تونس إلى أين.. هل تدخل دوامة الفوضى؟

فى المشهد السياسى التونسى المأزوم لا توجد خيارات سهلة، فالأولويات تتزاحم والمواقيت تضغط والمخاوف ماثلة خشية النيل من قدر الحريات العامة المتاحة.

التغيير يفرض منطقه وضروراته على بلد شبه يائس تكاد تخنقه أزماته السياسية والاجتماعية والصحية والفساد المستشرى يضرب بنيته، غير أن هناك قيودا داخلية ودولية لا يمكن تجاهلها على حدود الحركة وطبيعتها.
إذا ما فتحت جبهات الإصلاح كلها بتوقيت واحد فإن ارتباك الخطى وارد بقوة فى لحظة تحول حرجة.
وإذا ما عادت البيئة السياسية إلى ما كانت عليه بعد انقضاء آجال «الإجراءات الرئاسية الاستثنائية»، فإن أحدا لا يمكنه توقع ما قد يحدث تاليا من صدامات وانفجارات تضرب فى سلامة البلد وتماسكه وثقته فى مستقبله.
هكذا تطرح المعادلات التونسية الصعبة سؤالها الرئيسى: كيف يمكن أن يمضى التغيير إلى أبعد نقطة ممكنة دون اهتزازات فى الاستقرار العام، أو انجراف لفوضى لا يتحملها البلد المنهك، أو نيل من قواعد دولة القانون؟
لم يكن ممكنا إدارة الشأن العام بنظام سياسى مشوه وسلطة تنفيذية لها رأسان متطاحنان، رئيس جمهورية شبه معزول فى قصر «قرطاج».. ورئيس حكومة خاضع لتوجيهات رئيس البرلمان وحركة «النهضة» التى يتزعمها.
إذا لم يحدث إصلاح دستورى جوهرى فى بنية السلطة فإن الأجواء المسمومة سوف تعيد إنتاج نفسها من جديد بنفس الوجوه، أو بوجوه أخرى!
هنا صلب الأزمة التونسية المستحكمة، التى استدعت اتخاذ «إجراءات استثنائية» جمدت البرلمان ونزعت الحصانة عن أعضائه وأعفت رئيس الحكومة وأعداد كبيرة أخرى من كبار المتنفذين فى الدولة.
الشرعية الشعبية وفرت الغطاء السياسى بالقبول والتفهم ومشاعر الابتهاج العامة لقرارات الرئيس «قيس سعيد»، بغض النظر عن مدى اتساقها مع نص الدستور، الذى استندت إليه.
هذه حقيقة أساسية يجب التأكيد عليها مرة بعد أخرى حتى تكون أبعاد الأزمة التونسية واضحة ومحددة وضرورات ردم الفجوة بين الشرعيتين الشعبية والدستورية حاضرة.

إذا ما ثبتت الاتهامات بحق حركة «النهضة» وحليفها البرلمانى «قلب تونس» بتلقى تمويلات أجنبية أثناء الانتخابات النيابية فإن سيناريو إلغاء نتائج الانتخابات النيابية و«حل البرلمان» ليس مستبعدا

إذا لم تكن هناك خارطة طريق تتضمن تعديلات جوهرية على النظامين السياسى والانتخابى تعيد توزيع السلطة بالتوافق العام وفق القيم الدستورية الحديثة وضمان الحريات العامة قبل انقضاء فترة «الإجراءات الاستثنائية» الموقوتة بشهر فإن الإخفاق بتبعاته الثقيلة قد يكون محتما.
كان مثيرا للالتفات أن الاتحاد التونسى للشغل طرح على نفسه وضع خارطة طريق للاستئناس بها.
هذه ليست مهمة الاتحادات النقابية، عمالية أو مهنية، بقدر ما هى وظيفة القوى والتجمعات السياسية، التى بدت فى أحوال ترنح وانكشاف.
الحديث المتواتر عن ضرورة تشكيل «حكومة كفاءات» لإنقاذ البلد فيه اعتراف كامل بفشل الأحزاب والحياة السياسية، فمثل هذه الحكومات لا تنشأ إلا فى أوضاع أزمات، أو مراحل انتقال.
هناك سؤالان يلحان الآن على المسرح السياسى التونسى.
الأول، هل هناك تهديد حقيقى للديمقراطية والحريات العامة يستدعى الحذر؟
الإجابة: نعم، أيا كانت النوايا، فالانزلاق إلى دولة الرجل الواحد محتمل بالفعل ورد الفعل.
والثانى، هل يحق لحركة «النهضة» أن تسوق نفسها باعتبارها مدافعة عن الديمقراطية والحريات العامة والثورة؟
الإجابة: لا، فتجربتها بالحكم لم تكن إيجابية باعتراف رئيسها «راشد الغنوشى»، الذى حاول أن يخفف من ثقل ما تتعرض له من اتهامات بـ«إنها لا تتحمل المسئولية وحدها»، دون أن يجيب على سؤال: كيف تعفنت الحياة السياسية التونسية وأهدرت قواعد نزاهة الحكم وضرورات العدل الاجتماعي؟
الإصلاح السياسى والدستورى أولويته مؤكدة، لكنه ليس وحده، فهناك ملفات أخرى تزاحمه نفس درجة الأولوية وتحظى بشعبية لافتة، خاصة ملف الفساد المستشرى فى بنية الدولة والنخب السياسية الحاكمة.
المعضلة ــ هنا ــ أن الفترة الاستثنائية الموقوتة بشهر تضيق عن المضى قدما بالتحقيق فى لوائح الاتهام.
هناك خشية من أفخاخ التسييس المفرط على حساب قواعد العدالة، التى تقتضيها دولة القانون.
الضرب على مراكز الفساد قضية حقيقية وملحة، لكنها تتطلب خطة طويلة الأجل تتضمنها خارطة طريق تعمل على «تنظيف الحياة العامة» من «سراق المال العام» ــ بحسب التوصيف التونسى.
ظلال السياسة حاضرة فى فتح التحقيقات القضائية بقضايا فساد، أو تلقى تمويلات أجنبية، أو سوء استخدام السلطة التشريعية للحصول على منافع خاصة.
إذا ما ثبتت الاتهامات بحق حركة «النهضة» وحليفها البرلمانى «قلب تونس» بتلقى تمويلات أجنبية أثناء الانتخابات النيابية فإن سيناريو إلغاء نتائج الانتخابات النيابية و«حل البرلمان» ليس مستبعدا.
وفق نفس السيناريو فإن أية انتخابات نيابية جديدة سوف تقوض الوزن السياسى لحركة «النهضة» إلى المرتبة الثالثة أو الرابعة، إذا لم تحل الحركة بقرار قضائى، وهو احتمال يصعب حدوثه فى المعطيات الحالية.
لهذا السبب صرح زعيمها «الغنوشى» استعداد حركة «النهضة» لتقديم أية تنازلات «مقابل استعادة الديمقراطية»!
قضيته الحقيقية ليست الديمقراطية بقدر مصير الحركة نفسها!
باليقين فإن حركة «النهضة» باعتبارها سلطة الحكم، أو الشريك الرئيسى فيه منذ إطاحة الرئيس الأسبق «زين العابدين بن على» تتحمل المسئولية الأولى عن أية أخطار تتهدد الديمقراطية الناشئة بإشاعة أجواء الكراهية والفزع العام والإفراط بالاستئثار بالسلطة وجوائزها!

ملف الاغتيالات يزكى سيناريو حل الحركة إذا ما أثبتت التحقيقات تورط «النهضة» فى إنشاء جهاز سرى عسكرى

مشاهد الأزمة تكاد تتلخص فى رجلين، رئيس الجمهورية «قيس سعيد» ورئيس البرلمان «راشد الغنوشى».
تقاطع الرجلان لأول مرة فى الانتخابات الرئاسية قبل عام ونصف العام.
«الغنوشى» رشح نائبه، لكنه حل ثالثا.
فى جولة الإعادة مال إلى تزكية «الرجل النظيف»، الذى يكاد ألا يعرفه أحد، فى مواجهة زعيم «قلب تونس» «نبيل القروى» المحتجز خلف القضبان بتهم فساد.
تصور أن بوسعه السيطرة عليه بسهولة بالغة، فهو بلا ظهير سياسى، يفتقد أية خبرة سياسية يعتد بها، وما هو معروف عنه من أفكار صلبة شحيح، تقول فى نفس واحد إنه إسلامى ويسارى وقومي!
لم يكن ذلك الرئيس رجلا يمكن السيطرة عليه كما اعتقد «الغنوشى».
ببرجماتية زائدة تحالف تاليا مع «القروى» فى مواجهته دون اعتبار أن حركته وصفت الأخير مرارا وتكرارا بـ«الفساد» حتى يصبح ممكنا أن يكون رئيسا للبرلمان ومركز السلطة الحقيقى فى البلد!
إذا لم يحل «قلب تونس» بحكم قضائى على خلفية قضية التمويل الأجنبى فإنه مرشح للإطاحة بـ«الغنوشى» من رئاسة البرلمان لإرضاء رئاسة الدولة، التى كشرت عن أنيابها واستقطبت قيادات الجيش والشرطة إلى صفها.
كان تصريح رئيس الكتلة النيابية لـ«قلب تونس» كاشفا عن ذلك التوجه بإعلانه دعم وتأييد قرارات الرئيس الاستثنائية بعدما وصفها فى البداية بـ«الانقلاب»!
هناك ملفات أخرى مرشحة أن تفتح أخطرها قضية الاغتيالات السياسية، التى تحوم شكوك قوية حول تورط شخصيات محسوبة على النهضة، فى اغتيال القيادتين البارزتين اليسارية «شكرى بلعيد» فى (6) شباط/فبراير (2013) والناصرية «محمد البراهمى» فى (25) تموز/يوليو من العام نفسه.
ملف الاغتيالات يزكى سيناريو حل الحركة إذا ما أثبتت التحقيقات تورط «النهضة» فى إنشاء جهاز سرى عسكرى.
ما هو ملح من إصلاح سياسى ودستورى يوفر إطارا عاما صحيحا وديمقراطيا لتعقب الفساد فى مراكزه وحساب المتورطين فى الاغتيالات.
تونس إلى أين من هنا؟
كل شيء معلق على خارطة طريق تجد إجابات مقنعة ومتماسكة لإعادة تأسيس النظام السياسى وفق قواعد العدالة ودولة القانون واحترام الحريات العامة، وإلا فإن المعادلات التونسية الصعبة قد يختل ميزانها ويدخل البلد فى دوامات فوضى.

إقرأ على موقع 180  رئيسنا ليس ملكاً.. ونظامنا لا يشرّع الفراغ

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
عبدالله السناوي

كاتب عربي من مصر

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  هل يعترف مشروع الإسلام السياسي بالدرس المغربي؟