سوليفان في الرياض.. مراجعة سعودية وخلاصات

حمل اللقاء الذي عقد بين مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان وولي العهد السعودي محمد بن سلمان في مدينة نيوم الجديدة على ساحل البحر الأحمر دلالات عدة بالنسبة لكل من الولايات المتحدة وبلاد الحرمين وبشكل عام لأمن المنطقة.

بالنسبة إلى الولايات المتحدة، تأتي زيارة جيك سوليفان لتوقف مساراً بدأ مع ولاية جو بايدن في البيت الأبيض مطلع هذه السنة، سمته الأبرز “معاقبة” المملكة العربية السعودية بشكل عام وولي العهد بشكل خاص، بسبب “فقدان الديمقراطية”! وقد شكّل ذلك الموقف استمراراً لموقف بدأ مع الرئيس الديموقراطي الأسبق باراك أوباما الذي أراد تحوّلاً كبيراً في تاريخ العلاقات بين البلدين، هو الأول من نوعه منذ الصفقة التي عقدت على متن المدمرة “كوينسي” عام 1945 بين الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت والملك السعودي عبد العزيز آل سعود.

لذلك وجدنا إدارة بايدن تسمح بنشر تقرير لوكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي آي إيه) حول مقتل الصحافي السعودي المعارض جمال خاشقجي، يوحي بمسؤولية ولي العهد عن ارتكاب تلك الجريمة، كما أن الولايات المتحدة قررت سحب صواريخ “باتريوت” ومنظومة “ثاد” للصواريخ المتطوّرة من المملكة وإيقاف صفقة أسلحة بحجة “الانتهاكات السعودي لحقوق الانسان”! هذه الإجراءات ساهمت إلى حد كبير في بدء السعودية مراجعة سياسات كانت ثابتة لعقود عديدة. لذلك، عقدت الحكومة السعودية اتفاقا للتعاون الدفاعي في أواخر شهر آب/أغسطس مع الصين، كما باشرت بحوار مع الجمهورية الإسلامية في إيران برعاية حكومة بغداد. كما أنها أبدت استعداداً لمراجعة موقفها من سوريا عبر عودة الحديث عن إعادة فتح سفارة بلاد الحرمين في دمشق. إذن، ظهرت مؤشرات ملموسة تفيد أن المسؤولين السعوديين بدأوا بإجراء مراجعة قد تكون شاملة في المرحلة المقبلة.

هذا الهامش من الاستقلالية السعودية (النسبية حتى الآن) مؤشر بشأن وجود مراجعة ما للسياسات المتبعة في المملكة قد تحوّل الصدمة الناتجة عن الانسحاب الأميركي من أفغانستان وبرودة البيت الأبيض تجاه الرياض إلى فرصة لصوغ سياسة خارجية جديدة

لكن ما يلفت النظر أن التقارب الذي ما زال في بداية الطريق بين الرياض وطهران أدّى إلى انخفاض حدّة التوتر في منطقة الخليج، ما يدلّ على ان زعزعة الاستقرار في المنطقة يعود إلى دور الولايات المتحدة فيها.  بمعنى آخر، يمكن تأمين أمن الخليج بين الدول المعنية في الخليج من خارج أي تدخل للولايات المتحدة في أمن البيت الخليجي، وهذا الدرس لن يغيب عن بال العديد من الدول في المنطقة وخارجها بأن الولايات المتحدة كانت عنصر عدم استقرار في المنطقة وداخل دولها.

هذا التطوّر لم يفاجئنا بل توقعناه منذ بضع سنوات عندما شرحنا الخيارات الصعبة التي تواجه دول الجزيرة العربية بشكل عام وبلاد الحرمين بشكل خاص. وقد طرحنا، وقتذاك، أسئلة يمكن إعادة طرحها اليوم: هل تستطيع الولايات المتحدة تقديم “الحماية” مقابل “الخوّة” التي تدفعها الأسرة السعودية الحاكمة وفقاً لنهج دونالد ترامب في التعامل مع حكومة الرياض، بكل ما يتركه من تداعيات سلبية على سكّان الجزيرة؟ وهل يمكن الوثوق بالولايات المتحدة التي ساهمت في تأزيم الموقف بين دول مجلس التعاون بغية الابتزاز؟ وهل وقفت فعلاً إلى جانب حكومة الرياض في خلافها مع قطر؟ وهل هناك من يمكن أن يصدّق أن الولايات المتحدة ستفي بوعودها وهي التي تخلّت في كافة أنحاء العالم عن “حلفاء” موثوقين عندما إقتضت المصلحة الأميركية ذلك؟ وهل الذي تخلّى عن “الكنز الاستراتيجي”، أي الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، سيتمسك بالأسرة السعودية الحاكمة؟ أسئلة كثيرة من السهل الإجابة عليها إذا ما افترضنا أن النخب الحاكمة في الجزيرة العربية تمتلك الحد الأدنى من البصيرة.

وما يعزّز ذلك هو سيل الانتقادات التي تُوجّه لحكومة الرياض في الكونغرس وفي مراكز الأبحاث وفي وسائل الاعلام وبطبيعة الحال في وسائل الاعلام البديلة. وأسوة بالسؤال حول جدوى التحالف مع الولايات المتحدة، نطرح التساؤل حول جدوى التحالف مع الكيان الصهيوني. فهل تعتقد حكومة الرياض أنها ستكون بمنأى عن أطماع هذا الكيان بثروات الجزيرة إذا ما نجح مخطّط الكيان العبري في تقسيم المنطقة وإضعاف العرب؟

وتأتي المراجعة السعودية بالتزامن مع الانسحاب الأميركي من أفغانستان وما يطرح من تساؤلات حول جدّية “الحماية” الأميركية وخاصة بعد سحب منظومات الصواريخ الدفاعية “باتريوت” و”ثاد”.

ومن سخرية الأمور أن المحادثات بين ولي العهد السعودي ومستشار الأمن القومي الأميركي تطرقت إلى مسألة انهاء الحرب على اليمن في ظل انكشاف المواقع الحساسة في بلاد الحرمين قبالة الصواريخ اليمنية.

ما بات واضحاً أن المشرق العربي دخل مرحلة جديدة من رسم الخرائط السياسية وإعادة النظر بالتحالفات، وهو مسار قد يؤدّي إلى استقرار بعيداً عن التدخلات الغربية ولا سيما الأميركية التي تفقد يوما بعد يوم مصداقيتها وهيبتها في نظر الحليف قبل الخصم

وما لفت نظرنا هو تغييب البيت الأبيض، إعلامياً، عن نتائج زيارة سوليفان لبلاد الحرمين. وكان لافتاً للإنتباه عدم صدور أي تصريح أميركي حول ما تناولته المباحثات ولا حتى عن حدوث الزيارة. البيان الوحيد عن الزيارة صدر عن الرياض وأسهب في التشديد على التعاون بين البلدين. هذه “الإيجابية” التي أظهرها بيان حكومة الرياض لم يتلازم مع صدى مشابه في الجهة الأميركية. فالبيان السعودي تناول القضايا ذات الإهتمام المشترك ولكن ما غاب عنه هو عدم ذكر الجمهورية الإسلامية في إيران.

إقرأ على موقع 180  لغتنا العربية مسألة مادية لا ثقافية وحسب

بالمقابل، لاحظنا اللهجة الإيجابية لخادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز الذي تكلّم عن ضرورة تحسين العلاقات مع “الجارة”، أي إيران، وذلك بعد سلسلة من التصريحات شديدة اللهجة تجاه الجمهورية الإسلامية. وليس مستبعداً في بيانات مستقبلية ظهور مصطلح “الشقيقة”، فغياب إيران عن البيان لا يعنى ان بلاد الحرمين لم تعد معنية بمفاوضات فيينا حول الاتفاق النووي بين الجمهورية الإسلامية والولايات المتحدة بل يعنى أن حكومة الرياض قد تسلك طريقا لا يعتمد بالضرورة على الولايات المتحدة بل يرتكز إلى منظومة السعودية المباشرة. هذا الهامش من الاستقلالية (النسبية حتى الآن) مؤشر بشأن وجود مراجعة ما للسياسات المتبعة في المملكة قد تحوّل الصدمة الناتجة عن الانسحاب الأميركي من أفغانستان وبرودة البيت الأبيض تجاه الرياض إلى فرصة لصوغ سياسة خارجية جديدة تؤمّن استقرار المنطقة وحماية الأنظمة القائمة.. فرب ضارة كانت نافعة!

ما يعزّز هذا التفاؤل النسبي هو إنعقاد قمة بغداد بحضور كل من بلاد الحرمين والجمهورية الإسلامية في إيران وفرنسا. فهل مأسسة الأمن الإقليمي تكون بعيدة عن دور أميركي خاصة إذا انسحبت الأخيرة من العراق وفي ما بعد من سوريا؟ هذا ما ستكشفه الأسابيع المقبلة.

وإلى أن يتم ذلك، ألقى الانسحاب الأميركي من أفغانستان بظلاله على دول المنطقة. فتنامي منظمة شنغهاي التي انضمت إليها الجمهورية الإسلامية في إيران ستتوسع غرباً نحو العراق وسوريا. فهل تستطيع بلاد الحرمين ان تبقى خارجها؟ وهذا يعني تعزيز منظومة البحار الخمسة التي أطلقها منذ عقد من الزمن الرئيس السوري بشار الأسد.  فالبحر المتوسط والبحر الأسود وبحر قزوين والخليج العربي والبحر الأحمر تشكل منظومة أمنية جيوسياسية تتكامل مع منظومة شنغهاي. كل هذه التطورات تنسف محاولات الولايات المتحدة الهادفة لإيجاد منظومات إقليمية أمنية وفقا لنظرية المربّعات كالمربع المرتقب لمواجهة الصين والذي يضم كلاً من اليابان وأستراليا والهند والولايات المتحدة (كواد).

في هذا السياق، نلحظ إبرام صفقة سلاح الدفاع الجوّي بين الهند وروسيا وتشمل خمس منظومات من بطاريات اس 500، ما يرفع منسوب قلق الولايات المتحدة في “تجنيد” الهند وضمّها إلى عضوية فاعلة وفعّالة في المنظومة الرباعية.

أما في الجزيرة العربية فالتحوّلات التي تحصل بوتيرة سريعة تجعل مراجعة السياسات المتبعة من قبل دول مجلس التعاون مسألة ضرورية لن تنجلي صورتها إلاّ بعد فترة.

ما بات واضحاً أن المشرق العربي دخل مرحلة جديدة من رسم الخرائط السياسية وإعادة النظر بالتحالفات، وهو مسار قد يؤدّي إلى استقرار بعيداً عن التدخلات الغربية ولا سيما الأميركية التي تفقد يوماً بعد يوم مصداقيتها وهيبتها في نظر الحليف قبل الخصم.

Print Friendly, PDF & Email
زياد حافظ

باحث؛ كاتب إقتصادي ـ سياسي؛ وعضو الهيئة التأسيسية للمنتدى الاقتصادي والإجتماعي

Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
online free course
إقرأ على موقع 180  كيف تؤثر إمارة صغرى (الإمارات) في قرار دولة عظمى (أميركا)؟