نظرياً، يمكن القول إن الحكومة سقطت لحظة تصويت الأكثرية الوزارية على هذه الضريبة، حتى لو لم توضع موضع التنفيذ لأسباب قانونية.
عملياً، لولا كورونا، لكان مشهد الساحات قد تجدّد في كل لبنان، ولكانت الحكومة ومعظم الوزراء بمثابة لاجئين مختبئين حالياً في السراي الكبير.
نظرياً، بمجرد أن أعادت الحكومة النظر بخطة الكهرباء، لمصلحة إعادة تعويم مشروع معمل سلعاتا، ولو بأفق زمني متعدد الإحتمالات، وبمجرد أن قررت تجاهل تشكيل الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء، في ضوء ما تبلغته من موقف عوني حاسم برفض تعيينها قبل إعادة تعديل قانون إنشائها، لمصلحة إفراغ الهيئة من مضمونها كلياً، يمكن القول إن الحكومة سقطت في أول إمتحان “إصلاحي”.
عملياً، لولا الشكليات، لكان صندوق النقد الدولي قد سارع لإبلاغ الحكومة اللبنانية منذ نهاية الشهر الماضي قراره القاضي بتحريرها من موجبات الصندوق وبرنامجه وبالتالي دعوتها إلى البحث عن بدائل غير موجودة في حساباتها.
يكفي إيراد هذين النموذجين (سلعاتا والهيئة الناظمة) لطرح سؤال ساذج: هل هناك عاقل في الجمهورية اللبنانية لديه أدنى شك بأن مجتمع الدول المانحة، لن يقدم قرشاً واحداً للبنان من دون إصلاح قطاع الكهرباء، الذي كبّد ـ وما يزال ـ الخزينة أكثر من ثلث الدين العام بالعملات الصعبة؟ وهل يغفل عن بال أي وزير في هذه الحكومة، أن أموال سيدر وصندوق النقد والبنك الدولي وغيرها من المؤسسات والصناديق، لن تأتي إلى لبنان، قبل التراجع عن مشروع سلعاتا، ويمكن، لمن يشاء، أن يطلب مراجعة محاضر إجتماع المسؤول الفرنسي بيار دوكان (المفوض بمتابعة مقررات مؤتمر سيدر) بوزير الخارجية ناصيف حتي الذي قرر، منذ وصوله إلى الوزارة، بلع لسانه، لعله يكون فلتة الشوط الرئاسية في العام 2022…
لقد تعهد الفرنسيون أمام حتي ببذل جهد مع صندوق النقد حتى “يكون أكثر سلاسةً مع الحكومة اللبنانية”، قبيل بدء المفاوضات، لكنهم إشترطوا “عناصر إصلاحية”، لم تنفذ الحكومة منها شيئاً حتى الآن، لا بل حصل العكس، لا سيما في حالتي سلعاتا والهيئة الناظمة للكهرباء، فكيف بالتعيينات الإدارية والمالية التي ستقرها الحكومة غداً (الأربعاء)، بما ستحمله في طياتها من إشارة بالغة السلبية، على صعيد المحاصصة وعدم إعتماد معيار الكفاءة؟
الإنطباع السائد هو أن الحكومة غير قادرة على “سرقة” فكرة إصلاحية واحدة، برغم “حشرتها” الإقتصادية والمالية الشديدة، وحاجتها لأموال خارجية لن تأتي إلا عن طريق ممر صندوق النقد الإلزامي، سواء بما كان يمكن أن يقدمه الصندوق نفسه، وكان مُقدراً أن يكون هزيلاً، أو حتى من جهات أخرى، قالتها بالفم الملآن للبنان: لن نعطيكم قرشاً قبل إنضمامكم إلى برنامج صندوق النقد.
قُضي الأمر. لا نتيجة متوخاة من المفاوضات مع صندوق النقد، سوى تشغيل عدّاد الأموال المصروفة شهرياً، مما تبقى من عملات صعبة، في مصرف لبنان المركزي، والمقدر أنها لن تجعل لبنان يصمد أكثر من خريف العام 2021.
ثمة قناعة عند معظم الوزراء بأن هذه الحكومة الأميركية بإمتياز، هي حكومة صندوق النقد، وعندما يفشل هذا الخيار، يكون مطلوباً منها أن تذهب إلى البيت، لكن لا يبدو أن أحداً من خصومها ـ قبل مكوناتها ـ يستعجل رحيلها، طالما أن بديلها غير متوفر!
ماذا بعد؟
عملياً، نحن نشهد عملية تضييع للوقت، يتخللها حقن الرأي العام بمهدئات وأوهام وآمال ستوصل البلاد إلى أوضاع أكثر صعوبة من التي نشهدها حالياً. إذا كان هذا المشهد موجوداً في أذهان كثيرين، فما الذي يبقي حكومة، يريد الجميع رأسها بإستثناء حزب الله، على قيد الحياة؟
ثمة قناعة عند معظم الوزراء بأن هذه الحكومة الأميركية بإمتياز، هي حكومة صندوق النقد، وعندما يفشل هذا الخيار، يكون مطلوباً منها أن تذهب إلى البيت، لكن لا يبدو أن أحداً من خصومها ـ قبل مكوناتها ـ يستعجل رحيلها، طالما أن بديلها غير متوفر!
ليس خافياً أن سعد الحريري لامَ المعاونين السياسيين للرئيس نبيه بري (علي حسن خليل) وللأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله (الحاج حسين الخليل)، عندما قاربت حكومة دياب موضوع صندوق النقد بإيجابية، بينما كان حزب الله قد أقفل هذا الباب على حكومة الحريري نفسه، قبل أن يقدّم إستقالته في نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2019، فما الذي يمكن أن يجعل سعد الحريري متحمساً للعودة إلى السراي الكبير الآن؟
لا شيء أبداً.
يدرك سعد الحريري أنه سيتعثر، وهو في طريقه إلى السراي الكبير بلغمين كبيرين: وراثة الفشل الحتمي مع صندوق النقد، وهو يعني أن كرة النار المالية والإجتماعية ستجعل البلد ملتهباً، بعد فترة وجيزة، وستكون كفيلة بإحراق رصيد أي رئيس للحكومة يتجرأ على قبول المهمة من بعد حكومة حسان دياب.
أما اللغم الثاني، وهو الأساس، فيتمثل في مدى إستعداد الحريري لتجديد التسوية الرئاسية، لكن هذه المرة بشروط جديدة، بحيث سيكون ممرها الإلزامي، من وجهة نظر العهد، إلتزام رئيس تيار المستقبل بخارطة طريق إلزامية تكفل تأييده وصول جبران باسيل إلى سدة رئاسة الجمهورية في العام 2022.
من وجهة نظر الحريري، وقبل أن نتحدث عن أولياء الأمر السعوديين والإماراتيين، لن يكون مقبولاً تجديد أصل التسوية الرئاسية مع عون ولا عودة جبران باسيل إلى أية حكومة برئاسة الحريري، فكيف سيتعامل هؤلاء أو الحريري نفسه مع أي مسار يوصل باسيل إلى رئاسة الجمهورية. الخلاصة هنا أنه طالما ميشال عون رئيساً للجمهورية، لن تكون هناك فرصة حد أدنى أمام الحريري للعودة إلى السراي الكبير.
هل يملك الحريري حق تسمية مرشح آخر؟
لن يعطي العهد هذا الحق لسعد الحريري. أي أنه لن يكرر ما حصل بعد إستقالة الحكومة السابقة. تم حرق أسماء محمد الصفدي وبهيج طبارة وسمير الخطيب، قبل أن يوافق الحريري على إسم حسان دياب، ولو أنه طلب تفهم امتناعه عن تسمية دياب متعهداً بتسهيل وصوله الى السراي الكبير.
الحكومة مرشحة للدخول منذ يوم الأربعاء في العاشر من حزيران/يونيو، في حالة موت سريري غير معلنة. معها، تكون الحكومة باقية وتجتمع وتتخذ قرارات وتصرف الأعمال، فقط لأن بديلها غير متوفر
هل هناك حسان دياب آخر؟
حتى الآن لا وجود لحسان دياب آخر.
إذا أقرت الحكومة التعيينات غداً (الأربعاء)، سواء بقوة دفع ذاتية، أو بتشجيع دولي، لن يكون مستبعداً خيار الكمين المنصوب للحكومة نفسها، عبر إستدراجها إلى خيار ما، قد يفقد حسان دياب الحد الأدنى من المظلة الدولية التي يسعى إلى تثبيتها منذ اليوم الأول لتسميته رئيساً للحكومة.
معنى ذلك أن الحكومة مرشحة للدخول منذ يوم الأربعاء في العاشر من حزيران/يونيو، في حالة موت سريري غير معلنة. معها، تكون الحكومة باقية وتجتمع وتتخذ قرارات وتصرف الأعمال، فقط لأن بديلها غير متوفر.
ماذا إذا توفر البديل؟
هذه نقطة حيوية جداً، كونها تشكل حاجة للجميع لا سيما لجبران باسيل الذي لا يعوّضه شيء حالياً إلا عودته سياسياً إلى الحكومة، وكذلك الأمر عند الرئيس بري الذي لا يتردد في القول أمام زواره إن تجربة حكومة التكنوقراط الحالية لا تشجع على تكرارها مستقبلاً، وكذلك الحال عند حزب الله الذي إزدادت قناعته بأهمية الحكومات السياسية أو التكنوسياسية بالحد الأدنى، في ضوء تجربة هذه الحكومة، بمعزل عن التباهي الدائم بتعاملها مع ملف كورونا، وهو الإنجاز اليتيم لها ولوزير الصحة فيها حمد حسن.
في هذا السياق، يقول مرجع لبناني واسع الإطلاع إنه في لحظات الأزمات السياسية الكبرى في لبنان والمنطقة، لا بد من حكومة طوارىء سياسية بإمتياز، فكيف ونحن نمر في لحظة مأزومة محلياً وعلى عتبة قرار إسرائيلي بضم الغور والضفة في مطلع تموز/يوليو المقبل، برغم كل النصائح الأميركية والغربية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بتأجيل هذه الخطوة؟
الخطر، لا بل كل الخطر، وهذه النقطة تحديداً، أشار إليها وليد جنبلاط، أن يكون لبنان هو الساحة المطلوبة للتعمية عما يجري في المنطقة، ولذلك، صارح كلاً من بري وسعد الحريري وقيادة حزب الله (من خلال اللواء عباس إبراهيم) بأن المطلوب ألاّ نجعل أرض لبنان خصبة لأي فتنة داخلية. التحصين المطلوب لا يقود من وجهة نظر جنبلاط إلى حكومة جديدة، لم تنضج ظروف ولادتها، بل بمنع تكرار ما حصل على الأرض في السادس من حزيران/يونيو.
هل نشهد نضوجاً سياسياً عند اللاعبين المحليين الوازنين، يحول دون تسلل بعض الساعين إلى إشعال فتيل الفتنة السنية الشيعية لإيجاد مساحة لهم في الأمن والسياسة والإعلام، وإلا ما كان يمكن لأحد أن يشعر بهم على الأرض؟
قد يتوفر النضوج السياسي في مطارح سياسية، لكنه لم ولن يكون موجوداً في حكومة تفتقد للعقل والتعقل السياسي. هل ناقشت هذه الحكومة مثلاً قضية مثل ضم الضفة والغور؟ هل ناقشت قانون قيصر وتداعياته السورية وكيف سيتصرف لبنان إذا إضطر إلى إستقبال موجات جديدة من اللجوء في ضوء ما يمكن أن تشهده الساحة السورية من خضات سياسية وأمنية وإجتماعية؟ هل ناقشت ما بعد كورونا سياسيا وإقتصاديا؟ هل تملك فكرة عما يجري في الشرق والغرب والجنوب الليبي؟ وأية تداعيات للصراع الدولي في ليبيا، على مستقبل الغاز والطاقة في شرق المتوسط؟
هذه الحكومة تعرف فقط أنها باقية بقوة الفراغ الذي تمثله وبغياب البديل الحقيقي.
لننتظر ما سيحمله تموز/يوليو 2020 من إحتمالات إنتفاضة فلسطينية جديدة ومن قلاقل أردنية وسورية.. وحرائق لبنانية كبيرة. أما العراق، فتسري عليه معادلة “كش ملك”.