتاب، عقدت وحدة العمليات في “الموساد” اجتماعاً خاصاً لمناقشة كيفية عرقلة أبحاث بيرغمان، وأرسلت تعميماً إلى كل موظفي “الموساد” السابقين تنذرهم فيه بعدم إجراء اية مقابلات مع الكاتب، لا بل جرى استدعاء بعض الموظفين الذين كان مشكوكاً بأمر إلتزامهم بالتعليمات، وتم التشديد عليهم بضرورة تنفيذ التعليمات. وتوجه رئيس أركان الجيش الإسرائيلي عام 2011 إلى قيادة جهاز الامن الداخلي “الشين بيت” بإتخاذ إجراءات زاجرة بحق مؤلف الكتاب “بزعم أن بحوزته وثائق سرية تشكل تهديداً إستخباراتياً”، ومنذ ذلك الحين، قام العديد من الأجهزة بإتخاذ خطوات عدة لوقف نشر الكتاب أو على الأقل وقف نشر أجزاء منه، يقول الكاتب.
إخفاء هويات المصادر
جرت العادة أن تطلب الرقابة العسكرية من وسائل الإعلام أن تضيف شبه جملة “وفقاً لوسائل نشر أجنبية”، عندما تريد أن تذكر أعمالا سرية منسوبة إلى الإستخبارات الإسرائيلية، وبالتحديد عمليات الاغتيال، بهدف إضعاف مصداقية مصادر المعلومة، وعدم إقرار أجهزة الإستخبارات الإسرائيلية بمسؤوليتها عن تلك الاعمال السرية. ووفقاً لهذه القاعدة فإن هذا الكتاب يجب أن يعتبر “وفقا لوسائل نشر أجنبية” ويعفي الأجهزة الإستخباراتية من أية مسؤولية.
على أي حال، فإن المؤسسة العسكرية الإسرائيلية لم تقر بأي من ألف مقابلة شكّلت الاساس الذي بُني عليه محتوى الكتاب، مع مروحة واسعة من المصادر التي تراوحت بين قادة سياسيين أو مسؤولين في وكالات الإستخبارات أو حتى مع منفذي العمليات أنفسهم. ومع ذلك، فإن معظم المصادر المذكورة في الكتاب معروفة بالاسماء الحقيقية، فيما خشيت مصادر أخرى من كشف هوياتها ووافقت على ذكر الحرف الاول من أسمائها وأسماء عائلاتها.
وحتى يؤكد الكاتب على مصداقية ما يذكره في كتابه، يقول إنه بالاضافة إلى المقابلات المذكورة، “لجأت إلى الآلاف من الوثائق التي زودتني بها مصادري من دون أن تسمح الأجهزة الرسمية بنقلها من المؤسسات، وبطبيعة الحال، من دون أن تسمح بتسليمها لي”. ورداً على السؤال البديهي الذي قد يخطر ببال القارىء عن الاسباب التي دفعت تلك المصادر للكلام وتقديم الوثائق للنشر يقول الكاتب “كل واحد من هذه المصادر له هدفه الخاص وأحياناً عنده قصة غير معلنة، ومن الواضح هنا أن بعض الوثائق وعلى الاقل إثنين من المسؤولين الإستخباراتيين المحترفين في عمليات الخداع وإستخدام الاعلام، كانوا يحاولون إستخدامي لتمرير الجانب الذي يخدمهم. لكن وفي كل مقابلة ومع كل وثيقة إستلمتها، كنت أقاطع المعلومات مع أكثر من مصدر للتأكد من أنني لن أكون فريسة الخداع في ما أكتب”.
ويضيف الكاتب أنه من الأسباب الأخرى لإعطائه هذا العدد الكبير من المقابلات والوثائق “هو ذلك التناقض في المجتمع الإسرائيلي، فمن جهة كل ما له علاقة بالإستخبارات والامن القومي يصنف “سرياً للغاية” ومن جهة ثانية كل شخص يريد أن يتكلم عما فعله، وهي أفعال تعتبر في دول أخرى مدعاة للخجل، لكنها مدعاة للفخر عند الإسرائيليين، فهي برأيهم أعمال ضرورية لحماية الكيان الإسرائيلي نفسه. ومع ذلك، فقد نجحت “الموساد” بالحؤول بيني وبين بعض المصادر (في معظم الاحيان بعد أن أكون قد أجريت معهم مقابلات)”.
مائير داغان القاتل الأسطوري
يحاول بيرغمان من خلال هذا العرض إضفاء أكبر قدر من المصداقية على محتوى كتابه، فينطلق في سرده من أول لقاء في تاريخ الكيان الإسرائيلي يجريه قائد لـ”الموساد” مع الصحافيين. إنه مائير داغان، الذي يصفه الكاتب بـ”الجاسوس والقاتل المحترف الاسطوري”. مكان اللقاء كما يذكر رونين بيرغمان، هو مقر قيادة “الموساد” الحصين في أحد الاحياء في شمال تل أبيب، وزمانه كان في الثامن من كانون الثاني/يناير عام 2011. ويقول نقلاً عن داغان غير المحب للصحافة بشكل عام أنه يعتبر الصحافة “وحشاً لا يشبع” لذلك لا معنى لإقامة علاقات مع الصحافيين. ومع ذلك، “قبل ثلاثة أيام من هذا اللقاء، إستلمت وثلة من المراسلين دعوة سرية أثارت دهشتي، لأني وعلى مدى عقد من الزمن، لم أوفر “الموساد” من النقد في كتاباتي وبصورة خاصة لم أوفر داغان نفسه”.
ولم يتورع داغان عن التوجه مباشرة إلى مدير وكالة الإستخبارات المركزية الاميركية (سي اي ايه) ليون بانيتا من دون إذن نتنياهو ليشرح خطة الاخير لضرب إيران ويحذر من عواقبها، ما أدى إلى قيام الرئيس الاميركي باراك أوباما بتوجيه تحذير شديد اللهجة لنتنياهو لوقف خطته
لقد عمل “الموساد” كل ما يمكن من أجل إضفاء أقصى درجات الرهبة على اللقاء، فقد طُلب من الصحافيين ركن سياراتهم في موقف سيارات غير بعيد عن مقر قيادة “الموساد”، وأن يتركوا كل ما بحوزتهم في سياراتهم، باستثناء دفاتر الملاحظات والأقلام… “ومن هناك، جرى نقلنا في حافلة تمت تغطية نوافذها بستائر سوداء. مررنا خلال الرحلة بالعديد من البوابات واللوحات الالكترونية التي توضح ما هو المسموح به وما هو الممنوع داخل حرم المقر، ومن ثم مررنا تحت حواجز الكترونية تكشف على المعادن قبل أن ندخل إلى غرفة الاجتماع مع داغان حيث إنتظرناه بضع دقائق قبل أن يدخل”، يروي الكاتب.
“لم يكن داغان وحيداً عندما دخل الغرفة، بل رافقه الناطق باسم رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ورئيس شعبة المراقبة الاعلامية العسكرية، وهذه كانت امرأة برتبة عميد. وللتوضيح فإن “الموساد” وحدة عسكرية تتبع مباشرة لمكتب رئيس الوزراء، وبحسب القانون، فإن أي تقرير عن أي من أعمالها “يخضع مباشرة للرقابة الاعلامية العسكرية” يقول بيرغمان.
ويضيف الكاتب “ما قاله داغان فاجأ مرافقيْه اللذين كانا يعتقدان أنه دعا إلى هذا الاجتماع كنوع من حفل وداع قبيل تركه مهامه، لأن هذا الاجتماع كان قبل يوم واحد من تقاعده، ولكن مع بدء كلامه وإسترساله، كانت حدقات عيون مرافقيْه تتسع من الدهشة فيما هو يواصل الكلام غير آبه بهما. إذ قال “إن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يتصرف بعدم مسؤولية ولأسباب أنانية بحتة وهو يقود البلاد إلى كارثة”.
تصفية علماء نويين إيرانيين
يعود بيرغمان بالتاريخ ثماني سنوات قبل الاجتماع المذكور، فيقول إن رئيس الحكومة حينها أرييل شارون كان قد عين داغان رئيساً لـ”الموساد” حتى يكون مسؤولاً عن ضرب مشروع إيران في الحصول على السلاح النووي، وهو المشروع الذي كان يعتبره الرجلان تهديداً وجودياً لإسرائيل. ويرى الكاتب أن داغان إختار الطريقة الاصعب ولكن الاكثر تأثيراً لتنفيذ المهمة الموكلة اليه. فقد كان يعتقد أن تحديد العلماء النوويين وعلماء الصواريخ الايرانيين وتحديد أمكنة إقامتهم وحركتهم ومن ثم قتلهم هي الطريقة الأفعل لضرب المشروع النووي الايراني. وقد حدد جهاز “الموساد” خمسة عشر عالماً وتمكنت من تصفية ستة منهم بعمليات أحادية، من خلال إستهدافهم الواحد تلو الآخر، عندما يكونون في طريقهم الى عملهم، حيث يقوم سائق دراجة نارية بلصق عبوة ناسفة بسياراتهم قبل وقت قصير من التفجير. كما تم اغتيال قائد في الحرس الثوري الايراني كان مسؤولاً عن مشروع الصواريخ البالستية الايرانية بتفجير عبوة كبيرة في مكتبه حيث قتل مع سبعة عشر من رجاله.
يقول الكاتب إن هذه العمليات وأخرى مماثلة نفذها “الموساد”، والبعض منها بتنسيق كامل مع الولايات المتحدة الاميركية، كانت ناجحة للغاية، لكنها لم تكن كافية لرئيس الوزراء نتنياهو ووزير دفاعه إيهود باراك، اللذين بدءا يشعران أن الحاجة لهما بدأت تتراجع، فقررا أن هذه العمليات لم تعد فعالة في تأخير المشروع النووي الايراني وأن القصف الجوي العنيف والواسع للمنشآت النووية الايرانية من شأنه منع إيران من حيازة سلاح نووي. هذا الامر عارضه داغان بشدة لأنه كان على قناعة بأن اللجوء إلى خيار الحرب المفتوحة يتم فقط عندما “يصبح حد السيف على الحنجرة” أو كخيار أخير لا بديل له.
وينقل الكاتب عن داغان قوله “إن الاغتيال له تأثير كبير على المعنويات كما له تأثير فعلي مادي مباشر، فلا أعتقد أنه كان هناك العديد من الاشخاص الذين كان بإمكانهم الحلول مكان نابوليون او روزفلت او ونستون تشرشل، فالعامل الفردي يلعب دورا أساسياً، واذا كان صحيحاً القول ليس من شخص لا يمكن إستبداله ولكن الفرق شاسع بين إستبدال شخص قوي وحيوي بشخص لا حياة في شخصيته”.
إقتل السائق
ووفق نظرية داغان، فإن الاغتيال هو بشكل أساسي أمر معنوي أفضل من خوض حرب كبيرة، فتصفية عدد من الشخصيات يكون كافياً لتفادي خيارات أخرى غير ضرورية وينقذ حياة عدد لا يحصى من الجنود والمدنيين على طرفي الصراع. ويضيف أن حرباً واسعة النطاق ضد ايران يمكن أن تؤدي إلى صراع واسع المدى في الشرق الاوسط وقد لا تتسبب بالضرر المطلوب للمشروع النووي الايراني. ويختم داغان أن شنّ إسرائيل الحرب على ايران سيشكل إدانة لكل مهنته وسيذكر التاريخ أنه لم ينفذ المهمة التي أوكلها اليه شارون لوضع حد لطموحات إيران النووية عبر العمليات السرية بدل خوض هجوم معلن. ولمزيد من شرح نظريته الداعمة للاغتيال بدل الحرب يقول داغان “في بعض الاحيان، يكون أكثر فعالية أن تقتل السائق، وهذا يكون كل شيء”.
يقول الكاتب إن معارضة داغان إلى جانب ضغوط كبيرة من كبار مسؤولي الإستخبارات دفعت إلى تأجيل الضربات الجوية على إيران عدة مرات. ولم يتورع داغان عن التوجه مباشرة إلى مدير وكالة الإستخبارات المركزية الاميركية (سي اي ايه) ليون بانيتا من دون إذن نتنياهو ليشرح خطة الاخير لضرب إيران ويحذر من عواقبها، ما أدى إلى قيام الرئيس الاميركي باراك أوباما بتوجيه تحذير شديد اللهجة لنتنياهو لوقف خطته. وقد أدى ذلك إلى ارتفاع نسبة التوتر بين داغان ونتنياهو، لكن هذا التوتر إزدادت وتيرته مع عملية الاغتيال ضد احد قادة حركة “حماس” الذي كان في زيارة إلى دبي، وقد نفذت العملية مجموعة مؤلفة من 27 عنصراً من “الموساد”..
في الحلقة المقبلة من هذه السلسلة، يروي رونين بيرغمان تفاصيل عملية إغتيال محمود المبحوح في دبي.
(*) صحافي وكاتب لبناني