“إنّه عام حاجي بكداش ولي”، هذا ما أعلنه الرئيس التركي عن العام الجديد. تسمية تحمل في مدلولاتها الكثير من الترميز، على وقع الإستحقاقات السياسيّة والإقتصادية والدستورية التي تشهدها البلاد. قلّة هم القادة الذّين يجيدون الإمساك بمخيّلة وحرارة التاريخ في تأجيج مشاعر شعوبهم، ولطالما تفاخرت الأمم وصنعت الأساطير عن ماضيها، حتى لو كان بسيطًا ومتواضعًا، لأن فهم بواطن الروح والعقل الجمعي للأمّة، يُعطي الحاكم قدرات إستثنائية وهائلة في التأثير والقيادة والإستمرارية.
في حالة تركيا، أنت لست بحاجة إلى صنع أسطورة، يكفيك فقط أن تكون ضليعًا في فهم هذا الإرث العظيم والطويل، كي تنهل منه ما شئت من قصص الحروب والدين والثقافة والإقتصاد والفنّ وحتى الأكل، وهذا تحديدًا ما يُجيد أردوغان تطويعه، ما يجعل منه، وبكلّ جدارةٍ، الزّعيم الأكثر فهمًا ومعرفةً ببواطن الأمّة التركيّة وبواعثها، والأمهرَ في إستثمار هذه المعرفة، محوّلًا شخصه إلى أيقونة انبعاث المارد التركي الجديد.
لم يخلُ الأمر من صدامات بين السلطة السياسية الحاكمة وبين شيوخ البكداشيّة ومدرستهم، وكان أبرزها قيام السلطان محمود الثّاني عام 1826م، بسحق الفرقة الإنكشاريّة التي شكلت عقبةً في وجه مشروعه التجديديّ الهادف إلى مأسسة السلطنة
حاجي بكداش ولي (1248 – 1337)
يشرح جون بارنز في دراسته حول طرق الدراويش في الإمبراطوريّة العثمانية (كتاب بعنوان “تكايا الدراويش”)، كيف تحولت القبائل التركمانيّة من الديانة الشّامانيّة التي كانت تعتنقها ـ وجوهرها أنه يمكن لزعمائها التواصل مع عالم الأرواح الخفي ـ إلى الدّين الإسلامي، لكن بشقّه الصّوفي تحديدًا. فقد وجد التركمان الشامانيّون في الصفاء الصوفيّ، ما يساعدهم على الإنتقال إلى “الإسلام” الشبيه بدينهم السابق. استطاعت القلندريّة، وهي طائفة صوفيّة لها تقاليدها السلوكيّة والعباديّة الخاصّة، وبينها تقدّيس الإمام عليّ، من استقطاب قسم كبير من القبائل التركمانية، خاصة على يد أحد أبرز شعراءها المتصوّفين أحمد اليوسفي (1166م)، لكنّها ظلّت برغم ذلك تشعر بالنّقص والظّمأ الرّوحي، بسبب استمرار تنقّل أفراد هذه الطائفة وعدم استقرارهم في منطقة واحدة.
حدث التحوّل الأبرز، بحسب جون بارنز، مع ظهور “حاجي بكداش ولي” قادمًا من خراسان إلى شرق أنطاليا، حيث قرّر البقاء والإستقرار هناك، جامعًا حوله مجموعة كبيرة من المريدين والأتباع، راحت تتعاظم وتتوسّع إلى أن تحوّلت البكداشيّة (نسبة إلى “حاجي بكداش ولي”) إلى الطريقة الصوفيّة الأقوى والأبرز، فطبعت السلطنة العثمانيّة ببصمتها، وأصبحت العقيدة التي غذّت مقاتلي الفرقة الإنكشاريّة، القوّة الضّاربة التي حملت العثمانيّة إلى وسط أوروبا وآسيا وشمال إفريقيا.
لم يخلُ الأمر من صدامات بين السلطة السياسية الحاكمة وبين شيوخ البكداشيّة ومدرستهم، وكان أبرزها قيام السلطان محمود الثّاني عام 1826م، بسحق الفرقة الإنكشاريّة التي شكلت عقبةً في وجه مشروعه التجديديّ الهادف إلى مأسسة السلطنة، وبطبيعة الحال، تلا ذلك تصادم مع البكداشيّة الملهم الروحي للفرقة الإنكشارية، حيث قام السلطان بملاحقة وإعدام رؤوسها، ومصادرة أملاك الفرقة والتكايا الخاصة بها في اسطنبول، وتنحية شيوخها من مراكزهم في الدولة واستبدالهم بشيوخ الطريقة النقشبندية.
الإنكشارية.. والروح الملهِمة
شكّل عهد أورخان ابن عثمان نقطة تحوّل في إدارة الدولة العثمانية وتنظيمها، حيث تابع بزخم التمدد العسكري مع صبغ السلطنة أكثر بالهويّة الإسلاميّة، ما حوّلها إلى تهديد حقيقي في وجه أباطرة بيزنطية، فبدؤوا يخشونها واضطروا إلى إقامة علاقات دبلوماسية وسياسية وحربية معها، ثم أُجبروا بعد ذلك على دفع الأتاوات.
تشير الكاتبة إيرينا بتروسيان في كتابها “الإنكشاريّون في الإمبراطورية العثمانية” إلى أنّ أورخان إمتاز باستيعاب التقاليد الدولية الحديثة للحكم، مستفيدًا من تجربة الممالك الإسلامية الأعرق منه، تحديدًا السلجوقية والمملوكية، فساهم تنظيمهُ لجيشهِ بنقلة نوعيّة.
مع مرور الوقت، إرتكز الجيش السلطاني إلى أعمدة عديدة، بينها جيش المشاة “يايا” المستقل عن وحدات الفرسان شبه العسكرية القبلية، وخيالة “سباهي” الفرسان الأقوياء من البدو الرّحل، وفيلق “عذب” المكوّن من سكان المدن الذين يُجلبون للخدمة العسكرية في أيّام الحملات فقط.
قام “حاجي بكداش ولي” بنزع كم قميصه ولف به ساق إبنه، الذي لم يرض بذلك بل جعل القماشة تزنر رأسه، بحسب إحدى الروايات، لتتحوّل إلى جزء من زيّ المقاتل الإنكشاري
بحسب الكاتبة، لا يوجد توثيق دقيق لبدء تشكيل الفرقة الإنكشارية، الجيش الجديد “يني تشيري”، لكن من المؤكد أن عهد السلطان مراد الأول إبن أورخان (1362ـ 1389م)، هو العهد الذي بدأت تظهر فيه الوثائق الرسمية لهذا التشكيل الجديد. ساعدت الفتوحات المتتالية والغنائم والأسرى، على تشكيل جيش من العبيد، أي الفرقة الإنكشارية، وفق نظام “بنجك” الذي يمنح السلطان خمس الغنائم بما فيهم الأسرى (معظمهم من الفتيان المسيحيين)، والذي تطور منتصف القرن الخامس عشر ليصبح نظام “ديو شيرمة” للخدمة العسكرية، بحيث أصبحت ذراع الجيش السلطاني الضارب، ولم يكن مسموحًا للأتراك المسلمين الإنضمام إليه، باستثناء مسلمي البوسنة، وذلك حتى القرن السابع عشر ميلادي.
لم يكن من السهل جذب هؤلاء المعتنقين الجدد للإسلام إلا من خلال البكداشيّة، حيث تنبه السلاطين الأوائل لذلك، فمنحوا شيوخها امتيازات داخل الترتيب الإنكشاري، فتحوّلت إلى المعين الرّوحي لهذه الفرقة، واستلهموا الكثير منها، على سبيل المثال، غطاء الرأس (قلنسوة بيضاء وفي خلفها شريطة عريضة معلقة تشبه الكم) مأخوذة من قصة “حاجي بكداش ولي” وإبنه الذي جرحت رجله في إحدى الرحلات، فقام “حاجي بكداش ولي” بنزع كم قميصه ولف به ساق إبنه، الذي لم يرض بذلك بل جعل القماشة تزنر رأسه، بحسب إحدى الروايات، لتتحوّل إلى جزء من زيّ المقاتل الإنكشاري. كذلك أخذوا رايتهم التي تحمل سيف ذو الفقار، والأخوية “آخي” من البكداشية أيضًا، ومن المعروف أنّ وليّ الأخوية هو عليّ ابن أبي طالب.
تداخل السياسة في الثقافة والتاريخ
لنوضح القضية بشكل واقعي وعملي. إنتصار أذربيجان في حرب ناغورنو قره باخ لم يكن عبارة عن معادلة سياسية وعسكرية فقط، بل هو في الحقيقة مزيج مركب من التاريخ والثقافة والسياسة والعسكر، استطاع أردوغان أن يجمع توليفتها بعناية فائقة، وأن يُخرج الإنتصار بأكثر الأبعاد اشتهاء. أذربيجان بلدٌ شيعيّ المذهب، تركي القوميّة، علماني الهوية، يحمل في جذوره عداءً ممتدًا للأرمن وبلاد الروس.
في روايته التاريخية “علي ونينو” (المرجح أنها كُتبت في بداية القرن العشرين)، يُجيد قربان سعيد مهمة تشريح هوية أذربيجان. رواية وقعت أحداثها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وكأنّها تحكي أحداث اليوم. الأرمن برغم خلافهم وعقدتهم من الرّوس، إلا أنهم في النهاية يفضلون التعاون مع جيش القيصر من أجل السيطرة على أذربيجان والخلاص من حكم العثمانيين، في حين، لم يستطع السيد مصطفى عالم الدين الشيعي “المتشدّد”، من إقناع علي ـ المتزوج من أرمنية ـ ورفاقه بعدم الوقوف في الحرب مع جيش السلطان لأنّه لم يكن شيعيًا، بل قاتل علي ورفاقه، وأيضا السيد مصطفى، وقُتلوا تحت الرّاية العثمانيّة دفاعًا عن أذربيجان.
من شيخ البكداشية في السلطنة العثمانية، إلى شيخ الإسلام السياسي في الجمهورية الأتاتوركية، هناك شخص قادر على استحضار الأرواح جميعًا وتسخيرها في خدمة أهدافه وسياساته وزعامته
هذا الأمر ليس جزءًا أو تفصيلًا بسيطًا. أن تتغلّب هويّتك القوميّة على انتمائك الدينيّ والمذهبي، أو بمعنى آخر، أن تتمكّن من جمع هذه العناصر المتداخلة والمتنافرة والمتناقضة أحيانًا، ثمّ تصهرها معًا في صورة واحدة أنت تتحكم بإطارها وكادرها، هذه مسألةٌ تحتاج إلى كثيرٍ من البراعة والفهم والقدرة.
إلهام الأمة بمخزونها التاريخي!
في حالة أردوغان، أنت تصنع انتصاراتٍ عسكرية استثنائية في الخارج، وتفرض وقائع جيوسياسيّة إقليميّة جديدة، وتمهدّ لنظام إقليميّ مختلف عن السّابق، إن وجد أصلًا. لكنّ المعضلة التي تقلقه هي المواجهة السياسية الداخلية التي باتت تهدّد أحاديته المطلقة، إذًا، فلنلهم الأمّة بمخزون تاريخها الذي لا ينضب.
ليست المسألة عبثيّة أو مصادفة، استحضار شخصيّة “حاجي بكداش ولي”. إنّه نقطة التقاءٍ بين جميع مكوّنات الأمّة التركية، الإثنيّة والدينيّة. فهو يجمع الأتراك والأكراد، السنّة والعلويين، المتدينين والعلمانيين، المدنيين والعسكر، وكلّ من هذه الفئات تنسبُ انتماءهُ إليها. فالطريقة البكداشية تنتمي للنظام السني وتخضع لقواعده وضوابطه، لكن بروح علوية تستلهم من علي وأبنائه، متمرّدة على القواعد الإسلامية الشرعية التقليدية، وأهمها الواجبات الدينية ومسألة الإختلاط وشرب الخمر، كما أنّه قطب صوفي للدراويش العزّل وملهم روحي للإنكشارية المسلّحة.
هذا الوصل مع العمق التاريخي لا يكفي، هكذا يفكر أردوغان. في الآونة الأخيرة، عيّن الطيب أحد أقطاب المدرسة الأربكانية رئيسًا لفرع حزب العدالة والتنمية في اسطنبول. قال في معرض تقديمه “إننا نقدم لكم صديقًا لنا، كرئيس لفرع الحزب في إسطنبول، والذي سنحقق معه أهدافنا لعام 2023 بروح عام 1994”. إستعاد أردوغان السنوات التي عاشها في كنف نجم الدين أربكان، خاصة عام 1994 حين فاز هو نفسه بانتخابات اسطنبول تحت قيادة “الأستاذ”. انفصل عنه، برغم أنّه ظلّ يدّعي عدم الحياد عن جوهر مدرسة أستاذه، زعيم الإسلام السياسي الحديث في تركيا.
من شيخ البكداشية في السلطنة العثمانية، إلى شيخ الإسلام السياسي في الجمهورية الأتاتوركية، هناك شخص قادر على استحضار الأرواح جميعًا وتسخيرها في خدمة أهدافه وسياساته وزعامته. قد تكون هذه المقولة معادة ومكرّرة، لكنّها تبقى مستساغة ومنطقيّة: أن تحبّ أردوغان أو أن تكرهه لشخصه وسياساته شيء، وأن تراقب وتحلّل وتستمتع بأدائه، فتلك مسألة أخرى.