سواء كان الجواب هذا أو ذاك، فإنه يتقاطع عند حقيقة أنه ليس انتصاراً أياً كان، صدفةً أم اغتيالاً، من خلال وجهتي نظر تتنازعان الحقيقة في هذا الإطار:
– الأولى تضع الحدث في صدفته العملياتية، خصوصاً إذا تأكدت السردية الإسرائيلية بأن العملية عشوائية وليست بناءً على معلومات استخباراتية مسبقة (أميركية أو إسرائيلية)، وأن قوة إسرائيلية (ليست من قوات النخبة أو القوات الخاصة)، رصدت ثلاثة عناصر من “كتائب القسام” داخل مبنى في تل السلطان برفح وخاضت معهم مواجهة كان السنوار أحد المشاركين فيها، لتظهيره بأنه “اغتيال بالصدفة” لكن أياً يكن الظرف، فإن النتيجة لن توقف الحرب، ولن تعيد الأسرى، ولن تقضي على حركة حماس، وهذا إن صح يشي بفشلٍ استخباراتي وليس العكس؛ فشل يُجهض “الإنجاز” من مفاعيله برغم قساوته، ويفرغ الاغتيال من بطوليته، لا بل يُتوّجُ السنوار بطلاً للقضية ظلّ يقاتل حتى الرمق الأخير؛ هو الرجل الذي خطّط وقاد “طوفان الأقصى” وصمد في أنفاق غزة وأزقتها مع مقاوميها عاماً ونيف، واستشهد وهو يقاوم حتى آخر رصاصة وآخر نفَس وآخر نقطة دم، ولم يكن يختبئ ويحتمي بأسرى الإحتلال تاركاً شعبه يُقتل، كما كان يحاول العدو تشويه صورته، وهذا ما سيجعله أيقونة فلسطينية تاريخية بكل معنى الفرادة كونه بـ”طوفانه” أسّس لمواجهة وجودية مع كيانٍ مؤقت، سيحين موعد أفوله، عاجلاً أم آجلاً ولو بعد حين.
– الثانية تربطها بلحظة تقاطعاتها المعلوماتية الاستخباراتية، متى توفّرت عناصرها واكتملت صورتها تحوّلت إلى فرصة لإلغاء التهديد وتربط الاغتيال بالقرار السياسي واللحظة السياسية المؤاتية، إسرائيلياً وإقليمياً وعالمياً، وإن كان الإجرام الإسرائيلي لا ينتظر ولا يُراعي شيئاً من ذلك كله، حتى لو أدى اصرار نتنياهو على اللعب بالنار إلى إشعال المنطقة وإحراقها ضماناً لمستقبله السياسي، وهذه الاحتمالية لها حساباتها الآتية:
-الأول أن يكون قرار تصفية السنوار اتخذ للتغطية على الفشل الإسرائيلي في تحقيق الأهداف الثلاثة المعلنة في غزة طيلة عام، وهي القضاء على حماس، واسترجاع الأسرى لديها، ومنع تكرار “طوفان الأقصى”، وبهذا تُمسي جريمة الاغتيال ضرورة تمهيدية لاستكمال الهدف الرابع والأساس وهو مخطط تفريغ غزة وتنفيذ “خطة الجنرالات” التي وضعها رئيس مجلس الأمن القومي السابق غيورا ايلاند والقائمة على مرحلتين أولاهما إخلاء شمال القطاع نهائياً من أي فلسطيني مع اعتبار أي مدني “هدفاً مشروعاً؛ وثانيهما إعلان الشمال منطقة عسكرية، وهو التعبير المقنَّع لمعنى “منطقة احتلال”، على أن يليها التفرغ لوسط القطاع وجنوبه عبر دفع من تبقى من مئات آلاف النازحين الفلسطينيين نحو صحراء سيناء.
-الثاني أن يكون نتنياهو الباحث عن إنجاز ما، في أي ساحة من ساحات المواجهة، أعاد الالتفات إلى غزة ولو مؤقتاً لتحقيق صورة نصر أمني تغطي على فشله الذريع في تحقيق أي من أهدافه المعلنة في لبنان ليستثمر في المخيال الإسرائيلي إعلان إنهاء الحرب بطريقة غير رسمية والتسويق لفكرة أنه بقتله السنوار قد حقّق هدف القضاء على حماس وأنه إحتل القطاع ولم يبقَ إلا استعادة الأسرى، وتلك هي المعضلة بوجود السنوار أو من دونه، والتي لن يستطيع نتنياهو توظيف استشهاد السنوار فيها بل ستفاقم معاناته مع ذوي الأسرى، وقد يُقرّبه استشهاد السنوار من مواجهتهم، استناداً إلى اتهامه للأخير بأنه المسؤول عن تعقيد تسوية اطلاق سراحهم، وقد يزيدها الاستشهاد تعقيداً لأنه سيكشف أن نتنياهو هو العقبة وليس السنوار، وهذا ما سيفضح حفلة النفاق الأميركي التي جعلت البيت الأبيض يُفاخر جهاراً بحصته المعلوماتية في قتل السنوار بما ينسف السردية الإسرائيلية بأن العمل حصل بالصدفة ويُسقط الأكذوبة الأميركية بأن ذلك سينهي الحرب وسيُعجّل بإطلاق الأسرى، وهو ما ستتكشف حقيقته في المرحلة المقبلة.
ليس السنوار أول قائد يستشهد في حماس ولن يكون الأخير، فقد سبقه قبل 20 عاماً مؤسسها الشيخ أحمد ياسين وقبله يحيى عيّاش وتبعهما آخرون وصولاً إلى إسماعيل هنية في 31 تموز/يوليو الماضي؛ اغتيالات نقلت حماس من حال الحركة الجهادية إلى حال الحركة الاستشهادية وعمّدتها بدم قادتها وجعلتها أكبر وأقوى وأوسع وأكثر حضوراً شعبياً
وبين هذا وذاك، هل يواصل نتنياهو القفز فوق أشجار الغابة، متنقلاً من شجرة فلسطينية عالية إلى شجرة لبنانية أعلى، كما يفعل منذ سنة؟ ومن وماذا ينزله عن هذه أو تلك من الشجرات؟
سيواصل نتنياهو القفز فوق الأشجار بحثاً عن صيدٍ هنا وصيد هناك، ولكنه لن ينجح في اصطياد كل الطيور والنسور والصقور، وسيحتاج في النهاية إلى من يُنزله عن الشجرة إما في فلسطين أو في لبنان، هذا إذا وجد السلم المناسب، وسينتهي نتنياهو من سياسة القتل للقتل، لكنه لن يستطيع أن يقتل شعباً، وقد يحتل غزة ردحاُ من الزمن لكنه سيعود ليخرج منها، كما خرج منها أول مرة قبل نحو عشرين عاماً، ويسري ذلك على جنوب لبنان الذي احتله جيشه منذ العام 1978 حتى العام 2000، وخرج منه مذلولاً وبلا قيد أو شرط.
قد يكون نتنياهو أضاف إلى سجله في القتل رقماً جديداً، وقد يكون استشهاد يحيى السنوار حلقة من مسلسل تصفية رموز وقادة محور المقاومة في المنطقة، لكن “الحرب لم تنته”، بقتله، كما قال نتنياهو نفسه بعد استشهاد السنوار، على قاعدة استحضاره من تلموده “سأقضي على أعدائي ولا أعود حتى انتصر” في “حرب الاستقلال الثانية” و”حرب القيامة”، وهي عبارات يتعمد إسقاطها على حربه لإعطائها بُعداً دينياً قومياً من أجل كيّ الذاكرة الجمعية الإسرائيلية، وتحديداً كابوس ليلة “طوفان الأقصى” منها، وشبح السنوار الذي سيظل يقض مضاجع مستوطني “غلاف غزة” والكيان كله ولن يمحوه قتله، حتى لو أراده “قتْلَ صدفة” وإذا كان كذلك، فإنه ليس من الصدفة بمكان تزامن استشهاده في رفح مع عملية نوعية للمقاومة في رفح نفسها، لذلك فإن اغتياله لن يكون مفخرة للجيش الإسرائيلي المدجج بأعتى أنواع تكنولوجيا التجسس الأميركية والغربية، بعد أكثر من عام من البحث عنه فوق الأرض وتحتها في قطاع من الأرض لا يتعدى 365 كلم2، فكيف إذا ترك وراءه آلاف المقاومين من حماس والجهاد الإسلامي وباقي فصائل المقاومة؛ استشهد وهو يقاتل كأي واحد منهم؟ وكيف إذا ترك أنفاقاً بطول مئات الكيلومترات لم يصل الاحتلال إلى معظمها على مدى سنة كاملة؟
ليس يحيى السنوار أول قائد يستشهد في حماس ولن يكون الأخير، فقد سبقه قبل 20 عاماً مؤسسها الشيخ أحمد ياسين وقبله يحيى عيّاش وتبعهما آخرون وصولاً إلى إسماعيل هنية في 31 تموز/يوليو الماضي؛ اغتيالات نقلت حماس من حال الحركة الجهادية إلى حال الحركة الاستشهادية وعمّدتها بدم قادتها وجعلتها أكبر وأقوى وأوسع وأكثر حضوراً شعبياً. كما هو حال المقاومة في لبنان، حيث حزب المقاومة أمينه العام الثاني يستشهدُ.
بعد متفجرة بئر العبد في الضاحية الجنوبية لبيروت في العام 1985، التي استهدفته، خرج المرجع السيد محمد حسين فضل الله (قده) ليقول: “ليس المهم بطل الخطّ، فالبطل قد يموت، لكن المهم خط البطل، فتمسكوا بالخط، وإن مات البطل”.