تناغم فاتيكاني-فرنسي حول لبنان… لا تبني باباوياً للمبادرات البطريركية

ما هي القراءة الدبلوماسية والسياسية في الكلمة التي ألقاها البابا فرنسيس في مناسبة اللقاء التقليدي السنوي مع أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي في الفاتيكان؟

اللقاء البابوي التقليدي السنوي، الذي يجمع في بداية السنة الجديدة البابا بأعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي في الفاتيكان، تأخر هذه السنة من كانون الثاني/يناير الى بداية شباط/فبراير بسبب وعكة صحية ألمت بالبابا فرنسيس، لذلك تم اللقاء أمس الاثنين في “قاعة البركات” الكبرى المؤهلة لاحترام قواعد التباعد والمرافقة لوضع الكمامات.

كلمة البابا جاءت مسهبة وشاملة تضمنت مراجعة لاحداث العام المنصرم 2020، وابرزها التداعيات الصحية والانسانية والاقتصادية والاجتماعية لانتشار جانحة كورونا (التي خلفت شحنة من الخوف واليأس والكثير من الحزن مع الدخول في دوامة التباعد والشك المتبادل واقامة الحواجز على حد قول البابا)، مع رسم تطلعات رأس الكنيسة الكاثوليكية لأبرز قضايا العالم للسنة الجديدة 2021 في شتى المجالات الصحية والبيئية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

وأهمية هذه الجردة أنها تأتي بعد مرحلة من الإعداد الطويل من قبل الدوائر الدبلوماسية الفاتيكانية تستمر أسابيع انطلاقاً من تقارير سفاراتها المنتشرة في دول العالم، وتواكبها مشاورات جانبية بعيدة عن الاضواء مع أبرز عواصم القرار المعنية بالأزمات الدولية والإقليمية، إضافة الى اتصالات مع عدد من السفراء المعتمدين لدى الكرسي الرسولي.

هذه قراءة في مضمون المواقف البابوية حيال الازمات التي تهم لبنان والعالم العربي من خلال التواصل مع أوساط فاتيكانية تتابع عن قرب توجهات الكرسي الرسولي، حيث تم تسجيل الملاحظات التالية:

في القضية اللبنانية

أولاً، من سمع كلمة البابا مباشرة واطلع على نص كلمته كاملاً بدا له ملفتاً ومميزاً مدى “الاهتمام البابوي الاستثنائي” بموضوع لبنان حيث لم يقتصر ذكره بالاسم او الاشارة الى بعض العناوين بل تعدى ذلك الى التحدث بالتفاصيل. وكانت الفقرة المخصصة للأزمة اللبنانية أطول فقرة مخصصة لموضوع سياسي واحد في الكلمة البابوية الجامعة.

ثانياً، التأكيد على الطابع “الداخلي” للأزمة اللبنانية، ومن هنا كان التوجه مباشرة الى “جميع القادة السياسيين والدينيين” في لبنان من اجل “وضع مصالحهم الخاصة جانباً لتنفيذ الاصلاحات الحقيقية والتصرف بشفافية وتحمل مسؤولية أفعالهم”.

ثالثاً، إبراز، وللمرة الاولى بهذا الوضوح والحزم، موضوع “الوجود المسيحي” في لبنان، وضرورة عدم ادراجه في اطار “حماية الأقليات”، بل اظهار دوره المميز بصفته “النسيج الرابط التاريخي والاجتماعي” لهذا البلد، مع التشديد على وجوب توفير “ضمانة استمرارية عمل المسيحيين من اجل خير البلد الذي كانوا من مؤسسيه وتقديم مساهمتهم فيه” والتحذير من ان “اضعاف هذا الوجود من شأنه ان يتسبب بفقدان التوازن الداخلي والواقع اللبناني نفسه”.

رابعاً، وضع اشكالية المحافظة على “الهوية الفريدة” للبنان و”المعرضة للفقدان” في اطار اقليمي اوسع واشمل وهو “ضمان شرق اوسط متعدد ومتسامح ومتنوع”.

خامساً، التحذير من ان “خطر افلاس” لبنان قد تنتج عنه “انحرافات اصولية خطيرة” من هنا اهمية الاسراع في عملية “انعاش الاقتصاد واعادة الاعمار”. 

سادساً، لا ذكر لا من قريب ولا من بعيد لمبادرتي البطريرك الماروني بشارة الراعي اكان على صعيد طرح موضوع الحياد او على صعيد الدعوة لمؤتمر دولي خاص بلبنان، في رغبة واضحة بعدم تبني اي من هذين المشروعين.

سابعاً، عدم وجود أية اشارة إلى نية البابا القيام بزيارة قريبة الى لبنان، ويبدو حسب هذه الاوساط ان هذا الموضوع غير مدرج حالياً على الروزنامة البابوية.

ثامناً، لا تخفي الأوساط وجود “تناغم” فاتيكاني – فرنسي في المواقف حيال ضرورة مواكبة المساعي لانقاذ الوضع اللبناني من الانهيار الكامل والشامل مع دعم بابوي لمساعي باريس.                               والجهتان متفقتان على ان الخطوات العملية الاولى مطلوبة من اللبنانيين انفسهم الذين عليهم تحمل مسؤولياتهم.                                       كما ان لا تحرك او مبادرة فاتيكانية منفصلة في الافق بل تواصل مع اصدقاء لبنان والمهتمين به وحث المجتمع الدولي على “تجديد الالتزام من اجل تعزيز الاستقرار” في هذا البلد. 

حذر البابا من ان “خطر افلاس” لبنان قد تنتج عنه “انحرافات اصولية خطيرة” من هنا اهمية الاسراع في عملية “انعاش الاقتصاد واعادة الاعمار”. 

في القضايا العربية

أولاً، اكثر منطقة من العالم جرى التطرق الى أزمات دولها هي المنطقة العربية من العراق الى سوريا الى فلسطين الى اليمن الى ليبيا وصولاً الى السودان.

 ثانياً، التأكيد على ان زيارة البابا إلى العراق ستتم في بداية شهر اذار/مارس المقبل (من 5 الى 8) كأول وجهة سفر الى الخارج للحبر الأعظم منذ وقف رحلاته الخارجية مع بداية انتشار وباء كورونا. ثم وضع هذه الزيارة في اطار عام من اجل “توطيد العلاقة بين الاديان بروح من المشاركة والحوار”، كما هي “مناسبة لمزيد من المعرفة والاثراء المتبادل وفرصة لدعم القادة السياسيين في مسؤولياتهم لبناء الخير العام”.

ثالثاً، ذكر سوريا مرتين. الاولى، عند اثارة الازمات الاقتصادية والاجتماعية والتوقف عند معاناة جزء كبير من السكان من انعدام الامن الغذائي وتفاقم الازمات الانسانية بفعل العقوبات الاقتصادية ومن هنا الاعراب عن “الامل في تخفيفها”. والمرة الثانية لدى التطرق الى الازمات السياسية مع الإعراب عن الامل في ان “تكون سنة 2021 العام الذي تكتب فيه نهاية الصراع السوري الذي بدأ قبل عشر سنوات” وذلك عبر التوصل الى حلول “يمكن من خلالها للجميع، بغض النظر عن الانتماء العرقي والديني، ان يساهموا في بناء مستقبل البلاد بصفتهم مواطنين”. والملاحظ ان البابا استخدم توصيف “سوريا الحبيبة”.

رابعاً، اليمن جاء البابا على ذكره مرتين أيضاً، الاولى لدى الحديث عن الاوضاع الانسانية الصعبة، والثانية حول ضرورة وضع حد للحرب عبر الحوار والوسائل السلمية والسياسية والدبلوماسية.

خامساً، لم يأت البابا على ذكر “اسرائيل” بالاسم بل تحدث عن “الاراضي المقدسة”، ووجه الدعوة الى اقامة  “حوار مباشر وحاسم بين الفلسطينيين والاسرائيليين” والطلب الى المجتمع الدولي دعم وتسهيل هذا الحوار ولكن “من دون املاء حلول”.

سادساً، تطرق البابا الى “الصراع الطويل والمضني” في ليبيا مع الاعراب عن الامل في ان يسمح “منتدى الحوار السياسي الليبي” في اطلاق عملية المصالحة المنتظرة في البلاد. 

سابعاً، الوضع الانساني المأساوي في السودان وخصوصا في جنوبه توقف عنده البابا اكثر من مرة، اكان للتحذير من خطر المجاعة وتفاقم مشكلة اللاجئين او لتوجيه دعوة ملحة لتواصل الحوار السياسي من اجل التوصل الى مصالحة وطنية شاملة. 

في نهاية كلمته استشهد البابا فرنسيس بكلمات للشاعر الايطالي الفلورنسي دانتي أليغييري قالها عن هدفه من ملحمته وهو “أن اخرج الذين يعيشون هذه الحياة من حالة البؤس وأقودهم الى حالة السعادة”، ورأى رأس الكنيسة الكاثوليكية “ان هذا هو ايضاً دور كل من السلطات الدينية والمدنية وان كان بادوار مختلفة وفي مجالات مختلفة”… فهل تستجيب هذه السلطات الى هذه الدعوة البابوية؟

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  عالمٌ بلا زعامة حقيقية.. وبشريةٌ مصابةٌ بشيخوخة مُبكّرة!
باريس ـ بشارة غانم البون

صحافي وكاتب لبناني مقيم في باريس

Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  ميشال شيحا ومنصور الرحباني.. الجنوب المُفتدى والخطر الإسرائيلي