المفاوضات البحرية: إسرائيل مُحرجة، من يُريد جعل لبنان ضحيةً؟

لبنان الرسمي أمام حقيقة لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها.. لا شيء يحمي حقوقه، كما موقفه في المفاوضات البحرية، إلا مبادرة شجاعة إلى تعديل المرسوم 6433. الأمر يحتاج إلى قرار وطني، وليكن حافزًا لولادة حكومة جديدة بأسرع وقت ممكن.  

منذ بداية مسألة الحدود البحرية والمسؤولون اللبنانيون يرتكبون الخطأ تلو الآخر، بدءًا بالمفاوضات مع قبرص في العام 2006 حيث تمّ التفرّد بهذه المهمة واستبعاد أصحاب الاختصاص، مرورًا بعمل اللجنة المشتركة في العام 2008 حيث رسمت الحدود البحرية مع إعطاء لبنان الحد الأدنى من حقوقه برغم أن الترسيم كان من جانب واحد، وصولاً إلى إصدار القانون رقم 163 والمرسوم رقم 6433 في العام 2011 والذي تم بموجبه إبلاغ الأمم المتّحدة بحدود المنطقة الاقتصادية الخالصة وضمنًا خط الحدود الجنوبية الذي ينتهي بالنقطة رقم (23) برغم وجود دراسات لبنانية وأجنبية كانت تقول بحق لبنان بمساحات إضافية منها دراسة المكتب الهيدروغرافي البريطاني UKHO التي تعطي لبنان خيارين قانونيين يُكسبانه مساحة تتراوح بين 300 و1430 كلم2 جنوب النقطة (23).

بدأت الوساطة الأميركية في العام 2010 بشكل سرّي وأصبحت علنية مع مقترح الموفد الأميركي فريدريك هوف في العام 2012 حيث ظهرت انقسامات داخلية واضحة منعت لبنان من اتخاذ القرار الوطني المناسب، وبالتالي توقفت الوساطة العلنية وإستمرت قيد المتابعة غير المعلنة من رئيس مجلس النواب نبيه بري ثم عادت إلى العلن مجدّدًا مع زيارة وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو إلى لبنان في شهر آذار/ مارس من العام 2019 وتوّجت باعلان “اتفاق الإطار” بتاريخ الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 2020 والانطلاق بالمفاوضات غير المباشرة برعاية رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وبواسطة فريق مفاوض مؤلف من ضابطين ومدنيين اثنين حيث تمّ تزويده بمهمة التفاوض إنطلاقًا من الخط الذي يبدأ من رأس الناقورة باعتماد تقنية خط الوسط ودون إعطاء أي تأثير للجزر الفلسطينية المحتلة (تخليت تحديداً)، أي بمعنى آخر، إعتماد الخط الحدودي الذي يصل إلى النقطة (29) بدلاً من النقطة (23).

كان من المفترض أن يتم تعديل المرسوم 6433 قبل انطلاق المفاوضات، لكن الانقسامات الداخلية حالت دون ذلك، فبدأ الفريق اللبناني بالتفاوض على النقطة (29) في حين أن موقف لبنان الرسمي لدى الأمم المتحدة يحدّد النقطة (23)، وهذا ما شكّل نقطة ضعف لهذا الفريق استغلّها العدو الإسرائيلي واقتنع معه الوسيط الأميركي حيث عبّر عن ذلك وزير الخارجية الأميركية مايك بومبيو حين دعا الجانبين للعودة إلى ما سبق وأبلغ إلى الأمم المتّحدة، أي التفاوض على أساس ما أسمي “خط هوف”.

طالب الوفد اللبناني السلطات الرسمية بتحصين موقفه قانونيًا من خلال تعديل المرسوم 6433 وإبلاغ التعديل للأمم المتّحدة، وذلك لمنع إسرائيل من مباشرة الاستخراج في حقل كاريش المتوقع في الأشهر القليلة المقبلة. هنا قامت قيامة البعض لبنانياً وبرزت الانقسامات بشكل واسع

بعد أربع جولات من المفاوضات دافع خلالها الوفد اللبناني بشراسة عن موقفه المستند إلى القانون الدولي، لجأ العدو الأسرائيلي إلى المراوغة وإطلاق الأكاذيب بهدف تشويه صورة لبنان أمام المجتمع الدولي وإظهاره بمظهر المعرقِل للمفاوضات، فتأجّلت الجولة الخامسة التي كانت محدّدة بتاريخ الثاني من كانون الأول/ ديسمبر 2020 واستُبدلت بجولة قام بها الوسيط الأميركي على السلطات اللبنانية لم يتمكّن خلالها من تحقيق نتائج تساعد في متابعة المفاوضات فقرّر تجميدها وحمّل لبنان المسؤولية بشكل ضمني، ثم أعلن ذلك بشكل واضح من خلال حديث الدبلوماسي الأميركي دايفيد شينكر مع إحدى المحطات التلفزيونية حيث أعلن أن لبنان تقلّب في مواقفه وعطّل التفاوض، وانتقد السلطات اللبنانية، معتبرًا أنها لا تعمل لمصلحة الشعب اللبناني وهي غير مستعجلة لانهاء معاناته.

أمام هذا الواقع، طالب الوفد اللبناني السلطات الرسمية بتحصين موقفه قانونيًا من خلال تعديل المرسوم 6433 وإبلاغ التعديل للأمم المتّحدة، وذلك لمنع إسرائيل من مباشرة الاستخراج في حقل كاريش المتوقع في الأشهر القليلة المقبلة. هنا قامت قيامة البعض لبنانياً وبرزت الانقسامات بشكل واسع فتحوّلت مهمة المفاوضات من معركة وطنية مع العدو الإسرائيلي إلى معارك داخلية بين ثلاثة أطراف:

  • الطرف الأول، ينادي بتعديل المرسوم 6433 وينقسم إلى فريقين: الأول؛ يندفع بصدق وحسن نية لدعم الوفد اللبناني المفاوض بدون أية خلفيات سياسية أو شخصية. الثاني؛ يندفع بخلفيات مختلفة ويتطرّف في مواقفه مطلقًا اتهامات قاسية وصولاً إلى حد الاتهام بالخيانة للطرف المعارض.
  • الطرف الثاني، يعارض تعديل المرسوم 6433 وينقسم إلى ثلاثة أفرقاء:

-الفريق الأول غير متحمّس للتعديل ويعلّل موقفه بتخوّفه من ردود فعل إسرائيلية ودولية قد تعرقل عملية التفاوض وتتسبّب بالأذى للمصلحة اللبنانية.

-الفريق الثاني يرفض التعديل تهرّبًا من الاعتراف بالخطأ الذي ارتكبه في الماضي وخوفًا من أن يضعه هذا التعديل في مرمى خصومه السياسيين.

-الفريق الثالث يعارض التعديل لخلفيات خاصة وأسباب شخصية غير مبرّرة، فذهب في تطرّفه إلى حدّ اعتبار أن خط الجيش اللبناني هو خط تابع لمحور إقليمي ووصل إلى حد اتهام الوفد اللبناني بأنه وضع هذا الخط لاستدراج العدو الإسرائيلي إلى وضع خطه قبالة مدينة صيدا.

  • الطرف الثالث، لم يتّخذ أي موقف سواء مع التعديل أو ضد، وينقسم إلى فريقين: أول لا يتدخل لا في العلن ولا في السر لأنه يعتبر نفسه غير معني بالموضوع، أما الثاني، فيعمل من خلف الكواليس ولكنه يتجنّب إصدار موقف علني لأسباب مختلفة.

ما نشهده اليوم هو معارك داخلية حول موضوع وطني بامتياز. لا أحد يملك الحق المطلق في موقفه، في حين أن الوفد المفاوض أجرى دراسات معمّقة وهو مقتنع بأنه يطالب بالحد الأقصى المسموح به وفقًا للقانون الدولي

إن تعديل المرسوم 6433 هو ضرورة وطنية في ظل تضاؤل فرص استئناف المفاوضات وفي ظل مراوغة العدو الإسرائيلي وعدم احترامه للقوانين الدولية. وهذا الأمر له إيجابيات كثيرة أهمها تحصين الموقف اللبناني قانونيًا ما يمنع العدو الإسرائيلي من مباشرة الاستخراج في حقل كاريش وبالتالي إجباره على العودة إلى طاولة المفاوضات. ولكن ما نشهده اليوم هو معارك داخلية حول موضوع وطني بامتياز. لا أحد يملك الحق المطلق في موقفه، في حين أن الوفد المفاوض أجرى دراسات معمّقة وهو مقتنع بأنه يطالب بالحد الأقصى المسموح به وفقًا للقانون الدولي.

إقرأ على موقع 180  غزة و"حل الدولتين".. لا كوستاريكا ولا غيرها 

لذا، لن يكون من الممكن التوصّل إلى حلّ إلا بمقاربة هذا الموضوع بروح وطنية عالية لتحديد رود الفعل المحتملة التي قد تنتج عن تعديل المرسوم وتحديد طريقة مواجهتها للتمكّن على ضوئها من اتخاذ القرار الصحيح الذي يحقّق المصلحة اللبنانية.

ومن الطبيعي أن نتوقّع ردود فعل سلبية عن العدو الإسرائيلي وكذلك عن الوسيط الأميركي وربما الأمم المتّحدة وهذه الردود قد تكون، على سبيل المثال لا الحصر، شاكلة واحدة من هذه السيناريوهات:

  • أولًا، قيام العدو الإسرائيلي بتعديل خطه الحدودي واعتماد الخط 310 درجات بدلاً من الخط الذي ينتهي بالنقطة رقم (1)، الأمر الذي قد يوسّع المنطقة الخلافية ويحرم لبنان من إمكانية مباشرة التنقيب في الحقول 5، 8، 9 و10. هنا يعتبر الوفد اللبناني المفاوض أن هذا الاحتمال شبه معدوم كونه غير قانوني وكون لبنان لديه الكثير من الخيارات القانونية للرد على العدو الإسرائيلي بشكلٍ موجع.
  • ثانيًا، بدء العدو الإسرائيلي الاستخراج من حقل كاريش مستخدمًا شرعة القوة وضاربًا عرض الحائط القوانين الدولية. وهذا أيضًا احتمالٌ ضعيف كون الشركات العالمية تتجنّب العمل في مناطق خلافية قد تعرّض إستثماراتها الكبيرة إلى مخاطر أمنية مرتفعة.
  • ثالثًا، سحب الوسيط الأميركي مبادرته وتحميل لبنان مسؤولية فشل المفاوضات.
  • رابعًا، عدم أخذ الأمم المتّحدة بالتعديل اللبناني بحجة أنه يزعزع السلم الإقليمي ويعقّد فرص التوصل إلى حلول عن طريق التفاوض. هنا، يعتبر الوفد اللبناني أن هذا الاحتمال غير وارد لأن الأمم المتّحدة تحترم القانون الدولي، وبالتالي، هي ملزمة بتسجيل التعديل اللبناني عندما يصلها بالطريقة القانونية.

هذه هي بعض الانعكاسات السلبية المحتملة، فمن هي السلطة اللبنانية المخوّلة الإجابة عن جهوزيتها لمواجهة هذه التداعيات؟

إن السبب الرئيسي في خلق الإشكالية البحرية هو معالجتها من خارج المؤسسات الرسمية، لذا يجب إدارة هذا الموضوع الوطني الهام من خلال هيئة وطنية متخصّصة لمتابعة هذا الملف بالإضافة إلى ملف كامل الحدود مع سوريا وقبرص ومعالجة الإشكاليات الحدودية الحالية والمستقبلية.

الحل المثالي هو في تشكيل حكومة فعّالة تضع هذا الموضوع في أعلى سلّم أولوياتها، ولكن في حال تأخّر ذلك، المطلوب من حكومة تصريف الأعمال الحالية وضع المصلحة الوطنية العليا فوق كل إعتبار، لأن التقاعس أو التأخير في ذلك سيسمح للعدو الإسرائيلي بالبدء باستخراج النفط والغاز وعندها لا يحق للبنان الاعتراض على ذلك.

تل أبيب لن تكون صاحبة مصلحة في رفع سقفها إلى حد تهديد لبنان، كما تفعل في موضوع “الصواريخ الدقيقة”، على سبيل المثال لا الحصر، لأن الأمر يتصل بإستثمارات كبيرة

هذا الأمر يقتضي تشكيل خلية عمل أو خلية أزمة تضم الوزارات والهيئات الرسمية المختصة والاستعانة بأصحاب الاختصاص والخبرة من لبنانيين وغير لبنانيين عند الضرورة. لا يجوز التلهي بتقاذف التهم ورمي المسؤولية على الغير. الجميع مُطالَب بالمبادرة لإطلاق المسار القانوني لعملية تعديل المرسوم 6433. يمكن اتخاذ هذه المبادرة على أكثر من صعيد واقعي، على الشكل الآتي:

  • رئاسة الجمهورية: يمكنها دعوة المجلس الأعلى للدفاع للانعقاد، كون هذا المجلس يضم جميع الوزارات المعنية بالموضوع ورئيسه (رئيس الجمهورية هو المشرف على المفاوضات). عندها يقوم المجلس بدراسة الموضوع ورفع التوصية المناسبة للحكومة اللبنانية.
  • رئاسة مجلس النواب: يمكنها الدعوة إلى عقد جلسة لمجلس النواب لمناقشة موضوع التعديل. وفي حال الموافقة، تعديل القانون 163/2011 بادخال فقرة تحدّد بشكل واضح خط الحدود البحرية الجنوبية، وفق الدراسة التي أعدتها قيادة الجيش والتي يعتمدها الوفد اللبناني المفاوض (النقطة 29). استنادًا إلى هذا التعديل، تصبح الحكومة اللبنانية مُلزَمة بتعديل المرسوم 6433 وإيداع التعديل الأمم المتّحدة.
  • حكومة تصريف الأعمال: في ظل تعذر تأليف حكومة جديدة، يمكن لرئيس حكومة تصريف الأعمال، دعوة الوزراء المعنيين من أجل دراسة الموضوع من جوانبه كافة واتخاذ القرار المناسب كون هذا الموضوع الهام جدًا يتعلّق بالحقوق اللبنانية وبالتالي لا يتعارض مع مفهوم تصريف الأعمال بنطاقه الضيق، وفي صلبه ترسيم الحدود البحرية الجنوبية، بإعتبارها قضية تمس الأمن القومي للدولة اللبنانية.
  • الكتل النيابية: يمكن لأي كتلة نيابية أن تتقدم باقتراح قانون لتعديل القانون 163 وعندها يصبح المجلس النيابي مُلزمًا بمناقشة الاقتراح واتخاذ القرار بالتعديل أو عدمه.

في المقلب الآخر، راهنت إسرائيل على أزمة لبنان الإقتصادية والمالية غير المسبوقة من أجل إنتزاع تنازلات سريعة من الجانب اللبناني، لكنها إصطدمت بحقيقة أن لبنان أوحى بتنازلات في الشكل (أصل التفاوض)، لكن موقفه التفاوضي كان أصلب من أي وقت مضى، وهذا المعطى جعل الإسرائيليين  ـ وآخرهم وزير الطاقة يوفال شتاينتس ـ يبدون إستعدادهم لإستئناف المفاوضات “إذا أبدى الجانب اللبناني مرونة وبراغماتية” أو “يعربون عن حزنهم” بسبب الموقف اللبناني! هذا يعني أن تل أبيب لن تكون صاحبة مصلحة في رفع سقفها إلى حد تهديد لبنان، كما تفعل في موضوع “الصواريخ الدقيقة”، على سبيل المثال لا الحصر، لأن الأمر يتصل بإستثمارات كبيرة وسيكون الجانب الإسرائيلي، كما أسلفنا أعلاه، حريصًا على عدم التسبب بـ”نقزة” الشركات الكبرى.

وفي إنتظار أن تسمي الإدارة الأميركية الجديدة موفدًا جديدًا يتولى ملف المفاوضات البحرية، فإن مسؤولية الدبلوماسية اللبنانية تتمثل في الإنتقال من موقع الدفاع إلى الهجوم الإستباقي، وذلك من خلال إعداد ملف لبناني متكامل يجري تعميمه على جميع البعثات الدبلوماسية من أجل شرح وجهة نظر لبنان وتدعيم موقف الفريق اللبناني المفاوض.

في الخلاصة، إن مفاوضات ترسيم الحدود البحرية معركة وطنية يجب حشد كل الجهود اللبنانية للتمكّن من كسبها. وليعلم الجميع أن نقلها من معركة وطنية إلى معارك داخلية ستكون نتيجته خسارة حتمية، وكالعادة سيكون لبنان الضحية. فمن هو قادرُ على تحمّل هذه المسؤولية؟

Print Friendly, PDF & Email
أنطون مراد

عميد ركن متقاعد

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  غاز لبنان بين "إبتسامات هوكشتاين".. و"عبسة حزب الله"!