في ظلّ هذا الواقع، يكون الحياد أمراً مستحيلاً على المستوى الشعبي، إذ لا يمكن لأية دولةٍ ضبط نبض شارعها وأهوائه ولئن فعلت كانت حتماً دولة قمعية، أما على المستوى الرسمي، فالدولة المنضوية في إطار الأمم المتحدة، يستحيل أن تكون حيادية أيضاً، فهي ملزمة بتنفيذ مقررات هيئات الأمم المتحدة حيث ورد في الفقرة 5 من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة على أن “يقدم جميع الأعضاء كل ما في وسعهم من عون إلى “الأمم المتحدة” في أي عمل تتخذه وفق هذا الميثاق، كما يمتنعون عن مساعدة أية دولة تتخذ الأمم المتحدة إزاءها عملا من أعمال المنع أو القمع”.
فعندما يُتخذ القرار في مجلس الأمن، لا تملك الدولة اللبنانية أو غيرها التمسك بالحياد، فإذا فرض منع التعامل مع دولة ما، فإن كافة الدولة ملزمة بالامتناع عن التعامل معها ولا تستطيع الدولة القول بأنها محايدة وترغب بكسر هذا المنع.
ويزداد وضع الحياد تعقيداً عندما لا تكون الدولة لها خاصية الوحدة الفاعلة، أي خاصية الدولة القائمة على وحدة الثقافة والتنظيم. ففي دولة متعددة القيم والثقافة وضعيفة التنظيم، يكون من الصعب عليها فرض قرارها، ويزداد الأمر سوءاً عندما يوجد ضمن جغرافيا هذه الدولة مكوّن داخلي يمتلك خصائص “الوحدة الفاعلة” لامتلاكه قيماً أو ثقافة خاصة به وتنظيماً قوياً.
إن هذه الأفكار والمعطيات كانت حاضرة عند صياغة نظرية “الحياد الناشط” في ورقة البطريرك الماروني بشارة الراعي بتاريخ 7 آب/أغسطس 2020، حيث ابتدأ ببيان أن لبنان الحياديُّ هو القادر على.. “الدِّفاع عن حقوق الشُّعوب العربيَّة وقضيَّة السَّلام، وعلى لعب دورٍ في نسجِ العلاقات السَّليمة والآمنة بين بلدان الشَّرق الأوسط وأوروبا بحكم موقعه على شاطئ المتوسِّط”. كما أنه حدد أبعاد “الحياد النَّاشط”، فجعل البعد الأول عدم دخول لبنان قطعيًّا في أحلافٍ ومحاور وصراعاتٍ سياسيةٍ وحروبٍ إقليمية ودولية. مع بقائه عضوا فاعلًا في جامعة الدُّول العربيَّة ومنظَّمة الأمم المتَّحدة، ومساهماً في إغناء فكرة تضامن الشُّعوب وعملها من أجل السَّلام ونهضة الشُّعوب.
لكن “البيان البطريركي” جعل البعد الثاني المكمل هو تعاطف لبنان مع قضايا حقوق الإنسان وحرية الشعوب من خلال ميزة لبنان التعددية الدينية والثقافية والحضارية التي تجعله حكماً أرضَ تلاقٍ وحوار بين الديانات والحضارات والثقافات عملاً بقرار منظمة الأمم المتحدة في دورة أيلول/سبتمبر 2019، الذي أعلنَ لبنان “أكاديمية الإنسان لحوار الدِّيانات والحضارات”.
ولكن الأهم في رؤية البطريرك الراعي هو البعد الثالث الذي عليه يتوقف البعدان الأول والثاني والمتمثل بتعزيز الدولة اللبنانية لتكون دولة قوية عسكرياً بجيشها ومؤسساتها وقانونها وعدالتها ووحدتها الدَّاخليَّة وإبداعاتها، لكي تضمن أمنها الداخلي من جهة، وتدافع عن نفسها بوجه أي اعتداء برّي أو بحري أو جوي يأتيها من إسرائيل أو من سواها من جهة أخرى.
وفق البطريرك الراعي، فإن الدولة القوية القادرة والعادلة، ضمانة استقرار الدولة وحمايتها من المخاطر، وهي برأيي لو كانت قائمة لأرسلت قواتها النظامية أسوةً بكل دول العالم للدفاع عن أمنها الوطني في حال استشعرت هذا الخطر أو رأت أن من واجبها ارسال قوات خارج الحدود للدفاع عن أمنها الوطني/القومي قبل وصول الخطر إلى حدودها الجغرافية.
تلاقى السيد نصرالله مع الكاردينال الراعي لناحية المساعدة الإنسانية التي لا تقفلها أية حدود، معتبراً أنه إذا تبين أن هناك من يحتاج إلى مساعدة مالية أو كان بلد ما مصاب بوباء كورونا أو بمجاعة وكانت الدولة اللبنانية أو شعبها قادرين على المساعدة، فإن الحدود الجغرافية لا تسقط موجب المساعدة
إن هذا البيان الموافق للواقع العملي والذي يعلق الحياد على وجود الدولة القادرة والعادلة والقوية، يتلاقى مع مواقف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الذي نادى في أكثر من مناسبة بإقامة بنيان الدولة اللبنانية على هذه الخصائص، ولا سيما في “خطاب النصر” بتاريخ 22 أيلول/سبتمبر 2006 الذي جاء فيه:”الأصل الذي يحمي وحدة لبنان هو بناء الدولة القوية القادرة العادلة، الذي يحمي سيادة لبنان من الأطماع الصهيونية هو الدولة القوية القادرة العادلة، الذي يعالج الأزمات المعيشية والإجتماعية للبنانيين وللمقيمين في لبنان هو الدولة القوية القادرة العادلة النظيفة العزيزة، وهذا ما نطمح إليه ونتطلع إليه جميعا. نحن نريد هذه الدولة القوية والقادرة والعادلة والنظيفة والمستقلة التي ترفض أي وصاية أو هيمنة أجنبية، الدولة الكريمة العزيزة التي لا تخضع لشروط مذلة، والنظيفة التي لا مكان فيها للسرقات ولا للهدر ولا للصوصية. هذه هي الدولة التي نحتاجها”.
إلا أن هذه الدولة حتى لو كانت قوية وقادرة وعادلة، وفق المعطيات التي ذكرتها أعلاه، لا يمكن أن تكون مغلقة ضمن الحدود الجغرافية، حيث أوضح السيد نصرالله في كلمته بتاريخ 22 آب/أغسطس 2020 أن الحدود الجغرافية لا تسقط المسؤوليات إلا أنها قد تقيد بعضها وفق معيار القدرة على التدخل.
وقد تلاقى السيد نصرالله مع الكاردينال الراعي لناحية المساعدة الإنسانية التي لا تقفلها أية حدود، معتبراً أنه إذا تبين أن هناك من يحتاج إلى مساعدة مالية أو كان بلد ما مصاب بوباء كورونا أو بمجاعة وكانت الدولة اللبنانية أو شعبها قادرين على المساعدة، فإن الحدود الجغرافية لا تسقط موجب المساعدة، أو في حال حصول نزاع بين دولتين أو طرفين في دولة، وكان لدينا القدرة على الإصلاح بينهما، هنا يكون من الواجب التدخل لحلّ هذا النزاع (وهذا ما فرضه فعلياً ميثاق الأمم المتحدة).
ويرى السيد نصرالله أن لا حدود اللون أو العنصر أو اللغة أو الدين تسقط المسؤوليات تجاه الانسان الاخر، أياً كانت طبيعة أبعاد هذه المسؤولية، سواءً أكانت ذات بعدٍ اجتماعي أو اقتصادي أو اعلامي أو فكري أو أمني أو غيره، ويؤكد تبعاً لذلك أن الحدود لا تسقط المسؤوليات وهذا هو المسار العالمي في العلاقات بين الدول بما فيها الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية التي تتدخل في جميع شؤون العالم، وكذلك هذا التدخل تمارسه الدول الإقليمية كتركيا والسعودية وغيرهما. ولهذا في حالة تدخل كافة الدول في إقليمٍ معين وتوجيه التهديد المباشر للبنان لا يكون منطقياً غض النظر عن كل هذه التدخلات وتسليط الضوء على تدخل مبرر يمارسه حزب لبناني.
وعرض السيد نصرالله مثالاً حول احتلال “داعش” لأكثر من نصف الجغرافية السورية والعراقية وأن العشرات من دول العالم دعمت “داعش” بالمال والسلاح، ولذلك، كان لا بد من مجابهة الخطر الجاثم على أبواب لبنان، وهنا يرى أن مساعدة الدولتين السورية والعراقية كانت واجباً لا مجال للنقاش حوله.
وقد تساءل السيد نصرالله مخاطباً الدول الأجنبية “لماذا يحق لكم جميعاً أن تتدخلوا وترسلوا جيوشكم واعلامكم وسفاراتكم وتشنوا حروباً وتستخدموا اموالكم وتلحقوا الظلم بالشعوب والعدوان عليها، ثمّ لا يحق لنا تقديم المساعدة لهذه الشعوب المعتدى عليها والمغتصبة أرضها والمسحوقة عظام أطفالها ونسائها”.
وكما فعل غبطة البطريرك الراعي لناحية ربط الحياد بالدولة القوية القادرة العادلة، فإن سماحة السيد نصرالله ربط المسؤولية تجاه الآخرين بتحقق القدرة على المساعدة، حيث أعلن أن المسؤولية تتحقق عند وجود القدرة على المساعدة ولهذا يصار إلى تحديد وسيلة المساعدة تبعاً لقاعدة ترتيب الأولويات ووفقاً لتشخيص القيادة لجدوى التدخل وحجمه ووسيلته دون الالتفات لما يعوّله أصحاب الحاجة لناحية طلب ما لا تطيقه ولا قدرّة لك على تحقيقه.
وبرغم مقاربتهما الحياد من زاويتين مختلفتين إلا أن البطريرك الراعي والسيد نصرالله التقيا حول قاعدة بناء الدولة القوية والعادلة والقادرة على حماية ما أسمي “الحياد الناشط” لناحية وجوب الإسهام في معالجة وتخفيف الهموم العالمية وتقديم المساعدات الإنسانية، وإن اختلفا في نقاط أخرى.