إستهل وزير الخارجية الأميركي الجديد أنطوني بلينكن، يومه الأول في الوزارة، بالإعلان عن تعليق بعض صفقات أسلحة لكل من السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، بسبب “إعادة التدقيق فيها”، لمعرفة هل “تحقق الأهداف الإستراتيجية” للولايات المتحدة. ما أضمره بلينكن أفصحت عنه الناطقة باسم البيت الأبيض جين بساكي عندما قالت بعد ساعات إن الأهداف الاستراتيجية لأميركا هي في وقف حرب اليمن.
إذن، تجميد بعض صفقات السلاح إلى السعودية والإمارات، تعتزم الإدارة الأميركية الجديدة إستخدامه، كرافعة في مجرى الضغوط للتعجيل بحل سياسي للحرب في اليمن.
رب سائل، ما علاقة حرب اليمن بالإتفاق النووي؟
لوهلة، يبدو الأمران غير مترابطين، لكن عند التدقيق أكثر، يتبين أن وقف الحرب في اليمن غير ممكن من دون مساعدة إيران، الداعم الأساسي للحوثيين. واليمن هو أحد ساحات النفوذ الإقليمي الرئيسية لإيران، كما بغداد ودمشق وبيروت. وعندما يتحدث الغرب والعرب عن القلق من الأنشطة الإيرانية الإقليمية “المزعزعة للإستقرار”، يقصدون بها هذه الساحات.
هل واتت فكرة الذهاب إلى اليمن، بلينكن من سعيه إلى تطمين إسرائيل، بأن لا عودة تلقائية إلى الاتفاق، وأن المسألة تتطلب وقتاً واختباراً لنيات إيران؟
من اليمن ينطلق بلينكن في امتحان ديبلوماسي صعب، أخفق فيه من قبله جون كيري وريك تيليرسون ومايك بومبيو. وكتب دوف زاكيم في مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية قبل أيام، أنه يتعين على إدارة بايدن إختبار إيران في اليمن بحيث تطلب منها وقف دعم الحوثيين، وإعتبر أن مطلباً مثل هذا أقل كلفة على طهران، من الطلب منها مثلاً وقف دعم “حزب الله” اللبناني.
الفارق بين بلينكن ومن سبقوه، هو أنه سيقارب العلاقة مع إيران من البوابة الإقليمية، قبل الولوج إلى الإتفاق النووي، الذي بحسب ما قال إنها مسألة “ستستغرق بعض الوقت”، على رغم الإلحاح الأوروبي والروسي والصيني للمسارعة في إنقاذ الإتفاق النووي، قبل أن تتخذ إيران مزيداً من خطوات التصعيد، التي من شأنها أن تقضي على الآمال بامكان إحياء الإتفاق.
كلام بلينكن عن أن إحياء الإتفاق يحتاج إلى مزيد من الوقت، هدفه أيضاً تهدئة القادة الإسرائيليين المذعورين من إمكان عودة أميركية سريعة إلى الإتفاق النووي، مما يشكل ضربة قاضية لبنيامين نتنياهو على أعتاب رابع إنتخابات في إسرائيل خلال أقل من ثلاثة أعوام.
وعندما أطل رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال أفيف كوخافي الثلثاء الماضي من مركز دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب، لم يكن ينقصه سوى الإعلان عن ساعة الصفر، لبدء الحرب على إيران، مصطحباً معه “إئتلافاً عريضاً” يمتد من اليونان إلى دول عربية خليجية مروراً بمصر والأردن. ولم ينسَ توجيه الكلام مباشرة إلى الإدارة الأميركية الجديدة، قائلاً إن العودة إلى الإتفاق النووي “فكرة سيئة”. كلام إستفز حتى وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس الذي قال إن “الخطوط الحمر ترسم في الغرف المغلقة وليس في العلن”.
وتبع كوخافي، نتنياهو في كلمة وجهها لـ”العدو والصديق”، مفادها أن إسرائيل لن تسمح لإيران بامتلاك سلاح نووي، لأنه في هذه الحالة، فإن إيران، بحسب زعمه، “تستعد لإبادة ستة ملايين يهودي آخرين”. وفي ما يشبه الإنذار، قال بالحرف “ممنوع رفع العقوبات عن إيران”.
آخر شيء يريده بايدن، هو الإصطدام بنتنياهو في مستهل ولايته في البيت الأبيض. فعلها من قبله باراك أوباما وانتصر نتنياهو. وبايدن كان قريباً من التجربة. عندما يكون الكونغرس في بلد مثل أميركا يقف إلى جانب زعيم أجنبي أكثر من وقوفه مع رئيس بلاده، تتعقد الأمور، ولا يحصل المبتغى.
لا يريد جو بايدن تخريب ولايته من بدايتها، يكفيه دونالد ترامب واليمين القومي المتطرف.
فهل واتت فكرة الذهاب إلى اليمن، بلينكن من سعيه إلى تطمين إسرائيل، بأن لا عودة تلقائية إلى الاتفاق، وأن المسألة تتطلب وقتاً واختباراً لنيات إيران في قضايا إقليمية شائكة.. وهل ثمة أعقد من ملف اليمن.
قرار الحرب، لم يعد إسرائيلياً بحتاً، وتالياً، لن تقوم حرب من دون موافقة أميركا عليها. ومسارعة قائد المنطقة الوسطى الجنرال الأميركي كينيث ماكينزي إلى إسرائيل عقب تهديدات كوخافي، دليل على ذلك
لا تعدو خطوة بلينكن سوى نوعاً من التكتيك يخدم استراتيجية أوسع، تقوم على أن الديموقراطيين يؤمنون بأن الديبلوماسية، هي الخيار الأنسب للتعامل مع إيران، حتى ولو استمر البنتاغون في إرسال قاذفات الـ”بي-52″ الاستراتيجية للتحليق فوق الخليج وعزّزت البحرية الأميركية قطعها في المنطقة.
ولن تقارب إدارة بايدن الملف الإيراني وحدها على غرار ما فعلت إدارة ترامب. هناك الأوروبيون وروسيا والصين، وهي أطراف غير مستفزة لطهران، ويهمها إحياء الإتفاق النووي، وتفضل الخيار الديبلوماسي حصراً والإبتعاد عن لغة العقوبات والإنذارات وديبلوماسية القاذفات والبوارج. هذه كلها جرّبها ترامب، وكانت النتيجة أن إيران هي أقرب اليوم إلى القنبلة مما كانت عليه في 8 أيار/ مايو 2018، تاريخ الإنسحاب الأميركي الآحادي من خطة العمل المشتركة الشاملة.
وبرغم الوعيد الإسرائيلي والتحليق “الإستراتيجي” على حافة الأجواء الإيرانية، فإن الرسائل الأميركية ليست كلها سلبية حيال طهران. فتعيين روبرت مالي مبعوثاً خاصاً للشؤون الإيرانية، وهو أحد المهندسين الرئيسيين لاتفاق فيينا، يعني أن إدارة بايدن جدية في اعتماد الديبلوماسية.
وكلما نحت أميركا نحو الديبلوماسية، كلما صعّدت إسرائيل من لهجة الحرب، التي لا يمكن أن تحصل من دون ضوء أخضر أميركي، لا سيما بعدما باتت إسرائيل تابعة لقيادة المنطقة الوسطى في الجيش الأميركي. وهذا يعني أن قرار الحرب، لم يعد إسرائيلياً بحتاً، وتالياً، لن تقوم حرب من دون موافقة أميركا عليها. ومسارعة قائد القيادة الوسطى الجنرال الأميركي كينيث ماكينزي إلى إسرائيل عقب تهديدات كوخافي، دليل على ذلك.
ومن باب التذكير فقط، فإن زيارات الجنرالات الأميركيين لإسرائيل، كانت تحدث بوتيرة متسارعة، قبيل التوقيع على الإتفاق النووي عام 2015، كما أن التهديدات الإسرائيلية بقصف إيران والترويج لسيناريوهات الحرب، كانت مماثلة لما هو حاصل اليوم.
ومع ذلك، اختار بايدن، الذهاب إلى اليمن، كي يختبر أكثر من طرف في الشرق الأوسط، وكي يقول أن واشنطن لا تعود مباشرة إلى الإتفاق النووي. بل إنها تبدأ من المساحة التي تدور فيها الحرب بالوكالة على الأقل منذ ست سنوات.
وحرب اليمن تعني السعودية ودول الخليج العربية، على حد سواء. وتهدئة هذه الساحة، لا بد تاركة أثراً على باقي الساحات الساخنة إقليمياً.