الوصول الى هذه الدرجة من التعقيد والتازم في المشهد الليبي لا تتحمل مسؤوليته القوى المحلية وحدها. فهناك العديد من الاطراف الاقليمية التي تريد تقاسم الثروات والنفوذ والقرار الاقليمي في شرق المتوسط وشمال افريقيا وليبيا وسط اصطفافات وتنافسات حادة يمكن أن تتحول في كل لحظة الى مواجهة عسكرية مباشرة.
الاصغاء هنا الى ما ردده قبل اسابيع المبعوث الاممي السابق في ليبيا غسان سلامة ضروري للتأكد من حجم التدخلات الخارجية في الملف، ولا سيما حول ما أسماها “طعنة الظهر” التي تلقاها من عواصم كان ينسق معها لتسوية الملف الليبي، بينها مصر والامارات وروسيا، فوجدها تصطف مع فرنسا لدعم المشير خليفه حفتر في هجومه على العاصمة الليبية طرابلس.
يراد بأموال بعض العواصم الخليجية فتح الطريق امام تفاهم فرنسي- روسي لتقاسم ثروات ليبيا مقابل ارضاء هذه العواصم بإبعاد تركيا وايران عن المنطقة العربية. بصورة أخرى، هناك إستنفار مصري ضد تركيا التي دخلت مؤخراً بثقلها العسكري والاقتصادي على الملف الليبي، لكن الحقيقة هي وجود تفويض عربي لفرنسا وروسيا لادارة الملف في مواجهة تركيا.
الهجمات الاخيرة ضد قاعدة الوطية من قبل “طائرات مجهولة” لا يمكن ان تمر من دون بحث وتدقيق وتحديد الجهة الفاعلة التي تريد تقويض الهدنة الحالية. المتضرر من تفاهمات الهدنة له مصلحة بذلك. فرنسا وروسيا وحلفاؤهما الاقليميين في طليعة هؤلاء قبل غيرهم… فمع من ستحارب انقرة؟ الرد التركي بدأ كما تقول التقارير الاستخباراتية عبر نقل وتفعيل منظومة “إس 125” اشترتها أنقرة من أوكرانيا مؤخراً، فوق المجال الجوي لمدينة سرت وبعض المناطق الاستراتيجية في غرب ليبيا.
بعض الاقلام العربية المحسوبة على الرؤية الخليجية المصرية في المشهد الليبي تردد أن دور الاتحاد الأوروبي سيكون حاسماً في وضع حد لطموحات أنقرة السياسية والاقتصادية في ليبيا. لكن المعني الاول هنا هو فرنسا التي تريد تحويل تركيا الى ايران جديدة في المنطقة. باريس تسعى لتوحيد اوروبا والاطلسي والعديد من العواصم العربية ضد انقرة في ليبيا وتريد الحصول على التفويض الاقليمي والدولي لقيادة المواجهة معها والسبب هو تراجع النفوذ الفرنسي في شرق المتوسط وشمال افريقيا وخطط الطاقة بعد التصعيد التركي الاستراتيجي الواسع ضد السياسات الفرنسية في الاعوام الثلاثة الاخيرة.
فرنسا التي ذاقت طعم الهزيمة ترفض أن تكون اول المتراجعين في الملف، وهي متمسكة بالبقاء في ليبيا بوابتها التي تجمع بين ميناء سرت ومدينة سبها جسر تواصلها مع العمق الافريقي.
موسكو، من ناحيتها، وبسبب عدم ثقتها بالموقف التركي في ليبيا واصرار انقرة على تقاسم الكعكعة هناك مع واشنطن وبعض العواصم الاوروبية، قررت المشاركة في الحلف الذي تؤسس له فرنسا كفرصة وحيدة تعطيها ما تريده، حتى ولو كان على حساب التنسيق التركي الروسي في ملفات ثنائية، وتحديداً في سوريا.
التحرك التركي في غرب ليبيا لم يكن ليتم دون موافقة اميركية وضوء أخضر اطلسي على اساس تنسيق تركي غربي مشترك في ادارة شؤون النفط والثروات في ليبيا واضعاف النفوذ الروسي هناك. حديث قيادات “افريكوم” عن وجود مئات المقاتلين الروس المحسوبين على “فاغنر” وعشرات الطائرات الروسية في قواعد عسكرية في شرق ليبيا ووسطها يعكس حقيقة وجود التفاهمات التركية الاميركية في ليبيا.
التحرك التركي في غرب ليبيا لم يكن ليتم دون موافقة اميركية وضوء أخضر اطلسي على اساس تنسيق تركي – غربي مشترك في ادارة شؤون النفط والثروات في ليبيا واضعاف النفوذ الروسي
واشنطن لن تسمح بمواجهة اقليمية شاملة بين حلفائها في المنطقة، وهي تعرف ان المستفيد الوحيد منها هو الإتحاد الروسي. لكن هناك من يتحسب في تركيا لسيناريو اخر معاكس تماماً. واشنطن قد تريد ان يتأزم الوضع في ليبيا لتتحرك بطلب من شركائها وحلفائها وتأخذ ما تريده، ومن المحتمل أن تفعل ذلك عبر تفاهم مباشر مع موسكو يؤدي إلى فرض واقع، ويكرس تقسيم ليبيا إلى إقليمين أو أكثر، ويواكبه تقاسم المداخيل على اساس عددي وجغرافي وفقاً لأماكن تواجد الثروات النفطية.
كشف الملف الليبي عن جزء كبير من التحول الاقليمي في سياسات تركيا الخارجية: لم تعد مقولة تصفير المشاكل كافية لحماية المصالح التركية وضمانة دورها الإقليمي، وميثاق “الرد الاستباقي”، في اطار سياسة خارجية فاعلة تحمي مصالح تركيا الاقليمية قد يكون مقبولاً في مكان معين، لكنه يعاني من التموضع في مكان اخر.
مشكلة السياسىة الخارجية التركية اليوم تكمن في صعوبة الالتزام في تطبيق شعار زيادة عدد الاصدقاء وتقليص عدد الاعداء. لكن، في المقابل، هناك معادلات داخلية تركية تظهر الى العلن. فرنسا ومصر والامارات وحّدت الداخل التركي وراء حزب العدالة والتنمية في ليبيا وشرق المتوسط وشمال افريقيا. احمد داود اوغلو المنشق عن الحزب الحاكم ومؤسس نظرية تصفير المشاكل مع دول الجوار يقول ان ماكرون يريد حشد “الناتو” ضد تركيا، بسبب وجودها في ليبيا، بينما يدعم هو نفسه الوجود الروسي هناك، والذي يرفضه الحلف”.
أما مصر التي فقدت الكثير من ثقلها الاقليمي في الاعوام الاخيرة، بسبب ازماتها السياسية والاقتصادية، فهي تطمح اليوم لقيادة العالم العربي من جديد في فضاء واسع يجمع افريقيا والشرق الاوسط ومنطقة الخليج وشرق المتوسط على السواء، في ظل دعم وتشجيع سعودي واماراتي.
من الواضح أن كل من راهن على حفتر ومشروعه يواجه إحتمال الخسارة، وبالتالي لم يعد امامه سوى التفتيش عن كيفية الدخول المباشر على خط الازمة الليبية أو البحث عن حصان رابح جديد. ثمة مفردات ولغة مصرية لم يسمعها المواطن العربي في مكان وزمان آخرين: أي تدخل مباشر من الدولة المصرية باتت تتوافر له الشرعية الدولية سواء في ميثاق الأمم المتحدة – حق الدفاع عن النفس، أو بناء على السلطة الوحيدة المنتخبة من الشعب الليبي وهي مجلس النواب التي تسمح له برسم الخط الاحمر على طريق سرت – الجفرة. الاعلام المصري يبرر لقيادته السياسية مواجهة مشروع تجنيد عرب لمقاتلة عرب في ليبيا (النموذج التركي بتجنيد مقاتلين سوريين لمقاتلة ليبيين من أنصار حفتر)، ولكن الذي تفعله القاهرة هو انها تجنّد ليبيين لمقاتلة ليبيين لحماية امنها القومي وامن العالم العربي.
حكومة الوفاق برئاسة السراج كانت تردد انها تريد العودة الى خارطة العام 2018 على اقل تقدير، وتريد ضمانات سياسية اقليمية بأن حفتر لن يعاود استهداف الغرب الليبي عسكريا مرة أخرى. في هذه الاثناء، ظهرت صور وافلام تلخص الكثير من التقاريرالاممية والدولية التي توثق جرائم ميليشيات حفتر في مدن غرب ليبيا قبل انسحابها من المنطقة. إعدامات ومقابر جماعية ومئات الالغام المزروعة داخل الاماكن السكنية. داعمو حفتر تحت سقف الجامعة العربية لن يتركوا المنظمات الدولية والاممية تنافسهم على اسبقية بحث مسائل انسانية خطيرة من هذا النوع حتى ولو كانت اولوياتهم انجاز بحث مسألة تفويض فرنسا وروسيا لاخراجهم من ورطتهم في ليبيا.
بعض الفضائيات العربية مستعجلة لحسم المعركة في ليبيا واعلان الانتصار هناك… “90 في المئة أن رئيس الاركان التركي يشار غولر قتل في الغارة التي نفذت ضد قاعدة الوطية قبل ايام”… بينما كان هو في مالطا يضع الاكاليل على مدافن الشهداء الاتراك الذين سقطوا في الحروب العثمانية!