التراجيديا اللبنانية والـ Total collapse

يختزل المسار الممتد من الرابع من آب/ أغسطس 2020 إلى الرابع من شباط/ فبراير 2021 التراجيديا اللبنانية بكل أبعادها.

تتصل تلك التراجيديا بالعمل المنظم والجماعي من اركان الدولة العميقة اللبنانية، بكل فروعها السياسية والأمنية والمصرفية، مترافقة مع مؤثرات إقليمية وضغوط دولية، على اذلال الشعب اللبناني بمكوناته كافة، وتخصيص البعض منه، إما بعقاب جماعي كحالة طرابلس، من أجل استخدام هذا العقاب للتلويح به لمن يريد احياء ثورة للجياع  او المظلومين في مناطق لبنانية مختلفة ومتنوعة، او بعقاب فردي لتأديب الجماعة او تحريضها (لا فرق) كما في حالة اغتيال لقمان سليم. وما بينهما، تناتش حصص وتقاذف مسؤوليات وشح في الأموال والثمرات ومحاكم صورية، سياسية، استفزازية، ومحاكمات عادلة تطال الأفراد وليس مكونات السلطة ومندرجاتها.

أما التحقيقات، كل التحقيقات عن تفجير المرفأ، أو أحداث طرابلس، أو إغتيال لقمان سليم،  وقبلهم التحقيق الجنائي في حسابات الدولة ومصرف لبنان المركزي، فلا يختلف لبنانيان على أن اياً من تلك التحقيقات لن تُظهر الحق، ولن تأتي بالمسؤول عن الإرتكاب كي ينال جزاءه وكي يرتدع أي مرتكب أو مجرم أو ظالم من الإيغال في أفعاله.

أحدٌ في السلطة،  بل في كل السلطات، لا يريد ولا يرغب وغير معتاد على تحمل المسؤولية  بل على العكس، تأتي جملة (“ما خلوني”) كالحل السحري للعجز والتواطؤ والإرتكاب والشحن الطائفي والمذهبي وكل عدة الشغل في السياسة اللبنانية المشبعة تفاهة وسقوطًا.

التراجيديا اللبنانية تُختَزَل بتحرك العالم كله للوقوف إلى جانب لبنان من جهة، وتَمنُع ساسة وقادة لبنان عن التفتيش عن حلٍ او عن الشروع في تشكيل حكومة توقف التحلل الكامل للبلاد من جهة أخرى.

التراجيديا اللبنانية تُختَصَر ببيان رئيس حكومة لبنان في شهر ايار/ مايو العام الماضي عندما تحدث عن ٩٧٪ انجازات.

التراجيديا اللبنانية تختصر بالتسريبات المسجلة من أعلى مركز للسلطة في لبنان والردود والردود المضادة عليها، في حين ان الناس تأنُ نتيجة الظروف المالية والإقتصادية والإجتماعية وجائحة كورونا.

تجربة انهيار العراق لم تكن تلك التجربة التي  يعوّل عليها، إذ دُمّرّت الدولة، أما من جاء إلى الحكم، فقد كان أسوأ في ادارة الدولة ومقوماتها ممن سبقه، بما لا يقاس بالمطلق، زدْ، ان التدخلات الإقليمية في العراق اطاحت بنسيج البلد والتدخلات الأجنبية اطلقت وحش داعش فيه

الإنهيارات توالت من القطاع المصرفي، إلى القطاع الصحي، فقطاع التعليم؛ اما الصناعة فقد انهارت منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي وسبقتها الزراعة ولحقتها مؤخرًا السياحة وكافة مستتبعاتها.

الإنهيار حصل، وللمفارقة ـ أقله بالتوقيت ـ في عهد أُطلِقَ عليه او أَطلَقَ على نفسه تسمية “العهد القوي”، وفي ظل مقاومة فقدت معظم الدعم الوطني وعناصر القوة غير العسكرية منذ سنوات ليس بسبب مواجهتها المحقة لعدو حاقد ومحتل وتاريخي، لكن بسبب سوء إدارتها للعديد من الأزمات الداخلية وتنصلها مما يفعله اي حليف او صديق او شريك برغم حضورها وتأثيرها.

الإنهيار حصل وها هم أهل السلطة يتنازعون على كل شيء في لبنان وصولًا إلى لب مشكلة التنازع: المال الحرام حتى نختصر المسافة ولا نتحدث عن حقوق وتعيينات وعناد ومكابرة.

وبرغم  توفر فرصة دولية يمكن ألا تتكرر، يكابر الجميع محليًا، ويُصرّون على وضع البلد على سكة المراوحة القاتلة من خلال تشبثهم بمواقفهم ومواقعهم ومكاسبهم وكأن بلدهم بألف خير.

وبعد،

تسري نظريتان اليوم:

أولى، تتبنى الترويج للتهديم الكلي والإنهيار التام للدولة وكل مكوناتها total collapse وصولًا إلى الإطاحة بالطبقة السياسية. لهذه النظرية من يؤيدها ويروج لها مع حجج يُعتدُ بها ابرزها واهمها الا امكانية نهوض واستنهاض في الظروف الحالية وبواسطة الأدوات والبنى نفسها.

ثانية، تود الحفاظ على هيكل الدولة العظمي الفاقدة  الشحم واللحم، المُعطلة وظائفها كلها، من ادارة وقضاء واشغال، إلى قوى امنية خائرة تنزف رويدًا رويدًا.

وبرغم توافر الحجج للنظرية الأولى، بيد ان تجربة انهيار العراق لم تكن تلك التجربة التي  يعوّل عليها، إذ دُمّرّت الدولة، أما من جاء إلى الحكم، فقد كان أسوأ في ادارة الدولة ومقوماتها ممن سبقه، بما لا يقاس بالمطلق، زدْ، ان التدخلات الإقليمية في العراق اطاحت بنسيج البلد والتدخلات الأجنبية اطلقت وحش داعش فيه.. وليس المثال الليبي بأنظم وأفضل حال. في العراق وليبيا، كان البديل أسوأ وجعل كثيرين يترحمون على أنظمة ديكتاتورية مضت!

الناس تخشى المجهول، وغياب القيادات الوطنية الرشيدة يجعل كل فئة تتمسك بقائد فئتها او طائفتها او جماعتها ليس حبًا وقناعة بل لخوف من آتٍ مجهول أو للحفاظ على مصالح صغيرة تطيح بالمصالح الجماعية عند حدود الأفراد.

هذه المرة تبدو الفرصة المتاحة، فرصة أخيرة لايقاف العربة في كعب الوادي قبل أن تتحطم وتذهب كل قطعة إلى مكان وهوة، فهل نلتقط الفرصة أو نضيعها كما اعتدنا على مدى عقود؟

مع انفجار مرفأ بيروت المشؤوم، جاء رئيس فرنسا بمبادرة عاطفية صادقة تلمس فيها مصلحة استراتيجية بوضع قدمه في منطقة أُزيحَ منها الفرنسي وضُرِبَت مصالحه، من ايران الى السعودية فالعراق وسوريا. مبادرة تفتقد عناصر تحصين متنوعة:

إقرأ على موقع 180  اليمن ممر إلزامي لأي حوار سعودي ـ إيراني

من جهة، لا تُرضي اللبنانيين الذين ثاروا على فساد قادتهم وطالبوا بعدم اشراكهم في صناعة القرار مجدداً، وفي الوقت نفسه، لا ترضي الطبقة السياسية بتجاوزها في تأليف حكومة برئاسة وعضوية شخصيات من خارج سيطرتها، هذا في بدايات المبادرة الماكرونية.

من جهة ثانية، لا ترضي دولًا عدة كانت تبنت نظرية الإنهيار التام بإعتبار أن آخر الدواء هو الكي، تاليًا لا ترضي اميركا دونالد ترامب التي ارادت زيادة الضغط على بلد يمسك بكل مفاصله حزب الله، وفق أدبياتهم المعروفة.

من جهة ثالثة، لا ترضي حزب الله الذي كان يتمنى الا يكون الفرنسي صاحب المبادرة، فالإيراني يفضّل، تاريخياً، أن يعطي للولايات المتحدة ويأخذ منها.. و”البازار” مفتوح في ايران واليمن والعراق وسوريا ولبنان، وذلك مقابل حصوله على اعتراف بدور ونفوذ اقليمي كبير.

برغم ذلك، لم تيأس باريس وهي تسعى إلى جعل مبادرتها شبه اوروبية ـ فاتيكانية تحظى برضى عربي في ظل التبني المصري ـ الإماراتي الساعي لإستدراج السعودية إلى موقع الدعم أو الحياد الإيجابي، لكن الأهم سعي باريس إلى تغطية مبادرتها أميركياً، مستفيدة من حقيقة وجود إدارة أميركية جديدة تريد العودة إلى ممارسة سياسة الإحتواء والتقدم وتريد فتح  باب الحوار على مصراعيه، وصولًا إلى تحقيق اهداف الولايات المتحدة الأميركية في ضرب التمدد الصيني حصرًا بعدما اصبح الإقتصاد الصيني يمثل ٧٠٪ من الإقتصاد الأميركي، بينما كان يمثل ٦٠٪  قبل اربع سنوات، اي عند دخول ترامب إلى البيت الأبيض.

عدم وجود لبنان على لائحة الأولويات الأميركية قد يكون فرصة بعكس ما يظن البعض، لتأليف حكومة سواء برئاسة سعد الحريري – الذي يعمل على تعزيزموقعه كرئيس حكومة غير قابل للإستبدال – أو سواه. حكومة  تتبنى سياسة اصلاحية واضحة في ملفات محددة وتحت اشراف “أهل” المبادرة الفرنسية بشكل واضح وفاضح وخارق لـ”السيادة الوطنية”، من خلال متابعة البرنامج الإصلاحي من القضاء إلى الكهرباء إلى المصارف إلى ترشيق القطاع العام واعادة تكوينه واعادة النظر في منح الرتب العسكرية والترقيات (مثلًا، لماذا يفيض عدد جنرالات الجيش اللبناني عن عدد جنرالات الجيش الفرنسي او التركي؟).

نعم، هذه فرصة لولادة حكومة مهمتها محددة بالزمان وجدول الأعمال وصولًا إلى انتخابات نيابية تحترم ارادة اللبنانيين الراغبين في التغيير عبر قانون منصف وفرص متكافئة. حكومة لن تربي لحمًا على الهيكل العظمي  بل تضع لبنان امام مفترق اما يؤدي إلى الحفاظ على ما هو موجود والبناء على ما هو افضل او الذهاب إلى الإنهيار الكامل الذي لا قيامة بعده.

هذه المرة تبدو الفرصة المتاحة، فرصة أخيرة لايقاف العربة في كعب الوادي قبل أن تتحطم وتذهب كل قطعة إلى مكان وهوة، فهل نلتقط الفرصة أو نضيعها كما اعتدنا على مدى عقود؟

كلمة اخيرة، ومن خارج السياق:

أهمية لبنان بتنوع أبنائه والحضور المسيحي فيه من أهم اساسات وجوده، لكن بات لزامًا على الفاتيكان بما يمثل وبما يؤثر عالميًا تحديد البوصلة حول كيفية الحفاظ على حقوق المسيحيين في لبنان وعلى وجودهم  في هذا الشرق كله، لا ترك مسألة المطالبة بالحقوق بيد فئات اثبتت منذ عقود انها لا تريد الحفاظ الا على حضورها هي ومصالحها هي، ودائمًا على حساب المسيحيين، وهذا موضوع مقال آخر.

Print Friendly, PDF & Email
خلدون الشريف

كاتب سياسي لبناني

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  تحولات الهوية في لبنان: الدولة أولاً