أذكر أني كُلفت، مع زملاء آخرين من هيئة تحرير الجريدة، بتلقي المكالمات الهاتفية من المدن والأقاليم لتتبع نتائج الإضراب الوطني العام، الذي دعت إليه المركزية النقابية الكونفدرالية الديمقراطية للشغل (بعد عامين على تأسيسها) على إثر الزيادة في أسعار خمس مواد أساسية للكادحين: الدقيق 40%، السكر 50%، الزيت 28%، الحليب 14%، والزبدة 76%، مباشرة بعد زيادات أخرى سجلت في العامين 1979 و1980.
حوالي منتصف النهار اتصل في الهاتف من باريس المناضل المنفي وقتئذ، الاتحادي محمد آيت قدور (المتورط في محاولة الانقلاب الثانية 16 آب/أغسطس 1972) يسأل عن تطورات الأوضاع. نقلت إليه الأرقام المتوفرة لي، وهي أرقام تدل على نجاح الإضراب نجاحا باهرا، فالحركة الاقتصادية في الدار البيضاء شلت بأكملها، وتوقفت وسائل النقل عن الحركة، كما توقفت الآلات في المعامل عن الدوران.
بمجرد توصله بالنتائج، دخل أيت قدور إلى استوديو الإذاعة الفرنسية الدولية “فرانس أنتير” ليدلي بتصريح ثوري شديد اللهجة، مباشرة على أمواج الأثير. ومن سمعه يومئذ قد يظن أن النظام على شفا السقوط. وكانت “فرانس أنتير”، قبل ظهور القنوات الفضائية المتلفزة، تُتابِع بجدية ومهنية عالية تطورات الأوضاع السياسية في المغرب العربي، وكانت تتمتع بنسبة كبيرة من المستمعين والمتتبعين الفرانكفونيين.
كان باقي أعضاء هيئة التحرير الصغيرة قد توزعوا على أحياء المدينة العمالية الكبيرة لتغطية الحدث مباشرة.
في حدود الواحدة ونصف، وصل الى مقر الجريدة رجل ثلاثيني، أسمر اللون، طويل القامة، ضعيف البنية، شارد النظرات. تحلقنا حوله في مكتب رئيس التحرير، المرحوم مصطفى القرشاوي، ولم يكن المناضل القرشاوي حاضرا بيننا. (سيعتقل في ساعة متأخرة من مساء اليوم نفسه). بدأ الرجل يحدثنا عن قتل امرأة في درب الكبير برصاص العسكر. قال لنا إن العسكر هاجموا المتظاهرين العزل وأطلقوا عليهم الرصاص الحي. حين لاحظ خالد اعليوة، وكان مسؤولا وقتئذ في الجريدة، أن “الصندالة البلاستيكية” للرجل عليها قطرات دم، سأله: من أين هذا الدم؟ رد الرجل بهدوء غريب:
-إنه دم المرأة التي أحدثكم عنها، وكنت أجرّ جثتها من الزنقة إلى داخل الدار.
ثم سأله أحدنا عن صلته بالقتيلة، فرد ببرودة صادمة:
-إنها زوجتي، وقد تركت لي يتامى…
لن أحدثكم عن الصدمة التي أصابت كل واحد منا. أما أنا فقد تسارعت دقات قلبي وارتفع منسوب هرمون الأدرينالين في جسمي. بحثت عن وسيلة نقل لأخرج إلى الشوارع الدامية وأعاين ما يحدث مباشرة. هكذا أرجعت الزميل والصديق الشاعر أحمد صبري من باب الجريدة وتُهنا معا، بسيارته الشهيرة “الكوكسنيل” فولسفاغن خضراء اللون، في شوارع درب السلطان وساحة السراغنة وشارع طريق مديونة، والمعاريف ودرب غلف، وهي المناطق التي شهدت وقائع انطلاق أولى الرصاصات وسقوط القتلى الأوائل..
في شارع طريق مديونة نزلت وتحدثت مع الشباب الثوار. ارتاب بعضهم في أمرنا، لكنهم لما علموا أننا من جريدة “المحرر” عانقونا ورحبوا بنا.
في شارع فكتور هوغو، على مقربة من القصر الملكي في الأحباس، لاحظ صديقي أحمد صبري أن سيارة قاتمة اللون تلاحقنا. وكان البوليس قد لجأ إلى استعمال سيارات المصالح العمومية للتمويه، كسيارات وكالة توزيع الماء والكهرباء وسيارات شركة التبغ، بل حتى سيارات الإسعاف ونقل الأموات. قاد صبري السيارة بسرعة فائقة ومهارة عالية، لنفلت من الملاحقة، وكان يخرق إشارات الضوء الحمراء وعلامات منع المرور.
لما وصلنا إلى درب غلف، وجدنا كتائب من الجيش مستنفرة شاهرة بنادقها، تطوق الحي من كل أطرافه، من شارع عبد المومن وزنقة سمية وشارع 9 أبريل وشارع جورج صاند، المحاذي لأشهر جوطية في المغرب. وبعد دقائق كان قرار الاقتحام.
كان الشباب هائجين، بعضهم كتب لافتات فيها شعارات حمقاء، تجمع ما بين الحرّية والخبز وتأييد البوليساريو. طفلة ذات 12 سنة كانت تجلب الماء من السقاية العمومية لم تشفع لها طفولتها ولا براءتها ليتفاداها رصاص العسكر. كما اقتحمت عناصر الجيش بعض البيوت، مطاردة الشباب. في الزنقة 78، مثلا، دخلوا دارا فوجدوا شابة حاولوا الاعتداء عليها ولم ينتبهوا لوجود شقيقها. ولما قام هذا الأخير محتجا رموه في الشارع بعنف قبل أن يغادروا.
في زنقة لا كروا طاردوا شقيق أحمد صبري داخل بيتهم، لكن تكوم نساء الدار حوله وصراخهنّ أفلته منهم. وظل الجدار الخارجي لبيت صبري، وبيوت أخرى، لزمن طويل، يحمل ثقوب الرصاص الذي أفرغه العسكر.
في الغد توجهت مبكرا إلى مقر الجريدة، المحاذي للباطوار القديم. كانت الشوارع فارغة إلا من قلة من المارة وبعض السيارات، كان هناك قرار غير معلن بحظر التجول.
عندما دخلت مكاتب الجريدة وجدت رجال البوليس السري في الانتظار. استولوا على جميع التقارير والمقالات والصور التي كانت معدّة للنشر. طلبوا مني هويتي والبطاقة المهنية. تردد رجل البوليس قليلا قبل أن يأمرني بإخلاء المكان فورا والعودة من حيث أتيت، لعله تعاطف مع مظهري البريء وصغر سني.
لما وصلت البيت أخبروني بأن أحدهم لا يعرفونه سأل عني. توجست من أن يكون السائل من البوليس، فاضطررت إلى الاختباء فترة حتى تهدأ الأوضاع، في شقة أمّنها لي الصديق المناضل محمد السرادني، وهي تعود لأحد أقاربه في حي بوسيجور.
بعد ذلك، سأستدعى إلى كوميسارية المعاريف المركزية، مع بضعة أعضاء من هيئة تحرير “المحرر”، سيطلبون مني أن أزودهم بمعلومات تخصني. كان من يسألني كوميسير بدين، أسمر البشرة، بشعر أسود داكن وشفتين غليظتين، يشبه الباكستانيين، ويسمى “بنعجيبة”، بجنبه وقف مساعده، الذي كان يأمرني برفع صوتي عند الإجابة، سأفهم أن بنعجيبة كان أصمّ لا يسمع، وقيل لي لاحقا إنه كان جلادا لا يرحم. طلبوا مني إحضار صورة شخصية، أو يتولون هم التقاطها لي بإنزالي إلى القبو. قبلوا أن آتيهم بها. لما تسلموها مني وضعوها مكان صورة لي باهتة التقطت لمناسبة عودة عبد الرحمان اليوسفي من المنفى في العام 1980، كانت قد نُشرت في إحدى صفحات جريدة “المحرر” ضمن تغطية صحافية جمعت رئيس صحيفة “التحرير” والعاملين في “المحرر”. لاحظت أن لديهم ملفات تخص العاملين في هيئة الجريدة.
مما أذكره أن الجلاد بنعجيبة سألني عن الدفالي والكص. أجبت بأني لا أعرف صاحبَي هذين الاسمين، فاستغرب وكذبني.
-لا يمكن، أنت كاذب، هما صديقان لك لا تفارقهما حتى خارج العمل، وتكونون غالبا في ساحة “مرس السلطان”.
وكان يقصد الصديقين الصحافيين حسن عمر العلوي (فريموس) وإدريس الخوري. ولم أكن وقتئذ أعرف اسميهما الحقيقيين.
تم تسجيل حالات اعتقال العديد من شباب الأحياء الشعبية في المدينة، بطريقة عشوائية. وبعد يومين من نهار الإضراب جاءت الشرطة وجمعت الجالسين في المقاهي. ساقت الجميع إلى مراكز اعتقال متفرقة، منها مركز اعتقال في منطقة عين حرودة، وهنالك سيلقى جل الشباب المعتقلين حتفهم، جراء الاختناق الناجم عن الاكتظاظ. والباقي سيساقون إلى السجون، بعد محاكمات سريعة لم تتوفر فيها شروط المحاكمة العادلة.
في مساء اليوم الموالي للانتفاضة، ظهر الملك على شاشة التلفزيون. كان واضحا غضبه المستعر، وألقى خطابا شديد اللهجة، توعد فيه النقابيين والاتحاديين والشباب المتظاهرين. وأذكر مما جاء في خطابه أن “درب غلف والمعاريف لم يشهدا أي أثر للإضراب”، مثنيا على سكانهما، وهو أمر غير صحيح مطلقا، فالتقارير التي وصلته كانت تتضمّن بعض المغالطات، لطمأنته ربما. وتحدث الملك عن عدد القتلى، قال إنه لا يزيد عن 66 قتيلا. وهو رقم مجانب للحقيقة، فقد حكى لي حينئذ زميل صحافي، نقلا عن مصدر من سلطات المدينة في عمالة الدار البيضاء، أن عدد القتلى يزيد عن الألفين.. سنعرف لاحقا أنه تم ردم جثتهم في مقابر جماعية، منها حفرة كبيرة في ساحة مركز رجال الإطفاء، المقابل لمقبرة الشهداء.
سيتم اعتقال محمد نوبير الأموي، الكاتب العام لنقابة الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، ومصطفى القرشاوي، رئيس تحرير جريدة “المحرر”، أما مديرها المسؤول محمد اليازغي فربما لكونه نائبا في البرلمان يتمتع بالحصانة أفلت من الاعتقال. كما اعتُقل المحامي محمد كرم، بصفته كاتبا إقليميا لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في الدار البيضاء. واعتقل مناضلون آخرون، أذكر منهم صديقي القديم عبد الرحيم عميمي (المحامي حاليا) لكونه معتقلا سياسيا سابقا، رغم أنه في يوم الإضراب لم يكن موجودا في الدار البيضاء.
أحد الشباب لم يستيقظ إلا بعد الظهر من يوم الإضراب، بسبب عمله الليلي في أحد المعامل. لما خرج ورأى آثار المتاريس التي وضعها الشباب بالأحجار، وقف يدخن متأملا مستغربا. مرت دورية للجيش، سألوه عما يفعله بوقوفه، وأمروه بجمع الأحجار من الشارع، وهو ما شرع في تنفيذه. لما غادرت دورية العسكر، وصلت دورية الشرطة فألقت القبض عليه بتهمة وضع متراس. وسيحكم عليه بالسجن عشر سنوات، قضاها كاملة.
لأسابيع بدت مظاهر حالة استثناء غير معلن، انتشرت الدبابات والسيارات العسكرية في شوارع وساحات المدينة. في الوقت الذي سافر الملك إلى نيروبي لحضور القمة الإفريقية. وهنالك سيعلن، بضغوط من فرنسا والولايات المتحدة الأميركية، ودونما استشارة الشعب أو الأحزاب، موافقتَه على إجراء استفتاء في الصحراء المغربية. سيعتقل عبد الرحيم بوعبيد، زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي، وعدد من أعضاء المكتب السياسي للحزب لانتقادهم، في بيان للمكتب السياسي للاتحاد، قرار الملك قبولَ الاستفتاء…
بعد مرور ربع قرن على هذه الأحداث، نشرتُ موضوعا في أسبوعية “دومان” الفرنسية بعنوان تضمن عبارة إدريس البصري، وزير الداخلية خلال الأحداث، وهي عبارة “شهيد كوميرا”، التي اشتهر بها الوزير القوي، ساخرا من شهداء تلك الانتفاضة الشعبية. لما صدر المقال كان إدريس البصري قد أحيل على الرفّ وأعفي من جميع مهامه ويعيش في مزرعته في بوزنيقة، يجتر الكآبة ويكابد الغبن خارج العاصمة الرباط. أحس إدريس البصري بظلم مما ورد من اتهامات ضده في المقال المذكور، فاستدعى صاحب الجريدة، الصديق علي لمرابط، ليقابله في مزرعته، وقال له، مبرّئا نفسه من مجزرة الدار البيضاء: “أنا لم يكن تحت إمرتي سوى البوليس، ولو ظلوا وحدهم في المواجهة لهزمهم المتظاهرون، الذين ما كانوا ليتوقفوا إلا عند أبواب قصر الرباط”.
صور قليلة وصلتنا عن الانتفاضة، وأذكر أن أحد المصورين، وهو الصديق مصطفى النعيمي، وكان يقطن في حي درب الكبير، وثق، من نافذة منزله، أحداث القتل والتنكيل. وفي اليوم الموالي ركب دراجته النارية حاملا الصور المحمضة، قاصدا مقر جريدة “لوماتان” و”ماروك سوار” في زنقة محمد اسميحة، هناك تسلموها منه من غير شكر، وطلبوا منه ألا يعود. لم يكن المصور المسكين يعرف أنه ذهب إلى جريدة القصر. وظل معه الفيلم إلى أن أُتلف بسبب تبلله بالماء.
*
بعض الصور التي تنشر اليوم في صفحات فيسبوك ومواقع الأنترنيت وتنسب إلى انتفاضة 20 جوان 1981 هي صور لا صلة لها بالدار البيضاء، بل مأخوذة من وقائع لمواجهات الجيش مع متظاهرين في بلدان أميركا اللاتينية في الثمانينيات، ما يعني أن ما جرى في ذلك اليوم الأسود في الدار البيضاء لم يكن يقلّ عنفا ودموية ومأساوية.
في خطاب الملك الحسن الثاني نفسه المشار إليه، وصف الملك الشعب بـ”كمامر الويل” (وجوه الويل) بعدما وصلته تقارير عن حالات الاكتئاب والرّعب والفزع في نفوس المواطنين وعموم الشعب. هوّن الملك وقلل من شأن ما حدث، آمرا مديره في التلفزيون في الرباط بأن يبث صورا للمظاهرات المشتعلة في إيرلندا وإقدام الشرطة البريطانية على قمع المتظاهرين هناك، على أساس أن الأمر عادي ولا داعي للقلق. ولما تتبع الناس في نشرات الأخبار في التلفزيون الرسمي الأحداث الإيرلندية شاهدوا قوات القمع تعتقل المتظاهرين دون أن توجه صوبهم البنادق والرشاشات لتنفذ فيهم “أحكاما غيابية” صدر في حقهم من أعلى سلطة. وكان النطق بالإعدام.