العراق: حراك كردستان.. “ميني ثورة” على الأحزاب التاريخية

إنفجار إجتماعي في إقليم كردستان أو "ميني ثورة". لا عناوين سياسية للحراك الذي إنطلق منذ مطلع هذا الشهر وراح يتوسع تدريجيا. لكن السياسة موجودة في الأسباب والتداعيات.. وحتماً النتائج.

بات معروفاً أن شرارة الحراك الذي إنطلق في إقليم كردستان هي قضية التأخر عن دفع رواتب موظفي القطاع العام منذ شهر أيار/مايو الماضي حتى يومنا هذا. تراكمت أزمة الرواتب على وقع حوار متعثر بين حكومة الإقليم والحكومة المركزية في بغداد، وجاءت عوامل سياسية لتزيد الأمور إشتعالاً في ظل إشتراطات بعض الكتل البرلمانية، بعدم دفع اي “شيك على بياض” للإقليم الكردي، ما لم يجر التفاهم على القضايا العالقة وأبرزها قضية النفط والموازنة والمالية ومرتبات قوات “البيشمركة” والمناطق المتنازع عليها بين الطرفين وتطبيق المادة 140 من الدستور المتعلقة بتطبيع الأوضاع في محافظة كركوك.

هذا الواقع جعل كتلة مليونية تتضرر من تأخر دفع الرواتب على وقع أزمة إقتصادية وصحية (كورونا)، فحكومة الإقليم تتحدث عن مليون وربع المليون موظف يعملون في القطاع الحكومي في كردستان، وهؤلاء لطالما تحركوا في مناسبات سابقة من هذه السنة، لكن تحركهم لم يتخذ طابعا واسعاً إلا في الأيام الأخيرة، حيث شمل كل مدن الإقليم. وبينما تحمل الحكومة المحلية للإقليم السلطة المركزية مسؤولية عدم الإيفاء بإلتزاماتها، وأولها دفع رواتب موظفي القطاع العام، ترد حكومة مصطفى الكاظمي أن حكومة الإقليم هي التي لم تف بإلتزاماتها وأولها  تسليم واردات 250 ألف برميل نفط يومياً، إلى جانب إيرادات المنافذ الحدودية (البرية والجوية)، وإعادة هيكلة قطاع الموظفين الحكوميين، حيث إرتفعت صرخة وزير المالية العراقي علي علاوي بقوله إن “الأشخاص الفضائيين” (المسجلين في قوائم الرواتب من دون مزاولة عمل أو أسماء وهمية يتقاضى رواتبهم بعض المسؤولين) يتراوح عددهم بين 200 ألف و250 ألف شخص (من أصل أربعة ملايين موظف حكومي)، أما الموظفون الذين بلا دوام “فأعدادهم أكثر من ذلك”، موضحا أن هاتين الفئتين تشكلان 15 إلى 20% من الموظفين وتخصص لهم 20% من موازنة الرواتب سنوياً والمقدرة بنحو 4 إلى 5 مليارات دولار سنوياً.

بطبيعة الحال، لم يكن وزير المالية يتحدث فقط عن الموظفين في إقليم كردستان بل عن مجمل القطاع العام. زدْ على ذلك واقع الإقليم الذي يتحكم به منذ أكثر من عقدين من الزمن الحزبان التاريخيان “الديموقراطي” و”الوطني”، ما أنتج منظومة فساد تتحكم بالقطاعين العام (التوظيف والموارد) والخاص بكل تشعباته.

وزاد الطين بلة قرار خفض مستوى الانتاج النفطي الذي جاء بناء على اتفاق في منظمة “اوبك”، وقضى بخفض العراق انتاجه مليون برميل يومياً، علماً أن الاقليم الذي ينتج ما بين 230 الى 250 الف برميل وافق على تخفيض الانتاج ضمن التخفيض الاتحادي اي إلى 103 الف برميل على ان تكون عائدات المبيع للاقليم زائدا 12 بالمئة من الميزانية يتحكم بالحصة الكبرى منها مسعود البارزاني.

من العوامل المهمة التي اجّجت الحراك ان الفراغ الذي أحدثه رحيل جلال طالباني لم يستطع أحد ملأه، ما ادى الى تنامي مطامع البارزانيين المنقسمين بين مسرور ونيجيرفان في عملية قضم السليمانية ومواردها

هذه المنظومة ـ المنهبة، كانت في صلب سقوط الموصل ومحافظات عراقية بيد تنظيم “داعش” في العام 2014، وبالتالي لم يعد بمقدور بغداد المضي في الإتجاه نفسه في ظل الدروس التي تعلمتها من هذه التجربة وفاقمها تراجع أسعار النفط وفيروس كورونا، ما أدى إلى نشوء واقع إقتصادي وإجتماعي ومالي غير مسبوق، فكان لا بد من خطوات لا تلبي فقط مطالب الحراك والشارع العراقي الذي لم يهدأ منذ سنة حتى الآن، بل حقيقة أن المضي بالسياسات نفسها سيؤدي إلى النتائج نفسها.

اللافت للإنتباه في حراك إقليم كردستان أنه تخطى قدرة الأحزاب التقليدية ولا سيما الديموقراطي الكردستاني على الضبط والتحكم، مع الاشارة الى ان من العوامل المهمة التي اجّجت الحراك ان الفراغ الذي أحدثه رحيل جلال طالباني لم يستطع أحد ملأه، ما ادى الى تنامي مطامع البارزانيين المنقسمين بين مسرور ونيجيرفان في عملية قضم السليمانية ومواردها.

والملاحظ أن شرائح كبيرة مزلت للمرة الأولى إلى الشارع، ينتمي معظمها إلى الطبقة الوسطى التي تتماهى مع الوظيفة العامة. هذا النزول وحرق مكاتب الأحزاب والشعارات والأعلام التي رفعت (علم العراق)، تشي بإنشداد الشارع الكردي إلى فكرة الدولة المركزية (ربط كافة موظفي القطاع الإقليم بالإدارة المركزية) وليس إلى الإنعزال ما يطرح أسئلة حول حقيقة مشروع الدولة الكردية الذي لطالما كان كامناً وإستدرج ردود فعل من أربع جهات الإقليم الرافضة لـ”المشروع الكردي”، أي إيران وتركيا وسوريا والعراق نفسه بمكوناته كافة.

وليس مبالغة القول إن هذا المشهد سيترك تداعيات على بعض الأحزاب الكردية الرئيسية التي كانت تراهن على وصول جو بايدن إلى البيت الأبيض وهو الذي لطالما كان يبدي حماسته منذ إحتلال العراق في العام 2003، إلى قيام ثلاث دويلات في العراق (كردية وسنية وشيعية)، علما أن بعض قيادات الإقليم لم تتردد في توجيه أصابع الإتهام إلى حزب العمال الكردستاني بالوقوف وراء المظاهرات والعنف الذي تخللها وأدى إلى مقتل ستة متظاهرين على الأقل وسقوط عشرات الجرحى وتوقيف أعداد غير محددة منهم حتى الآن.

إقرأ على موقع 180  الإستبداد.. وهزيمة مشروع الإنسان العربي

وقد فرض الإحتجاج الإجتماعي نفسه على حكومة الإقليم، فقررت إعادة فتح أبواب المفاوضات مع الحكومة المركزية التي ستتشدد أكثر من اي وقت مضى مع حكومة نيجيرفان بارزاني، حتى تنتزع منها ما تريده من موارد نفطية ومالية، بما في ذلك إقفال معابر التهريب التي تغرق العراق بالبضائع المهربة الآتية من إيران وتركيا.

وستكون المعادلة محسومة: تحصلون على الاستحقاقات المالية التي تطالبون بها مقابل تسليم بغداد حصتها المقررة من النفط والبالغة 250 ألف برميل من النفط يومياً.

ولا يبدو أن مصطفى الكاظمي سيكون مطلق اليدين في المفاوضات، إذ أن الكتل البرلمانية ولا سيما “التيار الصدري” بزعامة مقتدى الصدر و”ائتلاف دولة القانون” بزعامة نوري المالكي و”كتلة الفتح”(الحشد) بزعامة هادي العامري، يشترطون عليه إبرام إتفاق نهائي، قبيل بدء مناقشات مشروع قانون موازنة العام 2021 في البرلمان العراقي، ناهيك عن تلويح البعض بعدم تبني ترشيح الكاظمي لرئاسة الحكومة، في مرحلة ما بعد الإنتخابات النيابية المبكرة المقررة في الصيف المقبل.

عوامل عديدة تتحكم بالمشهد في إقليم كردستان، لكن إضعاف قبضة الأحزاب التقليدية هو مطلب إقليمي، كما هو مطلب الحكومة المركزية. لذلك، يمكن القول إن الحراك الحاصل يكتسي طابعاً إجتماعياً لكن نتائجه لن تغيب عنها السياسة بآثارها المتوسطة والبعيدة المدى.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  ثلاثة سيناريوهات لفيلم فيينا.. النووي!