المعالم العامّة لـ”الثّورة الكانطيّة” في الإسلام (2)؟

رأينا في الجزء الأول بعضا من المبرّرات لطرح ورشة عمل نقديّة في ما يخص "العقل التأويلي الإسلامي"، كما فعل في زمانه الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط (ت. ١٨٠٤ م) مع نقد "العقل الخالص" كما سمّاه.

أشرنا في الجزء الأول إلى أنّ الهدف الأول من وراء ورشة مقترحة كهذه، يكمن تحديداً في: محاولةِ الفصلِ الدقيق والمُحكم (قدر الإمكان) بين ما يمكن تأويله – انطلاقا من التراث الإسلامي المكتوب – وبين ما لا يمكن تأويله؛ أي بين المعاني التي يمكن أن نصل إليها، وبين المعاني التي لا يمكن أن نصل إليها (مع تحديدٍ لطبيعة الصّنفين). ونحن هنا نتحدّث طبعا عن التأويل من خلال استعمال ملكات “العقل” (بالمعنى الكانطي)، وكما سيلي بتفصيل أكبر. المهم، الهدف الأول هو تحديد ما يمكن تأويله من خلال استعمال ملكات العقل الإنساني، مع معطياتٍ بحثيّة هي النصوص المكتوبة ضمن التراث الإسلامي.

وهذا الهدف الأوّل يوصلنا حتما إلى هدف ثانٍ، هو الآتي: تحديد المنهجية المناسبة لعمليّة التأويل (أو لعمليّات التأويل، حسب التخصّص)، طبعا مع تطويرها بحسب النصّ المعتمد كمعطىً. فاستخراج المعاني الممكنة خلف نصوص الفقهاء حول “الربا” مع مقارنتها بالمفاهيم المالية المعاصرة، لا يمكن أن يعتمد التقنيّة عينها التي يعتمدها استخراج المعاني العقائديّة والوجوديّة الممكنة خلف آية قرآنية مباركة أو خلف حديث نبوي شريف.

وكما نلاحظ بوضوح، من المهم التنويه بأنّ معالم “الثورة النقدية” التي نقترحها يتوجّب تقييمها حُكماً من الزاوية المنهجيّة قبل أي زاوية أخرى، وذلك بسبب التموضعات الأنطولوجية (الوجودية) والأبستيمولوجية (المعرفيّة) التي تعتمدها هذه الثورة؛ وهذا ما سيأتي تفصيله أيضا في ما يلي.

السؤالان المركزيّان هما، إذن: من خلال استخدام العقل الإنساني (بالمعنى الكانطي) – مع الأخذ بحدوده كما سيلي – ما الذي يمكن تأويله، وما الذي لا يمكن تأويله، انطلاقا من التراث الإسلامي المكتوب؟ وما هي المنهجيّة العامّة التي يمكن اقتراحها في هذا الإطار؟

 المعطى النصّي في مقابل الموضوعيّة والفَهم والتأويل

وقبل متابعة الولوج في هذه القضية ذات السؤالين المركزيّين إذن، لنذكّر بنقاط ثلاث. وقد سبق وذكرنا معالمها الأساسيّة، لكنّ التشديد عليها واجب بهدف الحفاظ على الدقّة..

النقطة الأولى؛ إنّنا نتحدّث عن معطيات للتأويل، هي النصوص المكتوبة – المكتوبة حصراً – في التراث الإسلامي (القرآن الكريم، علوم القرآن على اختلافها، علوم الحديث والسنّة النبوية الشريفة على اختلافها، علوم السيرة النبوية المباركة والتاريخ الإسلامي على اختلافها، علوم الشريعة والفقه على اختلافها، علوم العقيدة والكلام على اختلافها، علوم الفلسفة والعرفان على اختلافها إلخ.). وبالطبع، فلكلّ من هذه النصوص شروطها وحدودها في التأويل، وأمام كلّ منها أصول في التعاطي والمقاربة كما سيلي.

النقطة الثانية؛ إنّنا نبقى ضمن إطار معرفي يبتغي الموضوعية في البحث، مع تعريف لهذه الموضوعيّة على الطريقة الكانطية. أي: إنّ نتائج بحث ما هي موضوعية إذا كانت مقبولة، حكماً، بالنسبة إلى كلّ الأفراد (مع الأخذ بمقدّماتها ومعطياتها ومنهجيتها وحدودها طبعاً). أو بتعبير آلن و. وولف: فإنّ الأحكام “الموضوعية” هي الأحكام التي “تعتبر صحيحة بالنسبة لكل الذوات الممكنة”، (آلن و. وود، ٢٠١٤، كانط: فيلسوف النقد، ترجمة بدوي عبد الفتاح، ط.١، القاهرة: المركز القومي للترجمة، ص. ٨٧). وكما سبق وأشرنا في الجزء الأول، ولأسباب ستتجلّى بوضوح أكبر مع تقدّم البحث، فإنّنا بلا شك نفضّل تعبير “مقبولة” على تعبير “صحيحة”.

النقطة الثالثة؛ فإنّنا قد عرّفنا سابقاً  الفهم على أنه “انتزاع، لكن بطريقة موضوعية، للمعاني الممكنة”، والتأويل على أنّه “تنظيم وترجمة، من خلال المفاهيم، لهذه المعاني الممكنة”؛ والتي يمكن انتزاعها، إذن، انطلاقاً من النصوص المكتوبة (والأخيرة تشكل بالتالي: المعطيات التجريبية). وكما سبق وفصّلنا، فإننا نرى الفهم والتأويل على أنهما عمليّتان تضعان “العقل” (وضمنه الإدراك أو الذهن، كما يترجمه عبد الرحمن بدوي عن المصطلح الألماني Verstand) في مقابل “المعنى”، مع حجاب يتوجّب خرقه وهو “النص” (أي الحروف والكلمات والرموز التي تكوّن هذا النص). وبما أنّنا نعتمد التموضع المعرفي الكانطي في ما يخص العقل: فإنّ وصول “العقل” إلى “المعنى” لا يمكن أن يتمّ إلا من خلال عمليّة تجميعيّة وتركيبيّة توصل إلى بناءٍ لـ”مفاهيم”، هي تصوّرات يبنيها العقل عن المعاني الممكنة – وعن العلاقة بينها – خلف النّص.

الفرضيّة الأولى تقول بوضوح: لا يمكن للعقل كما عرّفناه، أن يصل إلى فهم حقائق الأشياء في ذاتها (أو بما “هي هي” حسب تعبير بعض عرفاء الإسلام)؛ ولا – بالتالي – أن يصل إلى فهم المعاني الحقيقيّة (المحتمل وجودها) خلف النّصوص

أيّ “عقل” هو الذي يفهم ويؤَوّل؟

سوف تتّضح في ما يلي تفاصيل وأهميّة هذه التعريفات نظريّاً وعمليّاً: لكنّنا قد وصلنا هنا حُكماً إلى تعريف مبسّط ومناسب للعقل (خصوصاً عندما يكون “إدراكاً” بتعبير كانط، أي Verstand)، لا نحتاج أكثر منه تعقيداً في ما يعني بحثنا. فالعقل بالنسبة إلى هذه الدراسة: هو جزء من الوعي الإنساني (الأشمل)، وهو الجزء الذي يمتلك القدرة على القيام بعملية “التجميع والربط والتركيب” بين الحدوسات والتمثّلات والتصوّرات، والتي توصل تدريجياً إلى “المفاهيم” (راجع كتابَي أولييفيه ديكنز وآلن و.وود المذكورين أعلاه). وهو بالطبع، أي العقل، الجزء “المفكّر” من الوعي، أي الذي يقوم أيضا بالأحكام التحليلية والتركيبية على اختلاف مستوياتها وتشعباتها، وهو الذي تعود إليه جميع العمليّات الفكريّة والعقليّة المتعارف عليها (كالاستقراء والقياس والأحكام على اختلافها جميعا).

في ما يعني موضع الحديث هنا، لنقل باختصار إنّ العقل المقصود هو الذي: يقع بين “العقل الأعلى” (أو الحدس أو القلب أو العين الثالثة) بالمعنى الصوفي (راجع: أبو زيد، نصر حامد، ١٩٨٣، فلسفة التأويل: دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين ابن عربي، بيروت: دار التنوير)، وبين الحساسيّة والحدس الحسّي بالمعنى الكانطي. أي إنّ نطاق عمله يبدأ مع التمثّلات الذهنية الأولى والخيال، ويمرّ ببناء الإسكيمات والمفاهيم (راجع الجزء الأول)، وينتهي بالتحليل وبالمنطق المتعاليين وبالديالكتيك المتعالية وما إلى ذلك من عمليات عقلية بحتة تتجه نحو المطلق (كلها مصطلحات كانطية، يمكن مراجعتها في الكتب المذكورة أعلاه عند: آلن و. وود، وأولييفييه ديكنز، وعبد الرحمن بدوي). ويمكن القول بهدف التبسيط مجدّداً، إنّ العقل المعني بالتأويل حسب هذه الدراسة هو ببساطة: “حصراً، العقل الذي يفكّر”، مع أخذ التفكير بمعناه العام (فوق الحدس الحسّي ودون الكشف الصوفي؛ وكلّها تعريفات سوف نعود إليها بطبيعة الحال).

أهميّة “الثورة النّقديّة” وميّزاتها

لا شكّ في أهميّة وخطورة الثورة النقديّة المقترحة على مستوى ما سميناه بـ”العقل التأويلي الإسلامي”، وعلى مستوى منهجية التأويل بشكل خاص. ذلك أنّ المسلمين يكادون يعيشون مع هاجس تأويل نصوصهم بشكل يومي: من زاوية نظرة النصوص هذه إلى معنى الحياة، إلى الزوايا الفلسفية والعقائديّة المتعدّدة، إلى القضايا الفقهية والأصولية، إلى قضايا بناء المفاهيم الإسلامية في مختلف العلوم الإنسانيّة والاجتماعية. ومن أبلغ مظاهر هذا الهاجس – الأصلي والجوهري والدائم والملحّ معاً – هي أعمال السيد محمد باقر الصدر (ت. ١٩٨٠ م)، لا سيّما في: فلسفتنا (مصدر مذكور) واقتصادنا (الصدر، محمد باقر، ١٩٨٧، إقتصادنا، الطبعة السادسة، بيروت: دار التعارف). بل يمكن القول، من غير مخاطرة تذكر، إنّ هاجس تأويل النصوص وتطبيقاتها على الواقع الراهن، هو الهاجس الأوّل عند المسلم المعاصر.

وبتعبير أقرب إلى لهجة دراستنا: يمكن القول إنّ الهاجس الأوّل عند المسلم المعاصر هو في كيفيّة فهمه لنصوص تراثه الإسلامي، وفي كيفيّة تأويلها نظريا وعمليا من خلال بناء “مفاهيم إسلامية” معاصرة حولها. إنّنا إذن، بلا شك، في قلب إشكاليّة جوهريّة وواقعيّة، تمتد جذورها ربّما من عصر جمال الدين الأفغاني (نهاية القرن التاسع عشر الميلادي) إلى عصر سيّد قطب ومحمد باقر الصدر وروح الله الخميني، إلى عصر محمد أركون ونصر حامد أبو زيد وغيرهم، إلى عصر ما يسمّى بـ”الربيع العربي” وما بعده. الثقافة الإسلاميّة مضطرة، بسبب طبيعتها النّبويّة-الكتابيّة، إلى التّعامل باستمرار مع تأويل نصوصها ومع منهجيّة هذا التأويل، وذلك من أعلى هرم القدسيّة (القرآن الكريم) إلى أدناه (الفقه والتاريخ مثلا). لذلك، نكرّر اعتقادنا بأنّ الثورة النقديّة المنشودة لا يمكن أن تكون من باب الكماليّات، بل قد تكون من باب الضّروريّات، إذا ما أراد الإنسان المسلم أن يستمرّ بالتقدّم، وأن يعود إلى المساهمة في إنجازات العقل الإنساني الكبرى، وإلى المساهمة في صنع التاريخ الإنساني بشكل عام.

إقرأ على موقع 180  ألمانيا.. وعودة "العدو التاريخي"!

أمّا بالنّسبة إلى ميّزات هذه الدراسة والثورة التي تدعو إليها، فهي تقع أوّلاً في زاوية الأسئلة البحثيّة، والتي تتقرّب من الزاوية الكانطيّة في طرح هذه الأسئلة. وتتميّز هذه الدراسة أيضاً في تموضعها ضمن دعوة صريحة إلى: ثورة نقديّة “شاملة” في ما يخص العقل التأويلي الإسلامي المذكور. وبالإضافة إلى مقاربتها الشاملة الطابع، فهذه الدراسة تتميّز أيضاً بتموضعها العلمي الدقيق والمجدّد: فهي تنطلق من تموضعات و/أو احتياطات أنطولوجيّة (وجوديّة) وأبستيمولوجيّة (معرفيّة) محدّدة وواضحة، وفيها ما هو مجدّد بلا أي أدنى شك. وهذا ما سوف يتّضح تدريجياً في الفقرات والمقالات اللاحقة. ومن أهم ميّزاتها أنّها تقدّم طرحاً منهجيّاً جديداً مع إمكانيّة لتطبيقه في علوم إسلاميّة مختلفة.

والأهم أنّ هذه المنهجيّة تنطلق من زاوية محدّدة: هي زاوية تطوير عمليّة “بناء المفاهيم” من خلال تطوير عمليّة تأويل النّصوص على اختلاف طبيعتها. وعمليّة بناء المفاهيم هذه قد تمّت مقاربتها، كما سبق وأشرنا، من زاوية نظرية التخطيطات (أو “الإسكيمات”) الكانطيّة، وصولاً إلى نظريّة ماكس فيبر حول “النماذج-المثالية”، وصولاً إلى طرح عام جديد نقدّمه بين يدي الباحثين والمهتمّين. باختصار: إنّ دراستنا هذه تهدف، بوضوح، إلى طرح إطار منهجيّ مجدّد وعام، من خلال محاولة نقد العقل التأويلي الإسلامي أولاً كما سنرى؛ ثمّ، ثانياً، من خلال اقتراح طُرُق عمليّة لتطبيق نتائج هذا النقد على عمليّة تأويل نصوص التراث الإسلامي في مختلف المجالات.

الفرضية الثانية تقول بدورها: إنّ أقصى ما يمكنني أن أصل إليه – ضمن نفس العقليّة الكانطيّة العامّة – هو بناء تصوّرات (بمعنى “مفاهيم”) عن هذه المعاني. أي إنّ أقصى ما يمكنني فعله هو: بناء تخطيطات وتصوّرات عقليّة، أي مفاهيم، حول هذه المعاني

الفرضيّات المؤسِّسة للنّقد

لنعُد، بعد هذه المقدّمات والتعريفات الضّروريّة، إلى سؤالنا المركزي: “ماذا يمكنني أن أؤوّل؟” أو بتعبير أدق: “ماذا يمكنني أن أؤوّل انطلاقاً من معطيات هي النصوص المكتوبة – على اختلافها وتنوّع مجالاتها وموضوعاتها – في التراث الإسلامي؟ وكيف، وبناء على أي شروط وقواعد منهجيّة، يمكنني أن أفهم/أؤوّل المعاني المختبئة – الممكنة – خلف هذه النصوص إذن؟

في البداية: من “أنا”؟ أي من المتسائل؟ أهو العارف الصوفي، أم الفيلسوف، أم الكاهن، أم العالم-الباحث (إلخ..)؟ لنكن دقيقين وحذرين أمام هذا السؤال: المتسائل هو الباحث العلمي بالمعنى الحديث، أي الباحث المحايد عقائدياً ودينياً وقِيَميّاً. والحياد هنا يضاف إلى الموضوعية كما سبق وعرّفناها، مع اعتماد مفهومين أساسيّين عند ماكس فيبر (ت. ١٩٢٠ م) ذي النزعة الكانطيّة الواضحة إذن في فلسفة المعرفة. والمفهومان هما: “الحياد الأكسيولوجي” (باختصار: عليّ أن أحرص بدقّة على بقائي محايداً على مستوى العقائد والأيديولوجيات)، و”العلاقة مع القِيم” (باختصار: عليّ أن أحرص، بدقّة شديدة أيضاً، على أن أتعامل مع القِيم كمعطيات بحثية، دون الوقوع في فخ الأحكام القِيَميّة).

وقد فصّلنا تعريفهما وتطبيقهما على بحوثنا في كتابنا المذكور أعلاه (أبو حمدان، ٢٠٢١ [٢٠٢٢]، مصدر مذكور، “المقدّمة”). إذن، الذي يقوم بعمليّة التأويل في حالتنا هو عقل الباحث العلمي المحايد والموضوعي، بالمعاني المذكورة آنفاً، وحصراً. وإنّها لنقطة شديدة الأهمّيّة، إذ سيترتّب عليها نتائج خطيرة على المستويين الأنطولوجي (الوجودي) والأبستيمولوجي (المعرفي) كما سيلي.

إذن، عقلي، “أنا” الباحث العلمي المحايد والموضوعي، يهدف إلى أن يفهم-يؤوّل النص (على اختلافه، وكما سبق وعرّفنا جميع هذه المصطلحات): وهو تأويل، كما أسلفنا، يمرّ من خلال محاولة انتزاع المعاني الممكنة أوّلاً؛ ثم من خلال تنظيمها وتصويرها، أي المعاني الممكنة، من خلال بناء مفاهيم عنها، مع إحكام لهذه المفاهيم والعلاقة بينها أيضا. لكنّ السؤال الضروري هنا سيكون بالطبع: إلى أي مستوى من المعاني يمكنني أن أدّعي الوصول من خلال جهدي التأويلي؟ أي: هل سيمكنني، من خلال عقلي المعرّف سابقاً، أن أصل إلى المعاني “الحقيقية” الأخيرة خلف النصوص؟ وأبعد من ذلك: هل يمكنني، أصلاً، أن أصل إلى فهم المعاني والحقائق (على اختلاف مستوياتها الوجوديّة) “في ذاتها” (بالتعبير الكانطي)؟ وإلى أي مدى سيكون فهمي للمعاني، ضمن عملية التأويل، خالياً من الذّاتية؟

لا بدّ من تموضع معرفي (أبستيمولوجي) هنا، صريحٍ ودقيق. وعلى طريقة كانط، سوف نطرح فرضيّة أولى في هذا المجال، تتّفق مع مقدّماتنا، لكن أيضاً مع طرحنا المنهجي العام. الفرضيّة الأولى تقول بوضوح: لا يمكن للعقل كما عرّفناه، أن يصل إلى فهم حقائق الأشياء في ذاتها (أو بما “هي هي” حسب تعبير بعض عرفاء الإسلام)؛ ولا – بالتالي – أن يصل إلى فهم المعاني الحقيقيّة (المحتمل وجودها) خلف النّصوص (أي لا يمكنه الوصول إلى المعاني في ذاتها، أيضاً).

هل من الضروري، قبل ذلك، الحكم على وجود هذه المعاني المحتملة من أصله؟ أي: هل من الضروري الحكم بوجود معانٍ دقيقة وحقيقيّة خلف هذه النصوص على اختلافها؟ كما نرى، وبوضوح: ليس من الضروري الأخذ بتموضع أنطولوجي كهذا، طالما أنّنا انطلقنا من عقل تأويلي هو محدود بطبيعته. وهذه أمور سوف تتبدّى بوضوح أكبر في المقالات والفقرات التالية. الفرضيّة الأولى تقول إذن، ببساطة: لا يمكن لعمليّة الفهم والتأويل التي يقوم بها عقلنا أن توصل إلى المعاني – خلف النصوص – في ذاتها.

وهنا لا بدّ من فرضيّة ثانية، لا مناص معها من استعمال مصطلحات أقرب إلى علم المنهجيّة (الميتودولوجيا). فإذا لم أكن أستطيع أن أصل إلى المعاني (والحقائق) في ذاتها، أي إلى المعاني الحقيقيّة، فإلى ماذا يمكنني أن أصل، من خلال عمليّة الفهم والتأويل؟ الفرضية الثانية تقول بدورها: إنّ أقصى ما يمكنني أن أصل إليه – ضمن نفس العقليّة الكانطيّة العامّة – هو بناء تصوّرات (بمعنى “مفاهيم”) عن هذه المعاني. أي إنّ أقصى ما يمكنني فعله هو: بناء تخطيطات وتصوّرات عقليّة (Tableaux de Pensée)، أي مفاهيم، حول هذه المعاني. ونكرّر ذكر حاجتنا هنا للعودة إلى مصطلحات تبتعد قليلاً، في الظاهر، عن المعجم الكانطي، وتقترب أكثر من المعجم المنهجي المعاصر. ولذلك فلنستخدم مصطلحي “مفهوم” أو “نموذج-مثالي” (على طريقة ماكس فيبر) عندما نتحدّث عن هذه التخطيطات والتّصوّرات العقليّة (أي هي “نماذج” من عالم العقليّات تهدف إلى بناء تصوّر عقليّ منظّم عن الظواهر المتأتية من الواقع الحسّي-التجريبي).

وهنا، نأتي إلى السؤال التالي: إذا لم أكن أستطيع أن أصل إلّا إلى بناء مفاهيم حول هذه المعاني، لا إلى إدراك هذه المعاني في ذاتها، فما دور الذاتيّة، إذن، في عمليّة البناء هذه؟ وكيف أحافظ على الموضوعيّة في بحثي؟ هنا نصل إلى الفرضيّة الثالثة، والتي تدنينا أكثر فأكثر من النتائج العمليّة للثورة المعرفيّة المقترحة. فانطلاقاً من تعريفنا السالف للموضوعيّة وللحياد، يمكننا القول: إنّ المفهوم المبني هو، بطبيعة الحال (أي بسبب تخفّي المعنى خلف النص، وبسبب الطبيعة القريبة من المقدّس للنصوص بشكل عام، وبسبب طبيعة عقلي المحدودة كما سبق وفصّلنا)، فرضيّة عن المعنى لا المعنى في ذاته. ونرى بالتالي، بوضوح أكبر، كيف أنّ الذّاتيّة تتدخّل فقط في عمليّة بناء الفرضيّة، لتعذّر الوصول إلى المعاني في ذاتها؛ في حين أنّ تبرير الفرضيّات ثم التّرجيح بينها – علميّا – يبقى، بالضرورة، ضمن إطار الموضوعيّة.

لنا عودة طبعاً إلى مجمل هذه الفرضيّات المعرفيّة المؤسّسة كما سمّيناها. لكن من الواضح بالنّسبة إلينا أنّها تتيح التّعاون السّليم والمُحكم بين العالم-الباحث من جهة، وبين المفسّر والمجتهد من جهة أخرى. أي، مع التبسيط: إنّها تتيح التعاون بين العلوم الإنسانية والاجتماعية (بانية المفاهيم والفرضيّات) من جهة، وبين العلوم الإسلاميّة (متبنّية الفرضيّات) من جهة أخرى. إذ يصبح دور العالم-الباحث هو أن يبني الفرضيّات الممكنة، ودور عالم الدين-المجتهد أن يفضّل بينها من خلال الحُكم القِيَمي.

لا شكّ بالنسبة إلينا أنّ تبنّي النظرة المجدّدة هذه قد تؤدّي إلى ثورة كانطيّة، حقيقيّة، داخل الثقافة الإسلامية.. بكل ما للكلمة من معنى.

(يتبع، طبعاً)

(*) الجزء الأول: الإطار المعرفي للفكر الإسلامي: متى تحدثُ “الثورةُ الكانطيّة”

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  "روزوس" رست في بيروت بقرارٍ مسبق: هل كانت مؤامرة؟