في السياق الحتمي لتطور الأزمات اللبنانية الى ذروة بعضها وحضيض بعضها الآخر، انفجارات متوقعة بشظايا سياسية وأمنية وقضائية تعمق جروح الشقاق الحاد، وتهدد بفرط عقد منظومة التوازنات، بانتظار إعادة تشكيل تأخذ وقتاً مستقطعاً عصيباً وجهداً تسووياً مريراً.
ففي شهر أيار/ مايو الحالي والأشهر القليلة اللاحقة استحقاقات مفصلية مؤجلة الفصل فيها، وأخرى ستفرض نفسها على الأجندة بلا استئذان، فما هي؟ وما مدى خطورتها؟
أولاً؛ قال رئيس الجمهورية ميشال عون إن هناك أياماً تفصلنا عن تسليم مصرف لبنان الوثائق والمستندات الخاصة بالتدقيق الجنائي.
وانسجاماً مع نفسه الأمَّارة بالمناورة وكسب الوقت، سيلعب حاكم البنك المركزي رياض سلامة لعبة مواربة جديدة، متسلحاً هذه المرة بالنصاب المكتمل للمجلس المركزي. مصرف لبنان سلّم (ويسلم) شركة “ألفاريز اند مارسال” ما تطلبه عبر مفوض الحكومة في مصرف لبنان، معيداً الكرة الى ملعب “خصومه”، على وقع اثارة غبار أسئلة، مصدرها هو وحماته، عن ماهية العقد الجديد مع الشركة؟ وعن فرص تطبيق قاعدة “التوازي” التي أقرت بقانون في المجلس النيابي للتدقيق في كل حسابات وزارات وادارات ومجالس وصناديق وهيئات الدولة؟
مناورة سلامة الهادفة إلى كسب الوقت، لن تمر، هذه المرة، على الأرجح، برداً وسلاماً. فالتيار العوني اتخذ من التدقيق حصاناً جامحاً يعتقده رابحاً لمعركته الوجودية في السنة الأخيرة من عمر العهد المحاصر بالأزمات المستعصية من كل صوب، وعشية الانتخابات البلدية والنيابية والرئاسية المتوقعة السنة المقبلة.
ولن يكون مفاجئاً إشتداد وطيس التصويب على سلامة باستخدام الأدوات الشعبية والقضائية، على غرار ما حصل في التحقيق الذي تجريه القاضية غادة عون مع شركة مكتف لنقل الأموال، بحثاً عمن هرب أمواله الى الخارج وترك الآخرين يتسولون فتاتاً على مائدة لئام المصرفيين.
ولا يخفي العونيون انهم بصدد التصعيد بخطوات ستفاجئ الجميع، حسبما يعلنون على الملأ، غير عابئين بما دون ذلك من محاذير سياسية وقضائية وأمنية و”شارعية” خطرة تنذر بصدامات. ولسان حالهم الشكسبيري: “نكون أو لا نكون”، بعدما خسروا رصيداً بفعل أداء مرتبك وشيطنة مبرمجة وغير مسبوقة لرئيس التيار جبران باسيل، واختزال الأزمة بوجود عون رئيساً متعدياً على صلاحيات شركائه في السلطة واستخفافه، في الوقت نفسه، باحجامهم الوازنة في النظام الطائفي.
ثانياً؛ انجزت لجنة المال والموازنة مشروع قانون ضبط التحويلات (الكابيتال كونترول) الذي سيفجّر صراعاً حول ثغراته وقصور معالجاته، علما بأنه رقعة في ثوب مهلهل لاسباب عدة. فتأخره 18 شهراً سمح، عشوائياَ حيناً واستنسابياً أحياناً أخرى، بسحب وتهريب واستخدام وتغطية مراكز و”ذوبان” و”تذويب” وفقدان قيمة.. ما يعادل 60 مليار دولار من اجمالي الودائع وفق تقديرات متقاطعة مستقاة من الميزانية المجمعة للمصارف ومن ميزان المدفوعات بين تشرين الأول/ اكتوبر 2019 ونيسان/ أبريل 2021، ما يعني ان اللحم اهترأ ليبقى الصراع على العظم المنخور.
يعلم سلامة ان الغاء الدعم يرفع نسبة الفقراء من 55 الى 80 في المائة من السكان، كما تؤكد الحكومة المستقيلة، وأن لجوء المستوردين الى السوق الموازية للحصول على دولارات سيهوي بصرف الليرة الى قاعات سحيقة جديدة، فيزداد الفقر مقترباً من اشعال فتيل انفجار اجتماعي لا يستطيع أحد بعد تصور مدى عنفه الآن
والسبب الثاني لقلة الأهمية الجوهرية لهذا القانون أنه غير مرتبط عضوياً باعادة هيكلة المصارف، ولا متصل بخطة مطلوب التفاوض على أساسها مع صندوق النقد الدولي الرابط بين “الكابيتال كونترول” وتوزيع الخسائر وبدء الاصلاح المالي، ليبنى على الشيء الانقاذي مقتضاه التمويلي.
ثالثاً؛ على صعيد هيكلة المصارف، وبانتظار تقارير لجنة الرقابة لمعرفة من التزم او لم يلتزم بتعاميم مصرف لبنان الخاصة بزيادة الرساميل وتعزيز الأموال الخاصة لدى البنوك المراسلة، فان المتوقع عبارة عن سراب مرحلي. إذ أن تطبيق التعاميم لا يعني بأي حال من الأحوال أن المصارف باتت قادرة على رد أموال المودعين، ولا يعني بتاتاً ان البنوك استعادت ذرة من ذرات الثقة المفقودة بها، محلياً ودولياً، ولا انها ستعود قريباً الى دورها الطبيعي في تمويل الاقتصاد.
لذا، فالقطاع المصرفي في فراغ السقوط الحر، طالما لا توزيع عادلاً للخسائر يشمل أصوله ومساهميه وكبار مودعيه أولاً، كما ورد في خطة “لازار” التي اسقطت بضغط من مصرف لبنان وجمعية المصارف وتواطؤ السياسيين حماة المنظومة الزبائنية المنحازة الى رأس المال على حساب المجتمع بأسره. وتأجيل هذا الاستحقاق المحوري في رحلة التعافي فاقم الخسائر بفعل سابق تصور وتصميم. لكأن المقصود لامبالاة مريبة واستخفاف غريب بمجيء يوم ليس ببعيد توضع فيه جحافل الفقراء بوجه الأغنياء في صراع خطر جداً أمام البوابة المصرفية المحروسة بقوة تشابك مصلحي بين ساسة و”بنكرجية”.
رابعاً؛ في المقابل، ظهرت خلال الآونة الأخيرة بوادر صحوة قضائية تنتصر للمودعين نسبياً، تمثلت بصدور احكام بالحجز على أصول مصارف ومجالس اداراتها، وبعد تحرك القضاء اللبناني لمواكبة التحقيقات السويسرية التي تتهم رياض سلامة وأخيه باختلاس وتبييض أموال تقدر بنحو 300 مليون دولار، اضافة الى دعاوى فتحت ضد سلامة في بريطانيا وفرنسا.
هذه الصحوة يعول عليها متفائلون لاصلاح بعض ما افسده العطار، بيد أن المتشائمين يرجحون “فرط” سبحة القضاء الهش في الأشهر القليلة المقبلة تحت وطأة الضغوط التي تمارس عليه بكل الوسائل الخبيثة التي بحوزة سياسيين فاسدين وطائفيين مخضرمين يدافعون عن مواقعهم (وثرواتهم) ضد ما يسمونه بالتجريم الانتقائي، ويهولون ضمناً بسقوط الهيكل على رؤوس الجميع اذا تخلوا هم عن حراسته. وما رؤية رؤوس كبيرة في السجون، في قاموس عتاة السياسيين ودهاتهم، الا من ضروب الخيال العلمي بالمعطيات القائمة لنظام الرعب الطائفي.
خامساً؛ يمسك رياض سلامة بعدة أوراق يلعبها في ربع الساعة الأخير. ومنها دعم استيراد السلع والمواد الأساسية (دواء ومحروقات وقمح ومواد غذائية أخرى..) ملوحاً بعدم قدرته بعد شهر على توفير دولارات بسعر 1500 ولا حتى بسعر 3900 ليرة لزوم ذاك الاستيراد، بحجة ان ما تبقى لديه عبارة عن احتياطي الزامي نسبته 15 في المائة من الودائع، كما لو أن تبخر 85 في المائة من تلك الودائع (نحو 100 مليار دولار) بفساد وهدر وسياسات خاطئة بالتواطؤ مع مصرفيين جشعين وسياسيين فاسدين وآخرين ملحقين أو مغفلين، لم تكن من حقوق المودعين!
ويعلم سلامة ان الغاء الدعم يرفع نسبة الفقراء من 55 الى 80 في المائة من السكان، كما تؤكد الحكومة المستقيلة، وأن لجوء المستوردين الى السوق الموازية للحصول على دولارات سيهوي بصرف الليرة الى قاعات سحيقة جديدة، فيزداد الفقر مقترباً من اشعال فتيل انفجار اجتماعي لا يستطيع أحد بعد تصور مدى عنفه الآن.
أقر مجلس النواب تقديم سلفة خزينة لشركة كهرباء لبنان قيمتها 200 مليون دولار تكفي لشهرين فقط، وبعد ذلك يعود شبح تهديد العتمة من جديد خلال صيف سيختلط فيه حابل الظلام بنابل الظلم الاجتماعي والمعيشي والطبقي في “كوكتيل مولوتوف” مرشح للانفجار بمضاعفات متسارعة
سادساً؛ بعد تأجيل مقصود، يفترض بالحاكم اطلاق منصة هدفها لجم هبوط سعر صرف الليرة، وضبطه (مرحلياً واصطناعياً) عند 10 آلاف ليرة مقابل الدولار. لكن الخطوة اشبه بركلة تحت الماء طالما يطبق جهل أو تجهيل مصدر وحجم الدولارات التي ستطرح امام التجار والمستوردين والمسموح لهم بالحصول على العملة الصعبة. فاذا بلغ حجم السوق الموازية (الطبيعية غير المضاربية لأهداف الضغط السياسي والمافيوي) 4 الى 5 ملايين دولار يومياً حالياً، فانه سيرتفع إلى ما بين 25 و30 مليوناً بعد رفع الدعم. ما يخفض حكماً سعر صرف الليرة بشكل جنوني اضافي بلا ضوابط ولا سقوف ما سيثير غضب الشارع عارماً كما حصل عندما لامس الدولار سعر 15 ألف ليرة منتصف آذار/ مارس الماضي.
سابعاً؛ تأخر، وسيتأخر، صرف قروض ومساعدات البنك الدولي وجهات دولية أخرى مخصصة للأكثر فقراً (20 في المائة فقط من إجمالي الفقراء)، بانتظار قوائم المستفيدين، مع تشكيك دولي معلن بالجهات المعنية اللبنانية المتهمة بالفساد والزبائنية وصرف النفوذ الفئوي الضيق. في الأثناء، يزداد عدد “الأكثر فقراً” يوماً بعد يوم في موازاة هبوط سعر الليرة والآتي أعظم مع الغاء الدعم أو ترشيده.
ثامناً؛ اذا تقرر رفع الدعم يفترض التعويض ببطاقة تمويلية لنحو 750 ألف أسرة واقعة في براثن الفقر أو ستسقط في “كفره” هذا الصيف. وليس معلوماً بعد كيف ستمول تلك البطاقات. فاذا كانت بالليرة ستضغط على سعر الصرف أكثر بفعل طبع العملة التي تضاعفت كتلتها المتداولة 6 مرات في 18 شهراً ما أدى الى فقدان ما بين 85 و90 في المائة من قيمتها. وإذا تقرر صرفها بالدولار، لا أحد يعلم مصدر تلك الدولارات.
تاسعاً؛ أقر مجلس النواب تقديم سلفة خزينة لشركة كهرباء لبنان قيمتها 200 مليون دولار تكفي لشهرين فقط، وبعد ذلك يعود شبح تهديد العتمة من جديد خلال صيف سيختلط فيه حابل الظلام بنابل الظلم الاجتماعي والمعيشي والطبقي في “كوكتيل مولوتوف” مرشح للانفجار بمضاعفات متسارعة.
عاشراً؛ في لحظات الغرق والاختناق يتعلق الناس بقشة نجاة أو أي أمل ولو ضئيل. هذا الأمل يراه البعض في ثروة لبنان النفطية والغازية. إنما، وكما كل ملف في لبنان، دخل ملف ترسيم الحدود مع اسرائيل دهاليز سياسة الضرب تحت الحزام حد التخوين الوطني والتراشق الطائفي، ما يؤخر حتماً امكان توسم اللبنانيين خيراً بالتعويل على ثروتهم الطبيعية التي تحولت من نعمة متوقعة الى لعنة واقعة.
خلاصة
في هذه الحمأة الصيفية الملتهبة، يهرب السياسيون من الاستحقاقات الداخلية الى مظلات الحماية والتسول الخارجية، كل حسب رهاناته وارتهاناته. وغرضهم واحد: الحصول على المال لتغطية ارتكابات نزاعاتهم وتحاصصهم وهدرهم وسوء ادارتهم. هم اليوم على قارعة عالم لم يعد يرى اهمية استراتيجية لموقع لبنان ودوره وكيانه في “الجيوبوليتيك” الاقليمي والدولي الا من بوابة عدائه لاسرائيل. أما “لبنان الرسالة” فقصة من قصص الأعور الدجال التي لم تعد تنطلي على مخبول!