أما اليوم فالرهان معقود على أن الزخم الشعبي قد تبدد على مدى عامين، من الأزمات الإقتصادية المستفحلة، وعلى إنقسام السودانيين ما بين مؤيد للحكم المدني ومؤيد للحكم العسكري. أخذ البرهان في الإعتبار العلاقات الوطيدة التي نسجها مع مصر ودول الخليج والتطبيع مع إسرائيل والتعاطف الغربي الذي تلا ذلك، كي يفرض أمراً واقعاً جديداً ويحكم سعيداً. فضلاً عن ذلك، هذه تجربة عبد الفتاح السيسي قد نجحت في مصر عام 2013، وفي الزمن غير البعيد، تمكن قيس سعيد ـ وهو أستاذ قانون دستوري وليس ضابطاً ـ من تنفيذ إنقلاب ناعم في تونس، ولا حاجة بعدها للتذكير بإنقلابات العسكريين في غينيا ومالي والتشاد في وقت سابق من هذه السنة. كلها عوامل حفّزت البرهان على تحديد الساعة صفر لإنقلاب فجر الإثنين.
عندما شعر العسكريون أن الإنتفاضة الشعبية التي إندلعت في 18 كانون الأول/ديسمبر 2018، قد وصلت إلى ذروتها في نيسان/أبريل 2019، أقدموا على إزاحة عمر البشير من السلطة، ليستوعبوا المد الشعبي، وكي لا يفلت زمام الحكم من أيديهم. وعندما لم تهدأ التظاهرات المطالبة بتسليم السلطة لحكومة مدنية خالصة، أقدموا في حزيران/يونيو على إرتكاب مجزرة ضد المعتصمين أمام مقر قيادة القوات المسلحة في الخرطوم، راح ضحيتها أكثر من مائة مدني. نُسبت المجزرة إلى “قوات الدعم السريع” التي يتولى قيادتها الفريق محمد حمدان دقلو الملقب “حميدتي”. ولعل من المفيد التذكير أن “قوات الدعم السريع” هي المتهمة بإرتكاب جرائم ضد الإنسانية في حرب دارفور.
لم يكن من قبيل الصدف، أن يختار البرهان تنفيذ الإنقلاب في هذا التوقيت الذي سبق إستحقاق تسليم رئاسة المجلس السيادي إلى مدني. ولم يكن صدفة أن يتظاهر منشقون عن “قوى الحرية والتغيير” في الخرطوم قبل أيام، مطالبين حمدوك بالإستقالة وبتسليم الحكم إلى العسكريين
هنا دخل أكثر من طرف على خط الوساطة بين الجيش والمحتجين الذين إنضووا تحت لواء “قوى الحرية والتغيير” الذي كانت النقابات المهنية تشكل عموده الفقري. وللمفارقة، لعب رئيس الوزراء الأثيوبي أبيي أحمد دوراً رئيسياً في الوساطات التي أفضت إلى الإتفاق على “الوثيقة الدستورية” التي إنبثق عنها المجلس السيادي الإنتقالي في آب/أغسطس 2019. وهو المجلس الذي ضم عسكريين ومدنيين. وتم الإتفاق على أن يحكم المجلس 39 شهراً كمرحلة إنتقالية، تجري في نهايتها إنتخابات حرة لإختيار مجلس نواب. وأصر العسكريون على ترؤس المرحلة الأولى من الفترة الإنتقالية، التي كان يفترض أن تنتهي في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، وتالياً أن يصار إلى تسليم رئاسة المجلس السيادي إلى شخصية مدنية.
ولم يكن من قبيل الصدف، أن يختار البرهان تنفيذ الإنقلاب في هذا التوقيت الذي سبق إستحقاق تسليم رئاسة المجلس السيادي إلى مدني. ولم يكن صدفة أن يتظاهر منشقون عن “قوى الحرية والتغيير” في الخرطوم قبل أيام، مطالبين حمدوك بالإستقالة وبتسليم الحكم إلى العسكريين. ولم يكن صدفةً أيضاً أن يعمد المسؤولون في شرق السودان قبل أسابيع، إلى العصيان وإقفال الموانىء الرئيسية في البلاد ولا سيما بورتسودان، مطالبين بإقالة حكومة عبدالله حمدوك وبالحكم العسكري المباشر.
وفي مقابل التظاهرات المطالبة بالحكم العسكري، تظاهر المدافعون عن الحكومة المدنية، بعدما إتضح أن السودان يمر بـ”أسوأ أزمة منذ إسقاط البشير” وفق تعبير حمدوك. وهكذا بدا ان السودان منقسمٌ إلى شارعين.. وأن نذر مواجهات بينهما تلوح في الأفق.
كانت أصابع الجيش واضحة في تحريك التظاهرات المناهضة للحكومة وفي تصوير الحكم العسكري وكأنه مطلب شعبي في المقام الأول، وأنه لا بد من التحرك لـ”منع الحرب الأهلية ودفاعاً عن الوحدة الوطنية”، وفق ما جاء في بيان فجر الإنقلاب الإثنين الماضي، وما تلاه من إعتقال لحمدوك ووزرائه وقادة أحزاب ونقابات، وتعليق العمل بالوثيقة الدستورية والمجلس السيادي.
وخلال عامين من تقاسم السلطة، سعى المدنيون المشاركون في المجلس السيادي إلى إكتساب ثقة الجيش، أملاً في أن يفي الضباط بتعهداتهم في شأن عدم الإخلال بخريطة الطريق نحو الحكم المدني في نهاية المرحلة الإنتقالية، بينما كان هؤلاء يتوجسون خيفة من إحتمال تقديمهم للمحاكمة بتهمة إرتكاب جرائم إبان العهد السابق الذي إستمر 30 عاماً، وبين هؤلاء من هو مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، بسبب حرب دارفور وعلى خلفية إطلاق النار على المعتصمين في حزيران/يونيو 2019، إلى جرائم الفساد.
ردة الفعل الأميركية على الإنقلاب لا توحي بأن واشنطن كانت على علم مسبق بإجراءات البرهان. ولذلك سارعت إلى التنديد بالإنقلاب وإلى المطالبة بإطلاق حمدوك وإعادته إلى منصبه وإلى إعادة العمل بالوثيقة الدستورية. وأقرنت ذلك بتعليق المساعدة الأميركية
وفي الوقت نفسه، كان الغرب يبدو سعيداً بالعملية الإنتقالية التي تخللها إتفاق لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وما تلا ذلك من إقدام الولايات المتحدة على شطب إسم السودان من لائحة الدول الداعمة للإرهاب، وتقديم مساعدة له بـ700 مليون دولار. وخصّص صندوق النقد الدولي قرضاً للسودان بملياري دولار، وأقدمت دول غربية على شطب ديون مستحقة لها على السودان. وبدأت الحكومة الإنتقالية بتنفيذ إصلاحات في الداخل بناء على توصيات صندوق النقد، وكذلك أبرمت إتفاقات سلام مع معظم الحركات المتمردة في غرب السودان وشرقه.
بيد أن النزاعات بين العسكريين والمدنيين بدأت بالتصاعد في الأشهر الأخيرة. العسكريون يتهمون المدنيين بأنهم يريدون الإستئثار بالقرارات وبأنهم “إختطفوا” ثورة 2019. بالمقابل، المدنيون يتهمون العسكريين بالسعي إلى التفلت من إلتزاماتهم بموجب الوثيقة الدستورية وإفتعال العراقيل أمام الحكومة.
وقبل يوم واحد من الإنقلاب، إجتمع المبعوث الأميركي لشؤون القرن الأفريقي جيفري فيلتمان مع كلٍ من البرهان وحمدوك، في وقت كانت كل المؤشرات تدل على أن الجيش السوداني يقترب من إتخاذ قرار ما، فهل إستغل البرهان اللقاء مع فيلتمان ليوحي بأن خطوته تحمل مباركة أميركية؟
ردة الفعل الأميركية على الإنقلاب لا توحي بأن واشنطن كانت على علم مسبق بإجراءات البرهان. ولذلك سارعت إلى التنديد بالإنقلاب وإلى المطالبة بإطلاق حمدوك وإعادته إلى منصبه وإلى إعادة العمل بالوثيقة الدستورية. وأقرنت ذلك بتعليق المساعدة الأميركية.. وسرعان ما حذت المؤسسات المالية الدولية حذو واشنطن.
ولقيت مطالب واشنطن نصف إستجابة من خلال إطلاق حمدوك، لكن مع إبقائه تحت حراسة مشددة في منزله، بينما بدأ البرهان يتحدث عن عزمه تأليف حكومة من التكنوقراط ومن أن حمدوك أول المرشحين لتولي رئاستها.
وإذا كان البرهان مرتاحاً لرد الفعل الإقليمي المتسامح مع إجراءاته، فإنه يحاول الآن إبرام صفقة مع الولايات المتحدة، من خلال الإيحاء مجدداً بإستعداد الجيش للحكم بواجهة مدنية.. وحتى بواسطة حمدوك نفسه، على أن تبقى القرارات السيادية في أيدي العسكريين.
وإذا كانت واشنطن قد نجحت في تحرير حمدوك من “ضيافة” البرهان، فإن تحرير السودان من قبضة الجيش ووضعه على مسار الحكم المدني، لا بد أن تبقى مهمة السودانيين أنفسهم. تلك مهمة نبيلة لكنها قد لا تكون سهلة أبداً.