لبنان بعد إنفجار بيروت: عودة إلى الإيقاع الأميركي-الإيراني

لا تحتاج القوى الخارجية المؤثرة في لبنان إلى إرسال بوارج لتستعرض قوتها أمام واجهة بيروت البحرية المدمرة ولا إلى إرسال رئيسها لتوبيخ طبقة حاكمة فقدت الحد الأدنى من أخلاقيات الحوكمة بعد إنفجار بيروت.

أدى عدم فهم القوى التقليدية والاقطاعية في لبنان دينامية المجتمع الدولي ومعنى انهيار السلطة المدوي في لحظة إنفجار مرفأ بيروت، إلى المزيد من الإرتباك الذي يعكس طبقة حاكمة مهتمة بالشرعية الدولية أكثر مما هي مهتمة بالشرعية الداخلية. لم يتغير كثيراً الأمر الواقع في لبنان بعد 4 آب/أغسطس الماضي، هناك عودة إلى الايقاع الأميركي – الإيراني ضمن شروط وصاية دولية جديدة على لبنان لم تتبلور بعد.

حين وصل الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون إلى بيروت بغطاء دولي، إرتبكت حسابات الطبقة الحاكمة في لبنان من معنى ومغزى رسائله حين دعا إلى “تحقيق دولي” في الإنفجار وإلى “نظام سياسي جديد”، في صيغة لم يكن فيها الحد الأدنى من إدارة التوقعات لمقاربة فرنسية تدافع عن آخر جيوب نفوذها في المنطقة. لم تفهم الكثير من القيادات التقليدية اللبنانية طبيعة الموقف الفرنسي وسارعت إلى الإتصال بالمسؤولين في واشنطن لفهم الموقف الأميركي من مقاربة فرنسية تنفتح على “حزب الله” وتريد العودة إلى تشكيل ما يسمى “حكومة وحدة وطنية” التي غالباً ما تُترجم لبنانياً بتعويم منظومة الفساد. زاد من هذا الإرباك ما ألمح اليه الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن فرضية “الإعتداء” في موقف كان هناك إفراط لبناني في تحليله ولا يعكس كالعادة مزاج المؤسسة الحاكمة في واشنطن.

قيادة حزب الله أبدت مرونة أولية تجاه المبادرة الفرنسية، لكنها أدركت بعدها أن موقف طهران أكثر تشدداً، وذلك تبعاً لحسابات إيرانية مع المجتمع الدولي وأن هناك ملاحق أميركية على المبادرة الفرنسية وأن حليفها الرئيس ميشال عون عاتب عليها لتركه وحيداً بعد الإنفجار. وبالتالي كان الخطاب الثاني للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الذي تغيرت فيه اللهجة بالحديث عن محاولة “إسقاط الدولة ووضعها على حافة حرب أهلية” لرفع سقف التفاوض في المرحلة المقبلة. ما يهم حزب الله بكل بساطة هو إرضاء الحلفاء والإبقاء على “شعرة معاوية” مع سعد الحريري لضمان إستمرار المنظومة السياسية التي تحمي سلاح الحزب وأدواره الإقليمية.

رئيس “القوات اللبنانية” سمير جعجع وضع الإستقالة من مجلس النواب في “الجيبة” ووعد بـ”موقف كبير” خلال ساعات، فيما طالب رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط بتعليق المشانق لوزراء حكومة حسان دياب، كما دعم كلاهما فكرة إجراء تحقيق دولي في الإنفجار. رئيس الوزراء اللبناني السابق سعد الحريري كان أكثر تحفظاً بالدعوة إلى تحقيق دولي أو الإستقالة من مجلس النواب نظراً لوجود موالين له في إدارة مرفأ بيروت، حتى أن كتلته النيابية ألمحت إلى إحتمال وجود إعتداء إسرائيلي. الرئيس ميشال عون تلقى إتصال الرئيس الأميركي دونالد ترامب بإعتباره يشكّل غطاءً لإستمرار شرعيته الدولية التي تحول دون الفراغ بعد إستقالة حكومة دياب، مع العلم أن تعامله مع تقرير جهاز “أمن الدولة” الشهر الماضي يعكس اهمالاً أو تقصيراً في أداء الواجب الدستوري.

إختيار مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون السياسية ديفيد هيل لزيارة بيروت يعكس قرار إدارة ترامب إختيار شخصية معتدلة مقبولة رسمياً وشعبياً في لبنان بدل إختيار مسؤولين آخرين يغلب عليهم الطابع الإستفزازي

بعدما أعطى الرئيس الفرنسي قوى السلطة حتى الشهر المقبل لإجراء اصلاحات، وبعدما أدركت الطبقة الحاكمة وجود تمايز أميركي – فرنسي، كان الحدث الأول هو إستقالة حكومة دياب لإستيعاب الضغوط الداخلية حفاظاً على نظام الأمر الواقع ولإجهاض أية تنازلات حكومية قبل توصل المجتمع الدولي إلى صيغة تحمي مصالح الطبقة السياسية، وكان الحدث الثاني هو سحب جنبلاط وجعجع ورقة الإستقالات الجماعية من مجلس النواب.

هذه الفرملة الأميركية للإندفاعة الفرنسية أعادت تعويم الطبقة الحاكمة وكانت تذكيراً بأن لبنان لن يعود إلى الإستعمار الفرنسي أو النفوذ العثماني، بل طبقته الحاكمة تعيش على إيقاع النفوذ الأميركي – الإيراني. ماكرون كان يبحث عن دعم أميركي في شرق المتوسط لتعزيز نفوذ باريس بعدما أضعفت إدارة ترامب الموقف الفرنسي في ليبيا لمصلحة تركيا، وواشنطن لم تمانع هذا الأمر طالما هي التي تفرض شروط هذا الدور الفرنسي الذي يبحث عن دور عبر إيجاد ارضية مشتركة بين الأميركيين والفرنسيين في لبنان.

إختيار مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون السياسية ديفيد هيل لزيارة بيروت يعكس قرار إدارة ترامب إختيار شخصية معتدلة مقبولة رسمياً وشعبياً في لبنان بدل إختيار مسؤولين آخرين يغلب عليهم الطابع الإستفزازي في بيروت والخطاب المتشدد ضد “حزب الله”. وعلى الرغم من دلائل الإنفتاح الاميركي على رغبات اللبنانيين بإجراء إصلاحات، فإن واشنطن مثل طهران لديها مصلحة في إدارة أزمة إنفجار بيروت، أي استمرار الأمر الواقع في لبنان مع تحسين في ميزان القوى لمصلحتها.

لا مانع في واشنطن لعودة الحريري إلى الحكم، لكنها لن تبادر الى تسويقه، فهو بالنسبة لإدارة ترامب، قد يكون مرشح الضرورة مع تساؤلات حول طبيعة الحكومة وأي هامش سيكون لديه وما هو دور “حزب الله”؟ في حال تم تكليف الحريري، سيكون مسار تشكيل الحكومة مرتبطاً بهذه الدينامية الأميركية – الإيرانية، ومقابل التحالف الثنائي المتماسك بين “حزب الله” و”التيار الوطني الحر”، هناك تحالف هش بين حلفاء واشنطن، أي الحريري وجنبلاط وجعجع.

إقرأ على موقع 180  الصين تُشغّل محركاتها الديبلوماسية فلسطينياً: السياق والأهداف

تدخل إدارة ترامب على خط التشكيل عبر التلويح لجبران باسيل وغيره مرة أخرى عبر الإعلام بالعقوبات الاميركية للإبتعاد عن “حزب الله” والحكومة الجديدة وعبر إستمرار الضغوط الأميركية في مسار منفصل على “حزب الله” وأنشطته الخارجية. الرئيس عون أعطى مؤشرات عن إستيعابه الضغوط الخارجية عبر سلسلة مواقف أطلقها عبر قناة تلفزيونية فرنسية من فكرة عقد لبنان إتفاق سلام مع إسرائيل ومن التطبيع الإسرائيلي الإماراتي. بشكل عام، تفضل الطبقة السياسية في لبنان إيجاد تسوية مع القوى الخارجية المؤثرة أكثر من إيجاد تسوية مع الناخبين في لبنان.

أي حكومة جديدة في لبنان، برئاسة الحريري أو غيره، ستكون ضعيفة أمام الضغوط الدولية في ظل الإنهيار المالي وعدم قدرة الدولة على إعادة إعمار العاصمة لوحدها

إدارة ترامب كانت تفضل قبل إنفجار مرفأ بيروت أن يخرج الحلفاء في لبنان بمواقف ضد “حزب الله” تضمن حياد لبنان في الصراعات الدولية، لكن هذا الأمر لم يحدث بإستثناء موقف بكركي، وبالتالي خاضت إدارة ترامب بنفسها المعركة السياسية والإعلامية ضد حزب الله. ما حصل بعد إنفجار بيروت هو العكس، أي رغبة حلفائها اللبنانيين بالتصعيد بينما هي تفضل التريث في هذه المرحلة وتفادي الإقدام على أية مغامرة متسرعة.

التوافق الضمني الأميركي – الإيراني بعد إنفجار بيروت هو عدم تفضيل أي تحقيق دولي أو إجراء إنتخابات نيابية فورية، وأن تبقى الأمور عند حدود استقالة الحكومة حتى يتم الاتفاق على صيغة تقاسم النفوذ، أي العودة إلى لحظة إستقالة سعد الحريري في تشرين الأول/أكتوبر الماضي. الإنهيار المالي أطاح بالحكومة الاولى للتسوية الرئاسية، والآن هناك مسعى لإعادة إنعاش التسوية الرئاسية في حكومة ثانية يريدها الحريري مع هامش أوسع، ما يعتبره “حزب الله” تنازلاً لمصلحة إدارة ترامب. وبالتالي على الرغم من التواطؤ الضمني بين الحريري و”حزب الله”، قد يدخل لبنان في فترة طويلة من حكومة تصريف الأعمال والفراغ الحكومي إذا لم تتبلور صيغة ما بين واشنطن وطهران.

ما تريده الإدارة الأميركية من لبنان هو إستمرار مسار ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وهذا ما وافقت عليه الطبقة الحاكمة في لبنان بعد إنفجار بيروت، وعدم تطبيع العلاقات مع النظام السوري، وإعادة التوازن إلى الداخل اللبناني بطريقة تضمن حياد سياسة لبنان الخارجية. أي حكومة جديدة في لبنان، برئاسة الحريري أو غيره، ستكون ضعيفة أمام الضغوط الدولية في ظل الإنهيار المالي وعدم قدرة الدولة على إعادة إعمار العاصمة لوحدها. الحديث عن حياد لبنان اصبح ترفاً في ظل البوارج الراسية على شواطئه وتحويله الى بلد يعيش على مساعدات الاغاثة الخارجية. الوصاية الدولية مسار محتوم لم يتبلور بعد، والطبقة السياسية في لبنان تفاوض المجتمع الدولي على شكل ومضمون هذه الوصاية فيما لم تجف بعد دماء اللبنانيين.

Print Friendly, PDF & Email
جو معكرون

صحافي وكاتب لبناني مقيم في واشنطن

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  القفزة الصّدريّة المُتجدّدة متى تُنقذ الشّيعةَ.. ولبنان؟