نيفين مسعد23/04/2021
عندما تحّل أسرة مسلمة بإحدى المجتمعات الغربية فإنها عادة ما تقضي الشهور الأولى لإقامتها في محاولة لتدبير ظروف المعيشة وإيجاد حلول لمشكلات الحياة اليومية التي يواجهها أي مغترب. ومع أول طفل تنجبه الأسرة فإنها تنتقل إلى مرحلة أخرى بأسئلة مختلفة، جوهرها هو كيفية احتفاظ الطفل بدينه وفي نفس الوقت التأقلم مع المجتمع المفتوح الذي يعيش فيه.
كما هو واضح فإن الكلام هنا هو عن الأسر التي تحاول أن تُحدِث نوعًا من التوازن بين البيئة التي أتت منها والبيئة التي انتقلت إليها، أي أن الكلام لا يخص تلك الأسر التي تختار الذوبان بالكامل في المجتمع الجديد وتقطع صلتها تمامًا بجذورها وتتنكر لها، ولا تلك الأسر التي تقرر الانعزال التام عن هذا المجتمع الجديد بحيث لا تربطها به إلا عوامل الجغرافيا حتى وإن استماتت لتحصل على جنسية دولته وأقسمت على الولاء له.
***
معضلة البحث عن نقطة توازن بالنسبة للأسر التي تنشدها هي معضلة حقيقية، وهذه المعضلة تبدأ باللغة العربية وكيفية الحفاظ عليها في وسط لا يتكلمها ومع تكنولوچيا لا تتعامل بها، وهي تحتاج بالتأكيد لجهد كبير من الأسرة ليس فقط لتعليم أبنائها لغتهم الأم، لكن كذلك لمواجهة التنمّر من العديد من مكوّنات الجاليات العربية المسلمة وغير المسلمة التي ترى أنه لا مستقبل للغة الضاد، وبالتالي فإن تعلمها مضيعة للوقت والجهد. وهذا هو أول الغيث، ثم بعد ذلك تتوالى زخات المطر: نوع التعليم وهل يكون دينيًا أم مدنيًا، وعلاقات الصداقة بين الولد والبنت بل وحتى بين البنات وبعضهن وخلفيات الأسر التي يأتين منها، وحدود الحرية المتاحة في اللبس والخروج واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي. هذه الحيرة تعرف تمامًا كيف تستغلها وتوظفها بعض الجمعيات الأهلية الدينية الموجودة في الغُربة، والتي هدفها في الظاهر هو مساعدة الأسر الباحثة عن التوازن على الوصول إليه، أما هدفها الحقيقي فهو تمرير رسائل سياسية مقصودة ومتعمدة. في أحوال قليلة قد نجد ضمن هذه الجمعيات الأهلية من يعطيك نبذة محدودة عن توجهه السياسي، كما في تعريف إحدى الجمعيات نفسها بأنها تأسست على أساس القيم “كما تبلورت في كتابات المصلح المشهور الإمام حسن البنا”. أما مَن يستفيدون من خدمات هذا النوع من الجمعيات فإنهم قد لا يهتمون بالتدقيق في خلفياتها وقراءة منشوراتها على اعتبار أن الحياة في الغرُبة معقّدة بما يكفي ويفيض، لكن هناك بين المستفيدين من يهتمون بالتدقيق وتصلهم المعلومة الصحيحة لكنهم يستسلمون لكون تلك الجمعيات هي الأنشط والأسخى والأكثر استمرارية، والأهم أنها الأشد جاذبية للأطفال.
***
استطاعت هذه الجمعيات أن تُطّور كثيرًا من أدائها في السنوات الأخيرة وأن تبعد عن الأسلوب المباشر في توجيه رسائلها السياسية، ونجحت في أن تربط أطفال الأسر الباحثة عن نقطة توازن بشبكة من الخدمات المدروسة جيدًا، أما أطفال الأسر التي تدير ظهورها للمجتمع الذي تعيش فيه فهي وأولادها مضمونون ولا يوجد خوف منهم أو عليهم. بين أنشطة هذه الجمعيات سنجد تنظيم معسكرات صيفية للأطفال لبضعة أيام، ومسألة تنظيم المعسكرات الصيفية هذه شائعة جدًا في المجتمعات الغربية وهي منتشرة أيضًا في المجتمع المصري بين أبناء الطبقتين الوسطي والعليا، ويعود الإقبال عليها إلى كونها تنمّي لدي الأطفال الاعتماد على أنفسهم، وتزودهم ببعض المهارات وكذلك طبعًا ببعض المعلومات والمعارف، وهذا هو بيت القصيد.
لماذا يكون العمل المؤسسي المنظم والممنهج والمستمر هو من نصيب الجمعيات الدينية وحدها؟ ولماذا لا تنشأ جمعيات أهلية في المهجر تزوّد أبناء الأسر المسلمة بمعارف غير مسيسة ولا موجهة ؟
المثير للاهتمام في المعسكرات التي تنظمها الجمعيات الأهلية الدينية أن قيمة الاشتراك فيها تقل عن غيرها بما يقترب من النصف أو يزيد، وهذا غير معتاد في مجتمعات كل شيء فيها له ثمن باستثناء الهواء. بين الأنشطة أيضًا توجد استضافة الأطفال إذا رتّبت أسرهم لخروجات ليلية لا تناسب الصغار، وتوزيع هدايا على الأطفال في المناسبات الدينية، كما تعيد هذه الجمعيات فكرة “جواز الصالونات” من خلال تكوين مجتمع يعرف أفراده بعضهم البعض جيداً ويكبرون معًا وتجمعهم أفكار متقاربة حتى إذا ما وصلوا إلى سن الزواج قامت الجمعيات الدينية بدور الخاطبة. أما الأنشطة الدينية المباشرة ومنها مثلًا تحفيظ القرآن وتفسيره- لمن يريد ذلك- فأمرها غنّي عن البيان، والجملة الاعتراضية “لمن يريد ذلك” هي جملة مقصودة، لأن هناك من يكتفي بحفظ القرآن دون فهم وربما دون قدرة على قراءة الحرف العربي، وهذا خطير لأن غياب الفهم ينزع العقول من رؤوس أصحابها ويضع مكانها أجهزة تسجيل.
***
هكذا يبدو لي أن السؤال الكبير الذي يبدأ في بلداننا العربية يتجهّز ويتحضّر ويركب بساط الريح ليعبر البحار والمحيطات ويستقر في بلاد الغربة، وهذا مضمونه: لماذا يكون العمل المؤسسي المنظم والممنهج والمستمر هو من نصيب الجمعيات الدينية وحدها؟ ولماذا لا تنشأ جمعيات أهلية في المهجر تزوّد أبناء الأسر المسلمة بمعارف غير مسيسة ولا موجهة وتقدم خدماتها مقابل أجر معلوم لا مقابل الانتماء لفكر معين، جمعيات تقدم من بين ما تقدم معلومات دينية ولغوية لأبناء المهاجرين من دون أن تكون هي نفسها جمعيات دينية؟.
أعلم أن هناك من سيَرُد على سؤالي بسؤال هو: أولا توجد جمعيات أهلية دينية على الجانب المسيحي؟ وإجابتي بلى توجد مثل تلك الجمعيات على الجانب المسيحي، لكن مشكلة التأقلم في المجتمعات الغربية أكبر بالنسبة لأبناء الجاليات المسلمة لأسباب مفهومة، ثم أن المطلوب هو أن نعثر على إجابة للسؤالين معًا عن أسباب نجاح الجمعيات الدينية بشقيها المسلم والمسيحي وليس المقصود هو الهروب من سؤال لسؤال.
إن القضية المتعلقة بتنشئة أبناء المهاجرين هي قضية معلومة للكافة، ومُتجاهَلة أيضًا من الكافة وذلك برغم تزايد الإقبال على الهجرة للخارج بين الشباب العربي، وتزايد الهجرة يعني تعميق القضية أكثر فأكثر والقاعدة تقول إن كل فراغ لابد له من يملأه، فليتنا نولي هذه القضية اهتمامنا ونثير النقاش من حولها فلعل الفراغات الكبيرة في دول المهجر تمتلئ ذات يوم بشكل مختلف.
(*) بالتزامن مع “الشروق“