تقف إيران حائرة وخائفة من تطورات النزاع الدائر بين أذربيجان وأرمينيا حول اقليم ناغورنو قره باخ، بعدما قرر الصديق اللدود الرئيس التركي رجب طيب اردوغان دعم أذربيجان، سياسياً وعسكرياً، لاستعادة الإقليم والمناطق المحيطة به التي احتلتها أرمينيا في حرب بدأت هناك في أوائل تسعينيات القرن الماضي. وترغب باكو في الثأر متسلحة هذه المرة بالغطاء الأردوغاني الذي بات متمرساً باللعب على حافات الهاويات واستمراء تشكيل ند للكبار في حدائقهم الأمامية والخلفية، كما فعل في سوريا والعراق وليبيا وبحر شرق المتوسط والقائمة قد تتوسع لتشمل لبنان في يوم ما.
وتبدو طهران كما لو أنها تسير على حبل رفيع مشدود بين قمم القوقاز الملتهب بمعارك تصفية حسابات تاريخية واتنية وطائفية وجيوسياسية. معارك يمكن ان يؤدي حسمها، بإنتصار أذري في قره باخ، الى تغيير الجغرافيا السياسية للمنطقة بأكملها هناك.
ما هي العوامل التي تجعل إيران ساهرة وقلقة ومواكبة لمسار المعارك ومآل الوساطات لوقف تلك الأعمال العسكرية الخطيرة؟
أولاً، لإيران حدود مع الطرفين المتنازعين، وسقطت قذائف في بعض القرى الإيرانية المتاخمة لتلك الحدود المشتعلة حرباً، فضلاً عن حركة طيران عسكري لهذا الطرف او ذاك قد تدخل في لحظة ما المجال الجوي الإيراني وتستدعي رداً يشعل فتيلاً لا تريده ايران، في وقت لا ينقصها فيه فتح معركة جديدة هي بغنى عنها تماماً، لأن في حضنها ما يكفيها من ملفات ساخنة في خليج فارس وسوريا واليمن ولبنان.
ثانياً، في إيران أقلية (كبيرة) من أصول أذرية وتركمانية تشكل 16 الى 25 في المائة من اجمالي السكان، اي نحو 12 الى 19 مليونا في مقابل أرمن إيرانيين لا يتجاوز عددهم 150 ألفاً. ونزل من تلك الأقلية في الشوارع متظاهرون رفعوا شعارات “تحيا اذربيجان” و”قره باخ لنا”، ما دفع ممثلي المرشد السيد علي خامنئي في عدد من المناطق التي فيها سكان اذريون (اذربيجان الشرقية والغربية وزنجان وأردبيل) الى توكيد حق اذربيجان في بعض مطالبها، الى جانب تصريحات رسمية أخرى حذرت تركيا من صب الزيت على النار. لكن الأكثر سماعاً في طهران الآن هو آذان التهدئة لوقف اطلاق النار، وفتح المجال لوساطات تعرض طهران واحدة منها. الأكيد أن أي تشظٍ عرقي في دول الجوار الإيراني سيرتد على إيران، كما علي باقي الدول المتنوعة الأعراق. لذلك، لا مصلحة للقادة الايرانيين، من إصلاحيين ومحافظين، في نصر اذري يوقظ نزعات انفصالية تهدد سلامة إيران ووحدة اراضيها. نصر يعظّم الشعور القومي الأذري الحالم بالانضمام الى “اذربيجان العظمى”، اي ذلك المشروع القائم في اذهان عتاة تلك القومية الساعية لاستعادة أمجاد غابرة واسترجاع اجزاء من ايران وجورجيا وداغستان حيث ينتشر سكان أذريون، وكيف اذا كان هذا النصر بمساعدة اسرائيلية ـ تركية مركبة؟
لا مصلحة البتة للقادة الايرانيين، من إصلاحيين ومحافظين، في نصر اذري يوقظ نزعات انفصالية تهدد سلامة إيران ووحدة اراضيها
ثالثاً، تنظر طهران بعين الحذر الشديد الى العلاقات الأذرية الإسرائيلية المتنامية بقوة منذ 10 سنوات على الأقل. فاسرائيل المصدر الأول للأسلحة والعتاد الحربي الوارد الى اذربيجان، وبنسبة 60 في المائة بين 2015 و2019 مقابل 31 في المائة من روسيا. ففي 2016، على سبيل المثال، أعلنت باكو انها استوردت من تل ابيب تجهيزات حربية بقيمة 4.8 مليار دولار. وتتباهى بعض الصحافة الاسرائيلية مؤخراً بقصص طائرات من دون طيار تصنعها شركات عبرية وتستخدمها اذربيجان محملة بالمتفجرات لنسف نقاط معينة حساسة في جبال ووديان ناغورنو قره باخ.
الى ذلك، لا تقتنع طهران كثيرا بنفي باكو تواجد “الموساد” الإسرائيلي في اذربيجان. فالأمن القومي الايراني بات مستهدفا، بنظر الحرس الثوري، عن قرب في خليج فارس بعد التطبيع الاماراتي والبحريني مع اسرائيل وبالعلاقات المشبوهة في الشمال بين باكو وتل ابيب. اما اقتصاديا فيكفي ذكر تلبية الجزء الأكبر من حاجات اسرائيل من النفط الاذربيجاني وبنسبة تزيد عن 40 في المائة. ثمة إستشعار إيراني بحصار من كل الجهات، يستهدفها كما روسيا، بالقلاقل والحروب والتوترات والعصبيات.
رابعاً، في المقابل، لا تريد إيران اغضاب تركيا التي تعتبر رئة تنفس اقتصادي لها في ظل عقوبات اقتصادية أميركية هي الأقسى في تاريخ العقوبات الدولية، وترغب في زيادة امداد الغاز الايراني لتركيا، بدليل رسالة تلقتها انقرة قبل أيام تطلب فيها طهران تمديد اتفاق الغاز بين الطرفين، بينما تسعى تركيا الى التزود بالغاز اكثر من اذربيجان ومساعدة باكو في مشروع مدعوم أميركياً لمد انابيب من بحر قزوين إلى ايطاليا يضعف الغازين الروسي والإيراني في مشهدية التنافس الطاقوي.
خامساً، تنفي طهران الاتهامات الموجهة إليها بشأن تزويد أرمينيا بالسلاح بشكل مباشر، او السماح بامدادات تمر عبرها. لكن العلاقة الاقتصادية الجيدة بين طهران ويريفان ليست سراً خصوصا في مجالي الطاقة والتجارة، ولا ترغب ايران بالتفريط بها في ظل التهديد الأميركي بخنق البلاد اقتصاديا حتى “الموت” فأي شريان حياة مهما كان صغيراً يبقى مفيداً لإيران في حربها الاستنزافية مع الولايات المتحدة واسرائيل وبعض دول الخليج العربي. كما أن العلاقات بين ايران وارمينيا ممتازة عموماً، برأي البلدين، وتريد يريفان تعزيزها أكثر لتعويض نقص المنفذ البحري والحؤول دون الحصار التركي من الغرب والاذربيجاني من الشرق.
سادساً، يرد أذريون وأتراك باتهام ايران بازدواجية المعايير. فاذا كانت ضد المحتل الصهيوني لفلسطين، كيف تسكت عن الاحتلال الأرميني لإقليم ناغورنو قره باخ ومناطق اذربيجانية اخرى حول الاقليم؟
سابعاً، تخشى ايران من امكان سلوك اردوغان طريق استخدام المرتزقة في هذه الحرب، بعد سريان شائعات عن استقدام سوريين الى المعارك على غرار ما فعل في ليبيا. ولا تخفي طهران هواجس متعلقة بامكان ظهور “دواعش” فجأة يجذبهم عش الدبابير الصاخب بأزيز هذه الحرب التي يراد لها ان تكون ثقباً اسود جديداً في نزاعات جيوسياسية وطائفية واتنية غامضة، كما حصل في سوريا والعراق.
ثامناً، تريد طهران، في سرها، من سيد الكرملين أن يضرب يده على الطاولة لوقف الحرب وارغام اطرافها على مفاوضات سلمية. ولا تعارض طهران بقاء القوقاز حديقة روسية ممنوعة على تركيا والولايات المتحدة الأميركية واسرائيل. ولا يضيرها بشيء اذا هب الروس الارثوذوكس لنجدة اشقائهم الأرمن في المذهب عينه في مواجهة محاولة “تركنة” القوقاز التي يحلم بها اردوغان مستفيدا من الأصول التركمانية لعدد من سكان تلك المنطقة. والأهم من ذلك مراعاة بوتين شبه واجبة لما له من مواقف داعمة لإيران في مجلس الأمن فضلاً عن التحالف بين الطرفين في سوريا.
تريد طهران، في سرها، من سيد الكرملين أن يضرب يده على الطاولة لوقف الحرب وارغام اطرافها على مفاوضات سلمية
تاسعاً، هذه الحرب ليست عرقية أو دينية بالنسبة لإيران، انها الحرب شبه الوحيدة التي عليها الحياد فيها من دون السماح بفوز ساحق لطرف على آخر خصوصا منع تفوق اردوغان على بوتين ليثأر من تدخله في سوريا وليبيا، فلا مصلحة لإيران في إنتصار أية قوة على الثانية، ولذلك، تسعى للقيام بوساطة على قاعدة ضمان حقوق الطرفين المتصارعين.
عاشراً، إذا كانت الولايات المتحدة غير مهتمة كثيراً بهذه الحرب حالياً لاستنزاف روسيا وتركيا فيها، فانها سترجع اليها في يوم ليس ببعيد. وربما ستأتي لحسم على حساب إيران وفقاً للمتطيرين الفرس من أي هبة هواء آتية من وراء المحيط الاطلسي لا سيما في عهد ترامب المشؤوم إيرانياً إلى يوم الدين!