“لطالما تمسك صناع السياسة في فرنسا بأسطورة القوة الفرنسية في الشرق الأوسط، شمال إفريقيا وشرق المتوسط. هم يبيعون أسلحة متقدمة لعدد من الدول وانضموا إلى البريطانيين والأميركيين في أكثر من عملية عسكرية باستثناء غزو العراق في العام 2003، ويشاركون في عمليات مكافحة الإرهاب في شمال إفريقيا. وبين فترة وأخرى، يعبر رئيس فرنسا عن تصميمه على حل الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي..
الفرنسيون اليوم أكثر جدية. يتقدم ماكرون الآن بزعم أن فرنسا مستعدة لإستخدام القوة من أجل تحقيق النظام والاستقرار في المنطقة. ولكن ما هو السبب: الطاقة واللاجئون وتركيا.
قبل عقد من الزمن، قام رئيس فرنسا السابق نيكولاي ساركوزي بدعم تدخل عسكري دولي في ليبيا. لم يكن الدافع وراء مشاركته هو نشر الديموقراطية بعد الإطاحة بنظام معمر القذافي ولكن الخوف من موجات اللاجئين بالإضافة إلى العنف الذي هدد القذافي باستخدامه لقمع الانتفاضة ضده، وهو نفس الهاجس الذي يدفع ماكرون ولكن بشكل مقلوب، فبدل الإطاحة بديكتاتور، يتطلع ماكرون لمساعدة ديكتاتور آخر للوصول إلى الحكم. عندما تدعم فرنسا خليفة حفتر، الجنرال العاجز من عهد القذافي والذي يقود الجيش الوطني الليبي، إنما تدعمه ضد الحكومة المعترف بها دوليا في طرابلس (حكومة فايز السراج الذي إستقال مؤخراً)، وكان الدعم قائما على حسبة باردة تفترض أن حفتر هو الرجل القوي الذي سيعيد النظام إلى ليبيا بشكل يمنع الليبيين والأفارقة من وصول الشواطئ الجنوبية لأوروبا.
كما أن مسألة المهاجرين هي التي تدفع فرنسا نحو لبنان. صحيح أن فرنسا باعتبارها المستعمر السابق رد على انهيار لبنان (الإقتصادي والمالي) بنوع من الحنين، ويستحق ماكرون الثناء لأنه كان أول زعيم غربي عبر عن استعداد للتعامل مع المشكلة، لكن جزءا من المشكلة هو وصول لاجئين لبنانيين جدد إلى السواحل الأوروبية، ولا ننسى أن موجات اللاجئين السوريين التي وصلت إلى أوروبا ليست بعيدة وأدت إلى فوز الأحزاب اليمينية والنازية في عدد من الدول الأوروبية. يريد ماكرون تجنب موجات مزوح جديدة خاصة أنه يواجه حملة انتخابية لإعادة انتخابه في العام 2022. وكشخص يهتم بشعبيته، فقد تراوحت في الأشهر الأخيرة من ضعيفة إلى قوية ثم عادت إلى وضعها السابق. وعلينا ألا ننسى ما يقع تحت أرض العراق ومياه لبنان وقبرص وليبيا وهو يهم فرنسا، أي النفط والغاز.
يرى المسؤولون الفرنسيون أن الاتحاد الأوروبي هو ناد مسيحي يشترك بالحدود الجغرافية، وهو ما لا يؤهل تركيا أبداً للانضمام إليه. كما أن حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا اليوم لا يساعد في الأمر
تعتبر ليبيا البلد الذي يملك أكبر احتياطي نفطي في كل إفريقيا، ولهذا السبب تعمل شركة النفط الفرنسية (توتال) في ليبيا منذ سبعة عقود. وفي العراق، تملك نفس الشركة مع مجموعة أخرى نسبة 22.5% من حقل النفط حلفايا و18% من حقوق التنقيب في كردستان. وتقوم بعمليات تنقيب عن الغاز في الساحل الجنوبي من قبرص قريبا من السواحل اللبنانية التي يعتقد أن في مياهها العميقة كميات كبيرة من مصادر الطاقة. وهذه التناقضات تخفي وراءها الكيفية التي تحاول فيها فرنسا حماية مصالحها في المنطقة بما فيها الجهود المتطورة للاستفادة من مصادر الطاقة في المنطقة. ثم هناك تركيا، فالعلاقة القائمة على سوء النوايا تذهب أبعد من غياب المودة بين ماكرون والرئيس رجب طيب أردوغان، والنظرة الدونية التي يتعامل فيها أردوغان مع نظيره الفرنسي. ففرنسا تقف إلى جانب عدد من الدول الأوروبية أمام إنضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي (الذريعة عدم توفر الشروط)..
وبعيدا عن مظاهر القصور الحالية التي لا تؤهلها للإنضمام إلى الاتحاد الأوروبي، يرى المسؤولون الفرنسيون أن الاتحاد الأوروبي هو ناد مسيحي يشترك بالحدود الجغرافية، وهو ما لا يؤهل تركيا أبداً للانضمام إليه. كما أن حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا اليوم لا يساعد في الأمر. فهو اليوم أكثر ديكتاتورية وقومية وإسلامية وتشددا مما كان عليه عندما وصل إلى الحكم وتعامل معه الكثيرون في الغرب على أنه نموذج للإسلام الليبرالي في العالم الإسلامي. وبالطبع لم يجلب تهديد تركيا بفتح أبواب الهجرة على أوروبا الكثير من الأصدقاء خاصة في فرنسا. يضاف إلى هذا المدخل القاسي لتركيا في منطقة شرق المتوسط وشمال إفريقيا والمشرق. ومن منظور فرنسا، فتنقيب تركيا عن الغاز في شرق المتوسط يهدد دولة عضو في الاتحاد الأوروبي ومصالحها التجارية. كما أن دعم أنقرة لطرابلس يتعارض مع رغبة فرنسا في الحد من تدفق المهاجرين ومكافحة الإرهاب بمنطقة الساحل الإفريقي. ولو أصبحت ليبيا دولة وكيلة لأنقرة، كما يحصل الآن، فعلى فرنسا التساؤل عن علاقة شركة “توتال” الطويلة مع طرابلس.
الرهان الأكبر في الدراما التركية – الفرنسية هو في شرق المتوسط. فاستياء فرنسا من تنمر تركيا تجاه اليونان وقبرص مرتبط بالمعاهدة البحرية التي وقعتها أنقرة مع حكومة طرابلس (السراج) عام 2019.
واعتقد الفرنسيون أنهم لن يقفوا متفرجين على تركيا التي رسمت المياه البحرية التي قسمت شرق المتوسط لصالحهم. ومع أن أنقرة كانت ترد على التحدي الجيوسياسي ضدها المكون من اليونان – قبرص – مصر وإسرائيل (منتدى المتوسط)، إلا أن فرنسا تعاملت مع الأمر كمحاولة من تركيا لتأكيد سيادة لا ينازعها فيها أحد على المنطقة. ومن هنا جاء توثيق العلاقات مع اليونان وقبرص والقمة الأوروبية الناجحة التي كانت ضربة للدبلوماسية التركية (…).
يستحق ماكرون الثناء لأجل دعمه لبنان في وقت لم يدعمه أحد، وكذلك دعمه قبرص واليونان في مواجهة تركيا التي اعتادت التنمر على جيرانها، ومع ذلك ليس واضحاً على الاطلاق ماذا يريد تحقيقه ماكرون في المنطقة أبعد من الوقوف في وجه تركيا. الضربة القاضية للرئيس الفرنسي انه في الحقيقة لا يؤمن بأي شيء أكثر من إيمانه بنفسه. لديه مساحة للتحرك في الشرق الأوسط وشرق البحر المتوسط لتغيير المفاهيم لكنه بدأ بداية غير موفقة، ففي تغريدة له بعد قمة دول جنوب أوروبا السبع “ميد 7” (فرنسا وإسبانيا ومالطا وإيطاليا والبرتغال وقبرص واليونان)، قال ماكرون “باكس مديترانيا”(Pax Mediterranea)، بينما كان يجب عليه أن يكتب تغريدة تقول “دعونا نبدأ لعبة الصراع الكبرى”. (ترجمة بتصرف، موقع 180).