منذ فوز ترامب في الإنتخابات الرئاسية في 3 تشرين الثاني/نوفمبر 2016 وحتى تسلمه مهامه في 20 كانون الثاني/يناير 2017 ، ظهرت بوادر خلاف داخل ما تسمى “الدولة العميقة” الاميركية (الخارجية، الدفاع، المجموعة الاستخبارية، الكونغرس، القطاع الصناعي، المصارف وبورصة وول ستريت). اساس الخلاف هو الموقف من طروحات ترامب خلال الحملة الانتخابية واحتمالات ان ينفذ تعهداته. اساس وعوده تعزيز العلاقة مع روسيا من خلال اشادته بالرئيس فلاديمير بوتين مرات عديدة والتشدد في العلاقة مع الصين من زاوية قلقه من الاقتصاد الصيني وإحتمال تغلبه على الإقتصاد الاميركي وصعوده إلى المرتبة الاولى عالمياً.
بدا الرئيس ترامب وكأنه يريد أن يهندّس عكسياً ما حصل مع ريتشارد نيكسون وهنري كيسنجر في العام 1972، عندما زارا الصين وتعززت العلاقة الاميركية ـ الصينية، على حساب العلاقات الاميركية ـ السوفياتية في حينه والتي إزدادات توتراً إثر دخول الإتحاد السوفياتي إلى أفغانستان في نهاية العام 1979. نجحت رؤية نيكسون ـ كيسنجر وأدى تحالف أميركا مع الصين إلى سقوط الإتحاد السوفياتي وتفكّكه بعد عقدين من الزمن وأصبحت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم.
منذ عقدين وتحديداً منذ وصول فلاديمير بوتين إلى الكرملين، تُعيد روسيا بناء قوتها، كما أن الصين تحقق تقدماً اقتصادياً مذهلاً ما قد يطيح بهيمنة القطب الاميركي الواحد.
إعترضت “الدولة العميقة” في الولايات المتحدة على رؤية ترامب، وأدركت أنه سينقلب على مشروع نيكسون ـ كيسنجر ويتحالف مع روسيا ويعزل الصين ويسقطها بعد فترة من الزمن. اول اجراء إحتجاجي قامت به هذه “الدولة” هو طرد 48 دبلوماسياً روسياً قبل تسلم ترامب مهامه. وفور دخوله إلى البيت الأبيض (20 كانون الثاني/يناير 2017)، تابعت “الدولة العميقة” طرد الدبلوماسيين الروس وإغلاق بعض القنصليات الروسية وإستكملتها بإتهام روسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية لمصلحة ترامب وارغام مستشار ترامب لشؤون الامن القومي مايكل فلين على الاستقالة بعد 27 يوماً من تسلمه مركزه وذلك بتهمة التخابر مع الروس، ثم تعيين محقق خاص مع صلاحيات واسعة للتحقيق في التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية وبلغت الاجراءات ذروتها في التحقيق مع ترامب شخصياً بغية إقالته من منصبه.
اذا اعتمد خيار مواجهة الصين وروسيا معا، كما يبدو الى حد ما حاليا، فان ذلك قد يفرض تحالف الضرورة بين الصين وروسيا في مواجهة الهيمنة الاميركية في العالم، لعل اخطر ما فيه هو احتمال توصل البلدين الى خلق مركز مالي دولي يتشارك مع الدولار في الهيمنة على اقتصاد العالم
بعد الإنتخابات الأخيرة في 3 تشرين الثاني/نوفمبر 2020 ونتائجها المتقاربة، رفض ترامب الاستسلام والاعتراف بالهزيمة وتابع معركة قانونية في العديد من الولايات الأميركية طمعاً بالوصول إلى المحكمة العليا (شكّك قبل يومين بإمكان قبول المحكمة العليا النظر بطعنه في الإنتخابات). يصر ترامب على أن يقاتل قانونياً واعلامياً. وسط هذه المعركة، لم تتضح وجهة “الدولة العميقة”، وتحديداً في ما يخص أولوية العلاقة مع روسيا أم مع الصين؟
اللافت للإنتباه أن روسيا لم توجه التهنئة بعد للرئيس “المنتخب” جو بايدن وإكتفت بالقول إنها ستحترم ارادة الشعب الاميركي مهما كانت النتائج، وقال بوتين رداً على سؤال عن العلاقة الاميركية ـ الروسية: “لا يمكن افساد العلاقات التي تم افسادها اصلاً”. اما الرئيس الصيني شي جين بينغ فقد وجه رسالة تهنئة الى بايدن شدد فيها على “تفادي اي نزاع او مواجهة والتمسك بالاحترام المتبادل في ذهنية تعامل يكون فيها الطرفان رابحين”.
يعكس موقفا بوتين وجين بينغ فهماً ملتبساً لموقف “الدولة العميقة” في الولايات المتحدة واي اتجاه ستسلك بعدما تمكنت من عرقلة توجه ترامب بتعزيز العلاقة مع روسيا، فكان أن ردّ عليها بالتشدد مع الصين وفرض عقوبات تجارية عليها، في اطار عقوبات اشمل طالت حلفاء في اوروبا وجيران الولايات المتحدة في المكسيك وكندا واخصامه في ايران وكوريا الشمالية وغيرهما.
هل تحافظ “الدولة العميقة” على خيار تعزيز العلاقة مع الصين وتلغي العقوبات المفروضة عليها، وتتشدد مع روسيا التي ألغت معاهدة الحد من الاسلحة النووية المتوسطة المدى وقررت تأجيل البت بتمديد معاهدة الحد من الاسلحة النووية بعيدة المدى؟
الاختيار بين الصين وروسيا ليس امراً سهلاً. يتطلب الخيار الصيني التشدد مع روسيا في أوروبا وخطوط نقل الغاز (السيل الشمالي وربما السيل التركي) وفي القطب الشمالي وأوكرانيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا. أما الخيار الروسي، فهو يتطلب نقل المعركة ضد الصين إلى الشرق الأقصى والباسيفيكي والتشدد معها في بحر الصين الجنوبي ومشكلة المياه الإقليمية وشرعية الجزر الصينية وفي اليابان وفيتنام والفيليبين وكوريا الشمالية وربما في تعزيز التحالف مع الهند المنافسة الاسيوية للصين.
انها قرارات كبيرة ليس من السهل الاتفاق عليها لا في الخيار الروسي ولا في الخيار الصيني. اما اذا اعتمد خيار مواجهة الصين وروسيا معا، كما يبدو الى حد ما حاليا، فان ذلك قد يفرض تحالف الضرورة بين الصين وروسيا في مواجهة الهيمنة الاميركية في العالم، لعل اخطر ما فيه هو احتمال توصل البلدين الى خلق مركز مالي دولي يتشارك مع الدولار في الهيمنة على اقتصاد العالم وعندها يبدأ فعلا التراجع الاميركي، وسط صمت اوروبي.
لا تبدو “الدولة العميقة” مؤسسة تنظيمية مؤطرة تمسك بالورقة والقلم والمسطرة. ثمة تناقضات في ما بينها. السؤال الاصعب هو هل يستطيع جو بايدن الفائز ـ أو ترامب إذا حقق معجزة كسبه المعركة القانونية ـ أن يوحد رؤية “الدولة العميقة” ويرسم استراتيجية واضحة كالتي رسمها نيكسون ـ كيسنجر في مطلع سبعينيات القرن الماضي وتبنتها إدارات أميركية مختلفة طوال عقود من الزمن؟