عندما بدأت إسرائيل غزوها للبنان، في العام 1982، كان مخيم “البرج الشمالي” للاجئين الفلسطينيين في صور- جنوب لبنان على رأس قائمة الأهداف التي تريد تدميرها. كان المخيم بنظر القوات الغازية “موطناً لجهاز تجنيد عسكري واجتماعي وسياسي تديره فصائل المنظمات الفلسطينية”. فرضت عليه حصاراً مشدداً، وتقصدت قصف سلالم المباني أولاً لتدمير طرق الهروب واختراق الملاجئ تحت الأرض. إحدى قذائفها أصابت تجمعاً سكانياً كان يضم أكثر من مائة شخص لم ينجُ منهم سوى إثنان فقط. لم تستطع الفصائل الفلسطينية الصمود أكثر من ثلاثة أيام ونصف. فبعد معارك طاحنة أسفرت عن مقتل أكثر من 2600 شخص (من أصل 16000 نسمة كانوا يسكنون المخيم) استخدم جيش الاحتلال قذائف الفوسفور الأبيض وتمكن من إجبار المقاتلين على الإنسحاب (…).
قد يكون ما حدث قبل 41 عاماً في “البرج الشمالي” (معروف أيضاً بـ”مخيم الشهداء”) مشهداً من حرب إسرائيل المستمرة ضد قطاع غزة، حيث يستخدم جيش الاحتلال في عدوانه على الأحياء ومخيمات اللاجئين سلاح الطيران والدبابات المدرعة وقذائف الفوسفور الأبيض. كان الهجوم على “البرج الشمالي” واحداً من أولى معارك “عملية سلامة الجليل” ( الإسم الإسرائيلي لإجتياح 1982) بذريعة “الرد على اغتيال سفير إسرائيل لدى بريطانيا” (شلومو أرغوف). كان الهدف المباشر للإجتياح “القضاء على منظمة التحرير وفصائلها الفدائية” (…). ولكن كان لإسرائيل طموحات أخرى أيضاً: بدأت باستهداف البُنية التحتية العسكرية والمدنية للفلسطينيين، ولم تنته بإنشاء منطقة عازلة على طول الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، وإنهاء الوجود السوري (وضرب الحركة الوطنية اللبنانية)، وتنصيب حكومة مسيحية يمينية “صديقة” في بيروت (…).
لا حل عسكرياً
أكثر من 12 ألف مدني فلسطيني استشهدوا في غزة، وهو رقم سيستمر في الارتفاع. في المقابل، أسفرت عملية “طوفان الأقصى”، في 7 تشرين الأول/أكتوبر عن مقتل نحو 1200 إسرائيلي وأسر أكثر من 240 آخرين، بالإضافة إلى مقتل عشرات الجنود والضباط الإسرائيليين منذ بدء الاجتياح البري الإسرائيلي للقطاع، وهو رقم سيستمر في الارتفاع أيضاً.
من الآن يمكن القول إنه، مهما قالت وفعلت، لن تتمكن إسرائيل من القضاء على الفصائل الفلسطينية، لا في غزة ولا حتى في الضفة الغربية. فحتى لو أضعفتها، ستُعيد الفصائل المسلحة تشكيل نفسها، وسوف تظهر منظمات وجماعات أخرى لملء أي فراغ؛ تماماً كما حصل في أواخر الثمانينيات إثر اجتياح لبنان. وعلى صُنَّاع القرار في إسرائيل أن يفهموا أمراً واحداً فقط؛ يعرفه الخبراء الإقليميون ويقتنعون به منذ سنوات طويلة؛ ألا وهو: لا يوجد حل عسكري للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني (…).
قبل عملية “سلامة الجليل” في صيف العام 1982 بأربع سنوات، نفذ الجيش الإسرائيلي عملية عسكرية واسعة في جنوب لبنان، رداً على عملية فدائية نفذتها حركة “فتح” التي اختطف عناصرها حافلة إسرائيلية عبر الحدود وقتلوا عشرات الإسرائيليين. أدى غزو عام 1978 إلى نزوح أكثر من 285 ألف شخص من جنوب لبنان واستشهاد آلاف اللبنانيين والفلسطينيين. وانتهى الإجتياح بصدور قرار الأمم المتحدة الرقم 425 الذي يقضي بوقف إطلاق النار وإنسحاب إسرائيل، وإنتشار قوات من الأمم المتحدة (اليونيفيل) في جنوب لبنان. لكن ذلك لم يُضعف الفصائل الفلسطينية المسلحة.
لذلك، عندما قرّرت إسرائيل شنّ عملية “سلامة الجليل”، في أوائل شهر حزيران/يونيو 1982، قالت إنها ستكون عبارة عن “مهمة مدتها 48 ساعة فقط، للقضاء على منظمة التحرير والفصائل المسلحة داخل منطقة حدودية يبلغ طولها 40 كيلومتراً”. لكن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك رافائيل إيتان، ووزير الدفاع حينذاك أرييل شارون قررا التوغل في عمق الأراضي اللبنانية أكثر مما كان مخططاً له، ووصل الاجتياح إلى العاصمة بيروت.
يومها أُتهم أرييل شارون بأنه يخوض الحرب في لبنان من أجل مصالحه السياسية والشخصية، تماماً كما هو حال رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو (المتهم بالفساد وسوء الإدارة والتعدي على القانون… واستطلاعات الرأي تؤكد أنه ربما تتم الإطاحة به عندما تنتهي الحرب في غزة).
ومثلما كان حال حكومة مناحيم بيغن في عام 1982، فإن حكومة نتنياهو تُدار من قبل اليمين المتطرف، وعلى هذا فإن حرب غزة تتخذ كل هذا المسار العدواني الهمجي. إن أقصى ما تهدف إليه حكومة نتنياهو هو “استئصال حركة حماس”، أي أنه ليس لديها استراتيجية واضحة عن كيف ومتى ينتهي القتال. إستراتيجية إيتان-شارون في لبنان كلّفت عشرات الآلاف من أرواح المدنيين ودمرت البنية التحتية للبلاد، وفرضت حصاراً مشدداً على بيروت بعد قطع المياه والغذاء والكهرباء ووسائل النقل عن أكثر من 650 ألف شخص (…).
وقف إطلاق النار هو السياسة الوحيدة المعقولة التي يمكن التعويل عليها إذا كانت واشنطن ترغب في أن تبقى لاعباً محترما في الشرق الأوسط. أما البديل فهو إصدار حكم الإعدام على سكان غزة (…) والنتيجة ستكون- حُكماً – خلق جيل جديد من المقاومين المستعدين للمخاطرة بأرواحهم من أجل التخلص من إسرائيل
التاريخ يُعيد نفسه
هذا ما تفعله إسرائيل في غزة اليوم. لكن يبدو أن القادة الإسرائيليين غير منزعجين من التكاليف الإنسانية. على سبيل المثال، وزير الدفاع يوآف غالانت قال إن بلاده تُحارب “حيوانات بشرية، وسوف نتصرف على هذا الأساس”، تماماً مثلما تفاخر رافائيل إيتان، في نيسان/أبريل 1983 بالقول: “بمجرد أن يستوطن الإسرائيليون الأرض، فإن كل ما يستطيع العرب فعله حيال ذلك هو الركض مثل الصراصير المخدرة داخل زجاجة”!
نسترجع قول إيتان، المثير للدهشة، لنوضح جزءاً من الأسباب التي جعلت الجيش الإسرائيلي يواجه كل تلك المصاعب والمتاعب في جنوب لبنان. إيتان وشارون قادا “عملية سلامة الجليل” من منطلق قناعتهما بأن الجيش الإسرائيلي “لا يُقهر”، وأن جنوده وقادته تدرّبوا جيداً على كيفية “دحر المقاومة الفلسطينية واللبنانية”. يومها، اختارا الطريق الساحلي السريع الذي يربط بين المدن الكبرى في لبنان لتدخل منه القوات الإسرائيلية. وكانت المفاجأة أن مقاومة شرسة خرجت من كل المناطق اللبنانية ومخيمات اللاجئين الفقيرة؛ إما على شكل مجموعات أو بشكل فردي؛ وتمكنت من التصدي للجيش الغازي لعدة أسابيع فضلاً عن توريطه في حرب شوارع وتفجير دباباته وقتل العديد من جنوده وضباطه.
ففي مخيم “عين الحلوة” في صيدا، على سبيل المثال، تمكنت المقاومة اللبنانية والفلسطينية من نصب كمين محكم للجنود الإسرائيليين بعد جرهم عبر الأزقة المتعرجة، والمباني العشوائية والأنفاق (…). وعلى مدى أسبوع كامل دارت معارك طاحنة، ونجح المقاومون في تفجير عدد من ناقلات الجُند والمدرعات والدبابات مستخدمين فقط الأسلحة الفردية والقذائف الخفيفة (…). كان “المخيم” بمثابة “جهنم” حقيقية للإسرائيليين، لدرجة أن جيش الإحتلال كان ينسحب كل ليلة بحثاً عن الأمان، مضحياً بـ”المكاسب” التي حقّقها، ويعود (مرغماً) في الصباح لمواصلة القتال. في نهاية المطاف، قصف المخيم بالذخائر الثقيلة والحارقة، بما في ذلك “الفوسفور الأبيض”، وجرف المباني لكي يتمكن من اقتحام المخيم (…).
لم يكن القتال على الأرض هو الطريقة الوحيدة التي سعت إسرائيل من خلالها للقضاء على المقاومة اللبنانية والفلسطينية: زجّت بآلاف اللبنانيين والفلسطينيين داخل معسكرات اعتقال وفرضت عليهم إجراءات قاسية جداً، ودمرت قرى ومخيمات بعد حصارها. ورغم ذلك عاد الكثير من المعتقلين للإنضمام إلى فصائل المقاومة (بعد انتفاضة هروب جماعي) واستمروا في مقاتلة إسرائيل. كما انضم الكثير من منظمات حقوق الإنسان ووسائل الإعلام إلى حملة مناصرة اللبنانيين والفلسطينيين تحت الإحتلال، ما ألحق ضربة موجعة بسمعة إسرائيل دولياً.
إن سُمعة إسرائيل اليوم ليست بخير أبداً. فالعالم أجمع يُشاهد ويراقب المذابح وأعمال العنف والتنكيل والاستفزازات التي يمارسها جيشها ومستوطنوها بحق الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، سواء عبر البث الحي من أجهزة الصحافة والإعلام أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي (…).
في العام 1983، توصلت لجنة “كاهان”؛ التي كُلفت بالتحقيق في مذبحة صبرا وشاتيلا؛ إلى نتيجة مفادها أن شارون هو من أعطى الأوامر شخصياً لميليشيات لبنانية يمينية لتنفيذ اعتداءات ممنهجة بحق الفلسطينيين بين عامي 1982 و1983، في صيدا وبيروت (…). وفي النهاية أُجبر شارون على الاستقالة، وإيتان على التقاعد، وبيغن على التنحي(…).
كانت “مذبحة صبرا وشاتيلا” مجرد واحدة من مؤشرات عديدة على أن هزيمة منظمة التحرير لم تكن نهاية الحرب ولا نهاية المنظمة نفسها. فبالرغم من قتل العديد من قادتها، وإجبارها على الخروج وفصائلها المسلحة من لبنان؛ بموجب مفاوضات توسط فيها المبعوث الأميركي الخاص إلى الشرق الأوسط فيليب حبيب في آب/أغسطس 1982؛ أعادت منظمة التحرير تجميع صفوفها في تونس، وشكّلت خلايا ووحدات قتالية في لبنان وعملت جنباً إلى جنب مع فصائل المقاومة اللبنانية (…). وطوال 19 عاماً (عمر فترة الإحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان) ثَبُت أنه من المستحيل هزيمة المقاومة(…).
“فيتنام إسرائيل”
لا شك أن النتائج التي ستنتهي إليها حرب غزة سوف تعتمد على مفاوضات تطال قضايا مختلفة عن تلك التي كانت في لبنان (غزة في النهاية واقعة تحت حصار مشدد منذ 16 عاماً). لكن الدروس العسكرية والإنسانية المُستفادة من لبنان تشير بقوة إلى أن الظروف الكارثية الحالية في غزة سوف تزداد حدَّة، وأن العواقب ستكون طويلة الأمد على كافة الأطراف (…). فلبنان يُشار إليه باسم “فيتنام إسرائيل”: الخسائر والأضرار التي مُني بها جيش الإحتلال هناك أبعد من مجرد وفيات وإصابات في الأرواح. فمثلاً، يوجد اليوم أكثر من 20% من 70 ألف إسرائيلي خدموا هناك ما زالوا يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة(…).
وبرغم العواقب المماثلة المحتملة اليوم في غزة، فإن إسرائيل غير مستعدة بعد للنظر في وقف إطلاق النار “لأن ذلك يعني انتصار حماس”، وهذا مضلل. إن الفائزين الحقيقيين من وقف إطلاق النار هم المدنيون وحركات اللا-عنف، التي طالما اعتبرت أن إنهاء الاحتلال ورفع الحصار ووقف الاستيطان والاعتراف بالحقوق الفلسطينية “خطوات ضرورة وأساسية لضمان أمن إسرائيل قبل الفلسطينيين”. في المقابل، فإن الخاسرين من وقف إطلاق النار هم المتشددون، أمثال الذين يطالبون بقصف غزة بالنووي(…).
من الصعب القول كيف ومتى ستنتهي الحرب على غزة، لكن المؤكد أن واشنطن هي الجهة الوحيدة التي يمكنها الضغط بشكل فعَّال على الحكومة الإسرائيلية لوقف الإبادة الجماعية في غزة والعنف في الضفة(…).
حتى الآن يرفض الرئيس جو بايدن هذه المطالب بشدة، ويتبنى كل إدعاءات إسرائيل، بل ويعطيها موافقته (المباشرة وغير المباشرة) للإستمرار في عدوانها، بما في ذلك قصف واقتحام المستشفيات(…).
ومع ذلك، نأمل أن يقرر بايدن في النهاية الضغط من أجل وقف إطلاق النار. فإن فعل ذلك، فإنه سيتبع سابقة أرساها سلفه الرئيس رونالد ريغان. فعندما بدأ اجتياح لبنان، انقسمت إدارة ريغان: البعض طالب إسرائيل بالإنسحاب الفوري تحت التهديد بفرض عقوبات عليها، في حين رأى آخرون بضرورة إرغام منظمة التحرير الفلسطينية وسوريا على الإنسحاب أيضاً. ومع تحول الحرب إلى كابوس إنساني تعرض ريغان لموجة كبيرة من الانتقادات المحلية والعالمية، ما اضطر البيت الأبيض لإصدار قرارات أجبرت صُنَّاع القرار في إسرائيل على تغيير سلوكهم (منها وقف شحنات الذخائر العنقودية وتجميد مبيعات طائرات F-16).
اليوم، يجب على الإدارة الأميركية استخدام نفوذها والضغط على إسرائيل من أجل وقف الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة. إن وقف إطلاق النار هو السياسة الوحيدة المعقولة التي يمكن التعويل عليها إذا كانت واشنطن ترغب في أن تبقى لاعباً محترما في الشرق الأوسط. أما البديل فهو إصدار حكم الإعدام على سكان غزة (…) والنتيجة ستكون- حُكماً – خلق جيل جديد من المقاومين المستعدين للمخاطرة بأرواحهم من أجل التخلص من إسرائيل.. وربما أميركا أيضاً. “لقد حدث كل هذا من قبل- في لبنان”، وهذه هي أقوى حجة لمنع تكرار الأمر مرة أخرى.
(*) سارة باركنسون، أستاذة مساعدة في العلوم السياسية والدراسات الدولية في جامعة جونز هوبكنز. وهي مؤلفة كتاب “ما وراء الخطوط: الشبكات الاجتماعية والمنظمات الفلسطينية المسلحة في لبنان في زمن الحرب“.
– ترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز“.