مع بداية الحرب الإسرائيلية على غزة قبل 11 شهراً، قال نتنياهو إن هذه حرب ستنتهي بتغيير الشرق الأوسط. أرادها حرباً تنتهي بنتائج ليست أقل من تلك التي انتهت إليه حربا 1948 و1967. وهذا ما يتجاوز الأهداف المعلنة للحرب على غرار تدمير “حماس”، سلطوياً وعسكرياً، واستعادة الأسرى أو إعادة سكان المستوطنات في شمال إسرائيل إلى منازلهم.
فجأة، يُعلن الرئيس الأميركي السابق والمرشح الجمهوري للانتخابات الرئاسية دونالد ترامب في 15 آب/أغسطس الماضي أمام ما يسمى بـ”تحالف أصوات يهودية من أجل ترامب” أن مساحة إسرائيل “تبدو صغيرة على الخريطة، ولطالما فكّرتُ كيف يُمكن توسيعها”.
بدا هذا الكلام وكأن ترامب، في سبيل حصوله على أصوات اليهود الأميركيين، يُطلق وعداً بالعمل على توسيع مساحة إسرائيل في حال عاد إلى البيت الأبيض في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. وينسجم هذا الوعد مع اعتراف ترامب، إبّان رئاسته الأولى، بالقدس “عاصمة أبدية” لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها من تل أبيب، والاعتراف بضم مرتفعات الجولان السورية المحتلة.
وماذا لو كان ترامب أثار هذه المسألة مع نتنياهو خلال استقباله إياه في 26 تموز/يوليو الماضي في فلوريدا، في مقابل تعهد رئيس الوزراء الإسرائيلي عدم التجاوب مع دعوات الرئيس الأميركي جو بايدن إلى وقف النار في غزة قبل الانتخابات الأميركية، كي لا يأتي مثل هذا الانجاز بمثابة هدية لحملة المرشحة الديموقراطية كامالا هاريس؟
الخرائط التي عرضها نتنياهو مؤخراً اختفت فيها حدود الضفة الغربية وبانت جزءاً من إسرائيل. وهذا تغيير حدودي آخر هذه المرة مع الجانب الأردني. إذن، هناك تعديلان في الحدود مع مصر والأردن يُخلّان بمعاهدتي كامب ديفيد ووادي عربة، لكنهما يتطابقان مع كلام ترامب عن “تكبير مساحة إسرائيل”
هذا الافتراض، يُفسّر إلى حد ما، الغاية التي يرمي إليها نتنياهو من الاستعانة بالخرائط في مؤتمراته الصحافية. وفي تناغم مع ما “يُفكّر” به ترامب بشأن توسيع حجم إسرائيل جغرافياً، قال نتنياهو في مؤتمر صحافي مع مراسلي وسائل الإعلام الأميركية، ليل الأربعاء الماضي، وهو يشير إلى الخريطة، إن مساحة إسرائيل لا تشكل سوى واحد في المئة من المساحة التي يشغلها العالم العربي في الشرق الأوسط. بدت هذه وكأنها شكوى أكثر منها كلام يرمي إلى توصيف الواقع!
أقحم نتنياهو الحديث عن مساحة إسرائيل وعن “غرس” قطاع غزة في جغرافيتها، في معرض تبريره لماذا يجب أن يبقى الجيش الإسرائيلي في محور فيلادلفيا، حتى ولو أدى ذلك إلى إجهاض الجهود الأميركية للتوصل إلى اتفاق لوقف النار وصفقة لتبادل الأسرى.
محور فيلادلفيا مسألة جغرافية تتعلق مباشرة باعادة احتلال قطاع غزة. هذا الاحتلال يؤشر إلى تغيير في الحدود كون المحور يحاذي حدود القطاع مع مصر. وفي اتفاقات “فك الارتباط” التي وقعها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق آرييل شارون مع الجانب المصري، هناك تعهد إسرائيلي بالانسحاب من محور فيلادلفيا، وهذا التعهد ملحق باتفاقات كامب ديفيد للعام 1979.
نتنياهو، الذي يريد احتلال قطاع غزة مجدداً، اعتبر أن الجهود التي بذلتها مصر لمنع تهريب السلاح إلى “حماس” لم تنجح، وتالياً يحق له التنصل من التعهدات السابقة.
وفي الأيام الأخيرة، وسّع نتنياهو الحرب إلى الضفة الغربية على نحوٍ غير مسبوق منذ عملية “السور الواقي” عام 2002. والهدف المعلن للهجوم الواسع على مخيمات طولكرم وجنين ومدينة طوباس ومخيم الفارعة القريب، هو القضاء على خلايا “حماس” و”الجهاد الإسلامي” التي بحسب الرواية الإسرائيلية، تُزوّدها إيران بالسلاح عبر عمليات تهريب من الأردن.
الخرائط التي عرضها نتنياهو مؤخراً اختفت فيها حدود الضفة الغربية وبانت جزءاً من إسرائيل. وهذا تغيير حدودي آخر هذه المرة مع الجانب الأردني. إذن، هناك تعديلان في الحدود مع مصر والأردن يُخلّان بمعاهدتي كامب ديفيد ووادي عربة، لكنهما يتطابقان مع كلام ترامب عن “تكبير مساحة إسرائيل”.
كل ما تقدم، يقودنا إلى هذا الاستنتاج، معطوفاً عليه تركيز نتنياهو على “محور الشر الإيراني”، كي يُعطي تفسيراً للأحداث يتجاوز القضية الفلسطينية بحد ذاتها، وبالتالي يضع الصراع في بعد إقليمي، جوهره تهديد وجودي تتعرض له إسرائيل من إيران، ولا يتعلق بوجود قضية إسمها القضية الفلسطينية.
في كتابه “مكان بين الأمم”، يُلقي رئيس الوزراء الإسرائيلي باللوم على بريطانيا لأنها، بحسب زعمه، هي التي اخترعت في عشرينيات القرن الماضي اسم فلسطين، وبأنها هي التي نكثت بوعودها الانتدابية وبوعد بلفور وتعهدات مؤتمر فرساي بتأسيسها مملكة شرق الأردن التي كانت مشمولة بـ”الوطن القومي لليهود”. نتنياهو يعود اليوم إلى مقولة غولدا مئير، التي لا تعترف بوجود شعب فلسطيني. ويقع هذا في صلب أهداف الحرب الإسرائيلية المستمرة ضد الشعب الفلسطيني في القطاع والضفة.
في نظر نتنياهو لا تعدو حركة “حماس” سوى أداة من أدوات إيران لتوسيع نفوذها في المنطقة وتدمير إسرائيل. ومن هنا منشأ دعوته إلى قيام “تحالف إقليمي” لمواجهتها. وهذا التحالف سيكون أحد أبرز النتائج التي ترمي إليها الحرب الإسرائيلية على غزة.
وبضم الضفة الغربية واعادة احتلال غزة وبإنشاء “التحالف الإقليمي” لمواجهة النفوذ الإيراني، وبانتفاء الحديث، ما خلا في أروقة الأمم المتحدة عن “حل الدولتين”، تتبدى المعالم الأولى في الخرائط الجديدة للشرق الأوسط، ويتحقق التغيير الذي ينشده نتنياهو من وراء استمرار الحرب إلى ما بعد الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر.
إن تغييراً زلزالياً بهذا الحجم، يتطلب عودة ترامب إلى البيت الأبيض. ولن يجد نتنياهو حليفاً له أفضل من الرئيس السابق لوضع ما رُسِم على الخرائط، موضع التنفيذ.
رُبّ سائل، ألا يخشى نتنياهو من احتمال هزيمة ترامب في الانتخابات؟ وماذا لو فازت هاريس؟
لا بد أن نتنياهو قد احتاط للأمر، ويتكل على نفوذ القوى الموالية له داخل الحزب الديموقراطي، بما يُقيّد قدرة هاريس في حال فوزها على الذهاب في الضغوط على إسرائيل أكثر مما ذهب بايدن. ومثلاً، رفضت هاريس في المقابلة التلفزيونية التي أجرتها معها شبكة “سي. إن. إن” الأميركية، الأسبوع الماضي، فكرة فرض قيود على ارسال السلاح والذخائر إلى إسرائيل، كرافعة لحملها على القبول بوقف إطلاق للنار وانجاز صفقة لتبادل الأسرى.
كما راوغ نتنياهو أمام جو بايدن، لديه كل الاستعداد لفعل ذلك أمام هاريس؛ لكن أمامه مهمة ملحة الآن، وهي تقديم كل مساعدة ممكنة لفوز ترامب وهزيمة هاريس.