إيران ومفاوضات فيينا.. فوائد خيارات التشدد والإنفتاح

يُنتظر من الجولة السّابعة من محادثات فيينا - وهي أوّل جولة بعد وصول إبراهيم رئيسي إلى رئاسة الجمهورية الإيرانية في يونيو/حزيرن 2021- أن تكون اختبارا للحكومة الإيرانية الجديدة المحافظة، ولا سيما لوزير الخارجية حسين أمير عبداللهيان، فهل ستنتهج إيران سياسة جديدة تجاه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أم ستواصل الطريق نفسه؟

اقتضت مصلحة الولایات المتحدة الأمريكية تقييد برنامج إيران النووي، وخاصة منع استخدامه لأغراض عسکرية. في المقابل، تتمثل المصلحة الوطنية الإيرانية في الحصول على امتیازات اقتصادیة من خلال الرفع الكامل للعقوبات الاقتصادية المفروضة ضدها. وقد تحققت المصلحتان من خلال خطة المبادرة الشاملة التي جاء بها الاتفاق النووي الموقع عام 2015، لكن سرعان ما تعثّرت لغة الحوار بين الطرفين منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في العام 2018 بقرار من الرئيس الجمهوري دونالد ترامب الذي لم يكتف بذلك، بل أقدم على اتخاذ عقوبات جديدة بحق طهران. وهكذا اختارت الولايات المتحدة أسوأ طريقة لإجبار إيران على التفاوض الدبلوماسي في مرحلة ما بعد الاتفاق النووي.

لكن برُغم عظمتها ودورها في السياسة الدولية، تحتاج الولايات المتحدة إلى مستشار قوي یعلّمها كيف تتعامل مع إيران. فعلا، يجب أن تفهم الولايات المتحدة أن العودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015 هو الحل الدبلوماسي الأكثر حكمة للسيطرة على برنامج إيران النووي، فمن خلاله یمکن إجراء الرقابة الأکثر دقة. من ناحية أخرى، وعلى حد قول أحد المفاوضين الإيرانيين السابقين، فإن تمتع إیران بالفوائد الاقتصادية الناتجة عن الاتفاق هو الحل الأمثل باتجاه قبول إیران التنفيذ الكامل للاتفاق النووي، ولن تجد الولايات المتحدة وأوروبا أداة أفضل من هذه لإقناع إيران بإجراء محادثات شاملة في المستقبل.

إيران لن تعسكر برنامجها النووي

على الولايات المتحدة وأوروبا أن تتوقفا عن اتهام إيران بمحاولة عسكرة برنامجها النووي، لأنهما تعرفان جيداً أنه منذ عام 2003، لم ينحرف البرنامج النووي الإیراني نحو الأهداف العسكرية. وإن حصل ذلك، فينبغي منح أوسكار لتل أبيب بعد سرقتها وثائق نووية من منطقة شور آباد في طهران، في كانون الثاني/يناير 2018. فقد تبيّن أن لا قيمة للمعلومات المسروقة، لأن المعلومات نفسها کانت بحوزة الوكالة الدولية والولايات المتحدة وباقي أطراف الاتفاق (5+1)1، كما كانت موضوعة على طاولة المفاوضات النوویة. وقد أكّدت المؤسسات الأمنیة والاستخباراتیة للولایات المتحدة وأوروبا أن إیران لم تبذل أي جهد منذ عام 2003 لعسکرة برنامجها النووي، ولهذا السبب تم إغلاق ملف “الأبعاد العسکریة المحتملة لإیران” (Possible military dimensions, PMD) خلال الاتفاق النووي عام 2015. كما لم يكن لنشر رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو للوثائق النووية الإيرانية أي تأثير على أصل الاتفاق النووي، ولم تتمكن تل أبيب من تقديم أي دليل يثبت عسكرة البرنامج النووي الإيراني. لذا، علی الولايات المتحدة وأوروبا أن لا تتأثرا بإسرائيل في أي تفاوض مع إيران، وأن تعلما بأن أي تفاوض مستقبلي مع الجمهورية الإسلامية سیمرّ عبر العودة إلى الاتفاق النووي لعام 2015، وأن إنخراط إيران في النظامين الدولي والإقليمي ممره الإلزامي استعادة إيران ثقتها بالغرب، ولا مدخل للثقة إلا برفع العقوبات بالكامل.

أثبتت الجولات الست الماضية من محادثات فيينا أن الأمريكيين لن یرفعوا العقوبات الكاملة ولن یقدموا ضماناً للتنفيذ المشرف والعادل للاتفاق النووي ولعدم انتهاكه مجدداً أو الانسحاب الأحادي الجانب منه مرة أخری. ومن وجهة نظر الجانب الإيراني، فقد حاولت الأطراف الغربیة تحقيق هدفين خلال هذه الجولات هما أولاً، ضمان رقابة طويلة الأمد (إن لم نقل دائمة) على برنامج إيران النووي (حتى بعد انتهاء تاريخ صلاحیة الاتفاق)، وثانيًا، الحصول على ضمانة من الجمهورية الإسلامية لإجراء محادثات إقليمية في الشرق الأوسط، بهدف تقليل التوتر والقیام بإجراءات لبناء الثقة. إلا أن إيران رفضت كلا البندين رفضاً قاطعاً.

يعيب الجانب الإيراني كذلك على الولايات المتحدة أنها لم ترفع الخمسمائة عقوبة على الأفراد والكيانات القانونية والمؤسسات الإيرانية التي فرضتها إدارة دونالد ترامب، کما رفضت إلغاء “قانون كاتسا”2. ولم تبد واشنطن استعداداً لتقدیم أي ضمانة لتشجيع قيام شركات دولية كبرى بالاستثمار الطویل الأمد في إیران، ما یؤدي إلی ابتعاد المستثمرین.

اقتصاد مقاوم

في ظل انعدام الثقة بالولایات المتحدة، لن يظهر الوفد الإيراني الجديد أي مرونة في المفاوضات تحت إشراف وتوجيهات آية الله علي الخامنئي والمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني. وبالنسبة له، لن يكون هناك اتفاق إلا إذا کان شاملاً، حتى إذا تطلب الأمر العودة إلی نقطة الصفر في المفاوضات. وستواصل إيران سياسة تقليص التزاماتها النووية إذا لم يكن لدى الغرب التزام عملي بتنفيذ اتفاقية 2015، فهي تعتبر نفسها تحت وطأة عقوبات أمريكية شديدة منذ 15 عامًا، وقد تعوّد عليها اقتصادها ومجتمعها. وبالفعل، لم تترك الولايات المتحدة وسيلة إلا واستخدمتها لمعاقبة الجمهورية الإسلامية، حتى كادت تستنفذ خياراتها. رغم ذلك، تعتبر إيران نفسها دولة مقتدرة وقادرة، فهي القوة الأولى عسكريا وسياسيا في غرب آسيا والشرق الأوسط. ومنذ حوالي خمسة أعوام، أنشأت إیران اقتصاداً سمّته بالـ“اقتصاد المقاوم”، ووقعت اتفاقية استراتيجية مدتها خمسة وعشرين عامًا مع الصين، وبدأت نفس المسار مع روسيا. ففي مارس/آذار 2021، أصبحت إيران عضوًا في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، كما انضمت في 18 سبتمبر/أيلول الحالي إلى منظمة شنغهاي للتعاون الاقتصادي. لهذا السبب، ليست إيران في عجلة من أمرها للتوصل إلى اتفاق في محادثات فيينا، وفق قراءة بعض الأوساط الإيرانية المقربة من مراكز القرار.

يعيب الإيرانيون على الولايات المتحدة أنها لم ترفع الخمسمائة عقوبة على الأفراد والكيانات القانونية والمؤسسات الإيرانية التي فرضتها إدارة  ترامب، کما رفضت إلغاء “قانون كاتسا”. ولم تبد واشنطن استعداداً لتقدیم أي ضمانة لتشجيع قيام شركات دولية كبرى بالاستثمار الطویل الأمد في إیران

كما ترى الحكومة الإيرانية الجديدة أن الولايات المتحدة هي من نقض الاتفاق النووي، وعليه وجب على واشنطن أن تتخذ الخطوة الأولى لبناء الثقة. وأخيراً، يجب أن تقتصر محادثات فيينا من وجهة نظر طهران وفريقها المفاوض على المحادثات النووية الناتجة عن انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، ولا يحق لأي من الأطراف الغربية المشارکة إثارة أي قضايا غير ذي صلة، بما في ذلك دور إيران الإقليمي ونظام دفاعها الصاروخي.

إقرأ على موقع 180  إيران والإمارات.. حلفٌ معمدٌ بالمصالح!

أمل لا يزال قائما

برغم ذلك، تشير بعض التصريحات إلى استعداد إيران لإبرام اتفاق، فقد أعلن الرئیس الإیراني إبراهیم رئیسي خلال أدائه اليمين الدستورية أمام البرلمان في 5 أغسطس/آب 2021 دعمه لـ“أي حل دبلوماسي یؤدي إلی رفع العقوبات عن إیران”. وكتب رجل الدين الإيراني ورئيس تحرير صحيفة “الجمهورية الإسلامية” المعتدلة مسيح مهاجري مخاطباً إبراهيم رئيسي في 25 أغسطس/آب 2021:

سيدي الرئيس، إذا كنت تعرف طريقة لرفع العقوبات غير إحياء الاتفاق النووي والانضمام إلى مجموعة العمل، فلا تتردد في اتباع هذا المسار. لكن إذا شعرت بالحاجة إلى إحياء الاتفاق النووي والانضمام إلى مجموعة العمل المالي، فلا تتردد في اتخاذ الإجراءات اللازمة من أجل تحقيق الراحة والرفاهية للشعب الإيراني، فبلادنا تحتاج إلى رفع العقوبات.

في هذا الإطار، يقول عبد الرضا فرجي راد الأستاذ الجامعي والسفير الإيراني الأسبق في النرويج والمجر: “إذا طال أمد محادثات فيينا أو ضاع الأمل في التوصل إلى نتائج، سيكون لذلك آثاره السلبية البعيدة المدى على الحكومة والشعب”. من جانب آخر تقول زهرة الهيان، عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية بالبرلمان الإيراني إن وزير الخارجية “حسين أمير عبد اللهيان يرى أن المفاوضات إيجابية وبناءة، وتتماشى مع رؤية المرشد الأعلى والرئيس”3.

وعلى الرغم من أن إبراهيم رئيسي یُعتبر من أبرز رموز تیار المحافظین، إلا أن مواقفه تدل أنه يود أن يظل أكثر انفتاحًا في السياسة الخارجية مقارنة مع الإصلاحیین في إیران، مع الحفاظ على مبادئ الاستقلال والكرامة، وهذه فرصة تاريخية الولايات المتحدة وأوروبا في مفاوضات فيينا مع إيران. وثمة يقين في طهران أنه إذا تجاوز الغرب سد فيينا بأمان، سيتم فتح الطريق لمحادثات شاملة مع إيران في السنوات الأربع المقبلة.

فرصة تاريخية

فعلاً، فقد أجرى الفريق السياسي والاقتصادي للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي فور تسلمه المهام الرئاسية اتصالات مع العديد من العناصر الإصلاحية المهمة، وطالبهم بتقدیم حلول للأزمات الاقتصادية والسياسية. لم يتبنَّ فريقه حتى الآن أي سياسات محافظة متطرفة في مجال السياسة الداخلية. أما في مجال السياسة الخارجية، فقد دعا إلى إقامة علاقات عادلة مع الغرب في ظل الاحترام المتبادل، كما أعلن رئيسي رسميًا أنه علی استعداد لمناقشة الحلول مع أي طرف علی صعید المنطقة والعالم. نقطة قوته هي أنه ولأول مرة منذ 32 عاماً، يسيطر المحافظون على جميع أرکان القوة في إيران، وقد كان الرئيس السابق حسن روحاني يفتقر إلى هذه القوة، ما يجعل من السهل على إبراهيم رئيسي تولي السلطة السياسية لمدة ثماني سنوات وإبرام أي اتفاق خارجي، بفضل الوزن الذي يمثله في الداخل الإيراني. ومن المؤكد أنه في حال تم التوصل إلى اتفاق، سيجني إبراهيم رئيسي ثماره ويعزز مكانته في الداخل من خلال إزالة واحدة من أكبر العقبات أمام التحول الاقتصادي الإيراني.

توقفت محادثات فيينا بعد ست جولات في نقطة تسمى بـ“نقطة اتخاذ القرارات السياسية الصعبة”. يبقى على إيران والولايات المتحدة تجاوز هذه المرحلة باتخاذ سياسات حكيمة لخلق أفق جديد وأسهل لدخول المراحل التالیة وخلق التغییر

إلى جانب ذلك، فإن إبراهيم رئيسي عضو في مجلس خبراء القيادة ويعتبر من أقوى المرشحين لخلافة القائد في إيران، بالنظر إلى المناصب التنفیذیة التي تولاها، بما في ذلك رئاسته الحالية. كما يعتبره قائد الثورة الإسلامیة آية الله الخامنئي من الشخصيات البارزة بين رجال الدين الإيرانيين، وقد أثنى عليه وعلى خصاله في مرسوم الموافقة على رئاسته. لذا يعتقد الكثيرون في إيران أنه مثلما انتقل آية الله خامنئي من الرئاسة إلى قيادة إيران، فسيكون لإبراهيم رئيسي نفس المسيرة ولديه نفس الفرصة ليصبح الزعيم المستقبلي لإيران. ومن هذا المنظور، يسعى رئیسي إلى أن يلعب دور الأب للمجتمع الإیراني عبر تقدیم حلول إصلاحیة وبعیدة عن التشدد، حتی یتمكن من إيجاد حلول للأزمات الاقتصادیة الناجمة عن العقوبات وجائحة الکورونا.

استجابة غير منتظرة

في الثالث والعشرين من شهر مايو/أيار الماضي، أي أواخر عهدة الرئيس حسن روحاني وحكومته، وعقب انتهاء مهلة الشهور الثلاثة التي عينها البرلمان الإيراني في إطار قانون استراتيجية رفع العقوبات وعودة أمريكا إلى الإتفاق النووي، قال رئيس البرلمان الإيراني المحافظ محمد باقر قاليباف أنه بُناء عليه، لا يحق للوكالة الدولية للطاقة الذرية الحصول على تسجيلات كاميرات المراقبة بعد الآن. وفي السياق ذاته، قال العضو في الهيئة الرئيسية في البرلمان الإيراني علي رضا سليمي إنه ووفق القانون البرلماني، وجب إتلاف جميع الصور والتسجيلات التي سجلتها كاميرات المراقبة الخاصة بالوكالة الدولية للطاقة الذرية وإبلاغ الوكالة الدولية بذلك.

لكن خلال الزيارة الأخيرة التي أجراها مدير وكالة الطاقة الذرية رافائيل غروسي إلى طهران في الثاني عشر من سبتمبر/أيلول الجاري وخاض فيها جولة من المفاوضات مع الرئيس الجديد للمنظمة الايرانية للطاقة النووية محمد اسلامي، توصل الطرفان إلى اتفاق لم يعارضه البرلمان، إذ منحت إيران مفتشي الوكالة الحق في إجراء عمليات الصيانة على أجهزة المراقبة، وأن تقوم الوكالة باستبدال بطاقات الذاكرة في كاميرات المراقبة، على أن يتم الاحتفاظ ببطاقات الذاكرة القديمة في إيران وفق آلية تضمن للوكالة عدم العبث بمحتوياتها. خطوة فاجأت الوكالة الدولية بلا شك، واعتبرت دليل حسن نية، خاصة من طرف حكومة محافظة.

توقفت محادثات فيينا بعد ست جولات في نقطة تسمى بـ“نقطة اتخاذ القرارات السياسية الصعبة”. يبقى على إيران والولايات المتحدة تجاوز هذه المرحلة باتخاذ سياسات حكيمة لخلق أفق جديد وأسهل لدخول المراحل التالیة وخلق التغییر.

(*) ينشر بالتزامن مع “أوريان 21“.

Print Friendly, PDF & Email
طهران ـ علي منتظري

كاتب وصحافي ايراني مقيم في طهران

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  سؤال "المليون دولار الإسرائيلي": كيف سيتصرف بايدن مع طهران؟