كان اختيار محررى صحيفة “لوموند” لهذا العنوان عاكسا لحالة التعاطف العالمى ردا على وقوع هجمات 11 سبتمبر/أيلول القبيحة، والتى قتل فيها 3 آلاف أمريكى داخل الأراضى الأمريكية. ولم يقتصر التعاطف العالمى على الأصدقاء فى القارة الأوروبية، بل امتد هذا التعاطف لمختلف أنحاء العالم، وخرجت جموع من الشعب الكوبى للتبرع بالدم للضحايا برغم الحصار الأمريكى وتراث العداء بين الدولتين، كذلك قام الرئيس الفلسطينى الراحل ياسر عرفات بالتبرع بدمه أمام شاشات التلفزيون برغم مرضه وكبر سنه.
بيد أن حظ أمريكا كان شديد السوء، فبدلا من وجود حكماء فى البيت الأبيض يستغلون هذا التعاطف غير المسبوق من أجل تشكيل تحالف دولى لمواجهة تهديد تنظيم القاعدة حول العالم، وللبحث فى أسباب استهداف أمريكا بهذه الصورة، كانت هناك إدارة على رأسها جورج بوش وديك تشنى ودونالد رامسفيلد وجون أشكروفت، وقاموا بدلا من ذلك بتخيير العالم إما أن يقف مع أمريكا أو يقف ضدها.
وردا على هجمات 11 سبتمبر/ايلول، اعتمدت إدارة بوش على استراتيجيتين سببتا عداء الكثير من الشعوب: الأولى، تتعلق بحرب كونية ضد الإرهاب، والثانية، تطلعت ــ صورياً ــ لنشر الديموقراطية فى دول العالم العربى والإسلامى.
***
تم التعبير عن الاستراتيجية الأولى فى الحرب على الإرهاب ومن ثم جر الأمريكيين لحربين: الأولى فى أفغانستان رآها أغلبهم مبررة، وبعد أقل من 3 سنوات أوقعتهم الإدارة ذاتها فى حرب أخرى، رأتها الأغلبية غير مبررة، فى العراق. وبعد 20 عاما من القتال وسقوط عشرات وربما مئات الآلاف بين قتلى وجرحى من الأفغان والعراقيين والأمريكان، خسرت أمريكا حرب أفغانستان تاركة وراءها دولة فاشلة ومجتمعا منهارا، وعادت حركة طالبان المتشددة للحكم بعدما أزاحتها واشنطن من سدة الحكم قبل 20 عاما. وبعد 17 عاما من الحرب فى العراق، لم تنسحب القوات الأمريكية بصورة كاملة بعد، ولم يستقر العراق ولم ينعم برخاء اقتصادى، بل يخضع بصورة أو أخرى لهيمنة سياسية واقتصادية إيرانية.
بسبب الحرب على الإرهاب عرفت أمريكا سياسات داخلية رآها الكثير من الخبراء دراكونية فى طبيعتها حيث سمحت بتوغل الأجهزة الأمنية الأمريكية لسنوات فى التنصت، وتتبع الكثير من مواطنيها خاصة المسلمين منهم
ودفعت الاستراتيجية الثانية واشنطن للضغط على الدكتاتوريات العربية لتبنى ممارسات سياسية ديموقراطية. وصدمت نتائج «الانتخابات شبه الحرة»، التى أجريت فى فلسطين ومصر والمغرب، الإدارة الأمريكية حيث حققت القوى السياسية الإسلامية مكاسب لم تتوقعها واشنطن. ثم فوجئت واشنطن بالربيع العربى مع اندلاع ثورات وانتفاضات شعبية عربية مطالبة بالديموقراطية، وكشفت المواقف الأمريكية خلال سنوات حكم الرئيس الديموقراطى باراك أوباما ومن بعده الجمهورى دونالد ترامب، فراغ الدعوات الديموقراطية الأمريكية من مضمونها، مع العودة لدعم حلفائها من الدكتاتوريات العربية التقليدية.
***
من ناحية أخرى، بعد 20 عاما من تجربة الحرب على الإرهاب، لا تبشر حالة الديموقراطية الأمريكية ذاتها بأى خير، بل هناك أحداث تؤكد أن هناك خطرا حقيقيا على هذه الأمة الرائدة. فبسبب الحرب على الإرهاب عرفت أمريكا سياسات داخلية رآها الكثير من الخبراء دراكونية فى طبيعتها حيث سمحت بتوغل الأجهزة الأمنية الأمريكية لسنوات فى التنصت، وتتبع الكثير من مواطنيها خاصة المسلمين منهم.
وشهدت الحرب على الإرهاب ممارسات مشينة، واطلع العالم على فضائح معاملة المعتقلين العراقيين فى سجن أبو غريب سيئ السمعة، كما كان لاستخدام معسكرات اعتقال فى جوانتانامو تأثيرات بالغة على الصورة الأمريكية حول العالم خاصة مع ورود أنباء التعذيب والانتهاكات التى يتعرض لها المعتقلون، وحتى اليوم، وبعد 20 عاما من استخدامه، لم يتم إغلاق المعتقل. وبررت واشنطن استخدام معسكرات الاعتقال السرية فى العديد من دول العالم كى يمكن تعذيب المشتبه فى قيامهم بأعمال إرهابية، وهو ما لا يمكن القيام به داخل الأراضى الأمريكية. ولم تتردد الإدارات المتعاقبة فى استخدام الطائرات المسيرة (من دون طيار) لاستهداف مشتبه فيهم دون أى تحقيقات أو إظهار أى دلائل على ذلك. وقُتل المئات من المشتبه فى كونهم إرهابيين فى اليمن وباكستان وأفغانستان وغيرهم، وقُل معهم آلاف الأبرياء من النساء والأطفال.
***
مثّل عام 2001 عاما فارقا فى تاريخ صعود الصين للحاق بالولايات المتحدة، إذ شهد انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية، وقد دفع دخول الصين للمنظمة التجارية مع العالم واستغلال بكين رخص الأيدى العاملة الماهرة والضخمة لجذب ملايين المستثمرين، وحققت الصين طفرة تنموية غير طبيعية خلال العقود الأربعة الأخيرة
من الناحية الجيواستراتيجية، شغلت الحرب على الإرهاب الولايات المتحدة بمعارك هامشية فى دول فقيرة هامشية، وجاء ذلك على حساب الاستراتيجية الكونية حيث ركزت الصين على النمو الصناعى والاقتصادى والعسكرى، والذى كان نقطة الانطلاق له قبل 20 عاما. من هنا مثّل عام 2001 عاما فارقا فى تاريخ صعود الصين للحاق بالولايات المتحدة، إذ شهد انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية، وقد دفع دخول الصين للمنظمة التجارية مع العالم واستغلال بكين رخص الأيدى العاملة الماهرة والضخمة لجذب ملايين المستثمرين، وحققت الصين طفرة تنموية غير طبيعية خلال العقود الأربعة الأخيرة جعلتها تتقدم وتصبح صاحبة الاقتصاد الثانى فى العالم من حيث الكم.
صاحب ذلك خروج الكثير من التحليلات عن قرب وصول الاقتصاد الصينى للمرتبة الأولى، وقد يكون هذا التصور صحيحا فيما يتعلق بالكم، لكن عندما تتعلق المقارنة بالكيف، فما زال أمام الصين أشواط كبرى وطويلة واجب اجتيازها على مهل. وفى الوقت الذى لا يخشى فيه الكثير من الأمريكيين صعود الصين ويرونه حتميا، وعليهم التأقلم معه والاستفادة منه. ما يقلق الأمريكيين ويؤرق نومهم هو ما أفضى إليه حال الديموقراطية الأمريكية خلال السنوات الأخيرة، وحالة الاستقطاب الواسعة التى تُقسّم الأمريكيين. ومثلت أحداث 6 يناير/كانون الثاني الماضى، حين تم اقتحام مبنى الكابيتول، ضربة للديموقراطية الأمريكية فى قلبها مع رفض أنصار رئيس منتخب نتائج انتخابات خسرها، بل تمادى ليؤكد أنها مزورة من دون أن يقدم دليلا ملموسا على ذلك، وهو ما يفتح الباب للتشكيك فى نتائج الانتخابات المستقبلية.
وتجىء ذكرى 11 سبتمبر/ايلول هذا العام والعالم يحبس أنفاسه مما هو قادم بعد المشاهد الأليمة فى محيط مطار كابول. لقد اعترف الرئيس جو بايدن بأن هدف بلاده لا يجب أن يتعلق بإعادة بناء دول أو مجتمعات أو تشكيلها على النسق الأمريكى. واستغرق الوصول لهذا الاعتراف عقدين من الزمان وتكلفة ضخمة من الدماء والأموال، ومن السمعة الدولية التى لا يُتخيل معها مرة أخرى أن يقول العالم، كما قال يوم 12 سبتمبر/أيلول 2001، إننا «كلنا أمريكيون».
(*) بالتزامن مع “الشروق“