هو الصحفى الأكثر تأثيرا فى العالم طوال سنوات القرن العشرين، كما وصفته صحيفة الـ«نيويورك تايمز» عند نهاية ذلك القرن.
وهو أهم مفكر استراتيجى عربى، كما وصفه الدكتور «جمال حمدان»، وصاحب رؤى لا يمكن تجاهلها فى الأمن القومى.
لم يكن ممكنا معرفة خفايا ما جرى فى الإقليم من حروب وصراعات لولا ما تضمنته كتبه من قصص موثقة، كما كتب ذات مرة الكاتب الصحفى الراحل «سلامة أحمد سلامة».
لم يعرف نفسه فى أى وقت بغير مهنته، فهو فى البدء والمنتهى صحفى، غير أن أدواره تمددت إلى شراكة فكر مع زعيم ثورة يوليو، صاغ وثائقها وأوراقها ومشروعها، ودافع عنها بعد أن انقضت أيامها.
طاردته عبر العقود المتتالية ادعاءات أرادت النيل من تجربة يوليو وطبيعة علاقته بزعيمها مثل إنه «مخرج ثورة يوليو» ــ كما كان يصفه «أنور السادات»، أو مخترع «جمال عبدالناصر» ــ كما كان يقول «أنيس منصور».
قبيل رحيله بأسابيع، قالت كاتبة سيناريو على إحدى الفضائيات: «لماذا لا يموت؟»، وأعادت تكرار فرية الاختراع!
قال مستغربا: «جمال عبدالناصر».. مرددا بيت شعر حديث: «هانت حتى بالت عليها الثعالب».
لم يستغرب طلب رحيله.
قال ذات مرة: «ربما تلكأت على المسرح».
بدت العبارة قاسية من رجل وهبه الله الهمة العالية إلى الثانية والتسعين من عمره.
ــ «لا تقل ذلك مرة أخرى يا أستاذ هيكل».
لم يكتب سيرة ذاتية، ولا كان واردًا فى تفكيره أن يكتبها، فكل ما أراد أن يتركه أشار إليه فى كتاباته وكتبه، أو أودعه على شرائط مسجلة فى برنامجه «سيرة حياة»، ونصوصها فُرغت على ورق وضبطت صياغتها لتكون صالحة للنشر، وقد راجعها بنفسه
«لا توجد أمة تحترم نفسها تسأل مواهبها الاستثنائية عندما يتقدم بها العمر أن تصمت وهى تستطيع أن تتكلم».
«لم يطلب أحد فى الولايات المتحدة أن يتوقف وزير خارجيتها الأشهر هنرى كيسنجر عن الكلام وهو يستطيع أن يتكلم، أو عن التعليق على السياسات الدولية الجارية وهو يستطيع أن يضيف».
«هيكل» و«كيسنجر» من مواليد العام نفسه (1923)، الأول فى أيلول/سبتمبر والثانى فى آذار/مارس.
لا يجرؤ أحد فى الولايات المتحدة أن يقول: «لماذا لا يصمت هذا الرجل؟».. و«لماذا لا يموت؟».
و«لم يطلب أحد فى بريطانيا لفيلسوفها الأكبر برتراند رسل، وهو فى تسعينيات عمره، أن يصمت، فى هذه السن تبدت قوة الضمير العام فى مناظراته، التى انتصف فيها للضحايا الفيتناميين ضد همجية آلة الحرب الأمريكية وألهم أجيالًا جديدة نبل الموقف».
«الادعاء بأن للفكر عمرًا هو الجهل بعينه واستعجال الرحيل هو خروج عن كل قيمة إنسانية.. فالله وحده هو الذى يعطى الهمة والعمر».
«لم يخلف أحد طه حسين ولا كان لدينا نجيب محفوظ آخر».
قال مضيفًا: «ولا نجيب ريحانى آخر».
قيمة القامات الكبرى فى السياسة والصحافة والفكر والأدب والفن في ما تتركه من مدارس فكر وتأثير.
أحد مصادر قوته أن الماضى لم يكن يقيّد نظرته إلى المستقبل.
«لا يمكن أن تنظر إلى المستقبل وتفكيرك مقيّد بالماضى».
«للماضى أهميته بقدر ما يشير إلى معنى لا يصح إهداره وخطأ لا يجوز تكراره».
وديعته فى كتبه وإرثه فى مدرسته ومكانته فى التاريخ محفوظة بقدر أدواره التى يستحيل تجاهلها.
لم يكتب سيرة ذاتية، ولا كان واردًا فى تفكيره أن يكتبها، فكل ما أراد أن يتركه أشار إليه فى كتاباته وكتبه، أو أودعه على شرائط مسجلة فى برنامجه «سيرة حياة»، ونصوصها فُرغت على ورق وضبطت صياغتها لتكون صالحة للنشر، وقد راجعها بنفسه.
على عكس ما اعتقد كثيرون أنه سوف يخلف وراءه سيرة مكتوبة بأسلوبه لـ«جمال عبدالناصر»، فإنه كان على يقين طوال الوقت أن هناك قضية واحدة تستحق أن تترك وديعة عند أصحاب الحق فى المستقبل، أن يعرفوا ماذا جرى فى مصر وحولها، وأين كانت معاركها ولماذا يراد أن تتكرس فيها ثقافة الهزيمة؟
لم يكن الأستاذ «محمد حسنين هيكل» مرتاحًا لفكرة «بيع الأوراق الخاصة»، لكنه بدا مستعدًا أن يواجه الاختبار ذاته.. بلا إغراء مال أو إغواء بيع، واثقًا أن التنقيب فى أوراقه وأصول تفكيره ينصفه فى التاريخ
قبل رحيله بثلاث سنوات عرضت عليه دار «هاربر كولينز» البريطانية، التى تتولى نشر الطبعات الدولية من كتبه، أن يكتب كتابًا جديدًا عن «الربيع العربى» مقابل مليون جنيه إسترلينى.
شرع فى زيارات خارجية ابتدأها بلبنان للحصول على وثائق يؤكد بها روايته للحوادث العاصفة التى جرت، وكان لديه ما يقوله جديدًا وموثقًا.
سألنى: «ما رأيك؟».
قلت: «إن الكتاب سوف يستغرق وقتًا طويلًا وجهدًا مضنيًا وزيارات إلى عواصم بحثًا عن وثائق ولقاءات مع مصادر تستقصى خلفيات ضرورية لفهم ما جرى، وذلك كله سوف يعطل حضورك العام فى لحظة تحول مصيرية».
قال: «هذا أيضًا رأى هدايت» ـ قاصدًا السيدة قرينته التى خشيت عليه من أي جهد زائد.
الكتلة الرئيسية من أوراقه أحرقت أثناء العدوان على بيته فى برقاش بذات يوم فض اعتصامى «النهضة» و«رابعة العدوية».
ما تبقى أودع فى مكتبة الإسكندرية.
فى الأوراق الخاصة ما يكشف عن طرائق التفكير، وفيها أسرار أخفاها كاتبها وأحكام لم يفصح عنها، وكان قد قرر أن يترك أوراقه الخاصة على النحو الذى كتبت به أول مرة لمن يأتى بعده من باحثين ومؤرخين وصحفيين يدققون فى الأصول الخام ويطابقونها بما نشر فعلًا فى مقالات وكتب.
تلك مسألة ليست باليسر التى تبدو عليها، فالأوراق الخاصة سر صاحبها، وقد تستخدم ضده: لماذا أغفل نشر معلومات وردت فيها.. وكيف تباينت الصياغات الأولية مع ما هو منشور.. ومدى تأثير الانحيازات الشخصية على الصياغات والرؤى والرواية كلها؟
كان يدرك ذلك تمامًا، لكنه قرر أن يترك كل شيء للتاريخ يحكم بما يحكم به، قبل أن تحرق الكتلة الرئيسية من تلك الأوراق الخاصة.
فى وقت لاحق التفت إلى سجالات صاخبة حول «أوراق بوب وودورد، ألمع الصحفيين الأمريكيين المعاصرين، نالت على نحو فادح من صدقيته المهنية.
كان «بوب وودورد» قد باع بـ(٥) ملايين دولار أوراقه، التى صاغ على أساسها كتابه الأشهر «كل رجال الرئيس» عن سقوط الرئيس الأمريكى «ريتشارد نيكسون» بتداعيات فضيحة «ووتر جيت».
بدا لباحثين فى الأوراق ومنقبين فيها أن ثمة تناقضات ومعلومات جرى التلاعب بها انتهكت سلامة روايته وقوّضت أسطورته الخاصة.
كل ما نشر فى الصحافة الغربية عن «أسطورة بوب وودورد التى تهاوت» أودعه داخل «دوسيه أحمر».
لم يكن الأستاذ «محمد حسنين هيكل» مرتاحًا لفكرة «بيع الأوراق الخاصة»، لكنه بدا مستعدًا أن يواجه الاختبار ذاته.. بلا إغراء مال أو إغواء بيع، واثقًا أن التنقيب فى أوراقه وأصول تفكيره ينصفه فى التاريخ.
(*) نقلا عن “الشروق”: bit.ly/3iRziXI