أردوغان “عائد” على متن ليرة تركية.. تغرق!

تداول معارضون للرئيس التركي رجب طيب أردوغان مؤخرًا مقطعًا مصوّرًا له قبل عشرين عامًا، يدعو فيه الحكومة للذهاب إلى انتخابات برلمانية مبكرة، ردّا على الأزمة الإقتصادية التي عصفت بتركيا آنذاك، فهل تصح مثل هذه المقارنة اليوم في الإتجاه المعاكس؟

ليس من الموضوعيّة مقارنة واقع تركيا ومكانتها وقوّتها الإقتصاديّة، في يومنا هذا، بما كانت عليه قبل عشرين عامًا، وتكفي لمحة سريعة على الأرقام للقول إن الإقتصاد التركي حقّق قفزة نوعية في المجالات الصناعية والزراعية والتكنولوجية والعسكرية والسياحية.

هذا لا يعني أنّ الليرة التركية لا تمرّ بفترة عصيبة، مع ما يعني ذلك من إرتفاع معدلات التضخم وانعكاسها على القدرة الشرائية للمواطن التركي، وتحديدًا على الناخب بلغة السياسة، الذي وضع حكومات حزب العدالة والتنمية على مدى عشرين عامًا على قائمة صدارة الأحزاب، إمتنانًا منه للإزدهار الإقتصادي والإستقرار السياسي الذي أمّنه الحزب الحاكم.

لكن من يقرأ مسيرة أردوغان يعرف أنّه يعاند دائمًا لتطويع الظروف لمصلحته، وها هو يعلن بنبرةٍ متحديةٍ “سنحقّق نصرًا كبيرًا في انتخابات حزيران/يونيو 2023″، لكن شعار هذه المرحلة حتى الإنتخابات القادمة هو: “الحرب على الرّبا”.

ما يلفت نظر المراقب، هو غضب مؤسسات النقد الدولية، من سياسات أردوغان الخاصة برفض رفع نسبة الفائدة على الليرة، من أجل امتصاص التضخم، بل هو ذهب إلى النقيض من ذلك من خلال خفض نسبة الفائدة. القضية هي مسألة تشابك مصالح قوي ومتداخل بين الداخل والخارج، لذلك، يحاول أردوغان احكام قبضته على هذه المنظومة من خلال “معركة التحرّر الإقتصادي”، على حد تعبيره!

أسباب الأزمة وعناصرها

حزب العدالة والتنمية يتبنى “رأسماليّة السّوق”، وهو يمارسها فعلًا من خلال قرارات عديدة ومصيريّة، كخصخصة معظم قطاعات الدولة وفتح الأسواق وإستقطاب رؤوس الأموال من دون قيود.

هناك عدّة أسباب ظاهرة ومستترة للأزمة التي تعاني منها الليرة التركية، فأنصار أردوغان يتّهمون “قوى عميقة” بضرب الليرة من أجل إضعافه وإخراجه من السلطة في الإنتخابات الرئاسية بعد حوالي العام والنصف.

إرتفاع أسعار النفط عالميًا، ساهم في إستنزاف العملة الصعبة من داخل تركيا، حيث تُقدّر قيمة فاتورتي النفط والغاز بحوالي 43 مليار دولار سنويًا، وهي مرشّحة للإرتفاع مع إستمرار التوقعات بإرتفاع أسعار النفط في العام 2022، ولعلّ هذا الرّقم يُفسّر شراسة تركيا في سعيها للحصول على مصادر طاقوية

في العودة إلى عناصر الأزمة، فقد ساعد التحوّل الإقتصادي الكبير في تركيا على دخول الكثير من رؤوس الأموال التي يُطلق عليها (HotMoney). هذه “الأموال الساخنة” تبحث عن ربح سريع وكبير، ثم تعود لتخرج من السّوق التركيّة بعد أن تُحقّق مكاسبها، لذلك فإنّ إستحقاقات السداد التي نشاهدها اليوم هي مرتبطة بهذا النوع تحديدًا، ولذلك نجد أرقامها كبيرة ومتلاحقة، وهو ما يضغط على قيمة الليرة التركية.

إضافة إلى أنّ إرتفاع أسعار النفط عالميًا، ساهم في إستنزاف العملة الصعبة من داخل تركيا، حيث تقدر قيمة فاتورتي النفط والغاز بحوالي 43 مليار دولار سنويًا، وهي مرشّحة للإرتفاع مع إستمرار التوقعات بإرتفاع أسعار النفط في العام 2022، ولعلّ هذا الرّقم يُفسّر شراسة تركيا في سعيها للحصول على مصادر طاقوية لها، الأمر الذي يُحرّرها من الحاجة الدائمة والملحة لنفط وغاز الآخرين، إضافة إلى وقف نزيف عملاتها الصعبة وخروجها من البلاد.

هناك عامل إضافي يرتبط بسياسة البنك الفدرالي الأميركي، الذي صرّح منذ مدّةٍ بأنّه سيقوم بتخفيف طباعة الدولار تدريجيًا حتى شهر حزيران/يونيو من العام المقبل، حيث سيقوم بإيقاف الطباعة كليًا، كما سيقوم برفع نسبة الفائدة، أي سحب تضخم الدولار، هذا التصريح للبنك الفدرالي أثّر على أسواق المال العالميّة، ودفع بعضها للبدء في عملية تجميع “دولاراتها” لاستثمارها في السوق الأميركية، ما أدى إلى زعزعة الكثير من العملات.

هذا من دون أن نُغفل جائحة كورونا وتأثيرها على السياحة والإقتصاد، إضافة إلى القرارات القاسية التي اتخذها دونالد ترامب قبل إنتهاء ولايته الرئاسية، إذ أنه سعى بشكل علني لإضعاف الليرة التركية للضغط على أردوغان في قضية القس برونسون، كما قام برفع الضريبة على إستيراد الحديد، أحد أهم صادرات تركيا وأكبرها إلى الولايات المتحدة، بقيمة 50 بالمئة، وعلى الألومنيوم بقيمة 20 بالمئة.

رفع الفائدة أم خفضها؟

يُركز الإعلام التركي اليوم على هاتين الكلمتين: رفع الفائدة أم خفضها؟

بحسب المدرسة الرأسمالية التقليديّة، حين تنخفض قيمة العملة نتيجة التضخم، فإنّ الحلّ يكون من خلال رفع قيمة الفائدة على الأموال، ما يؤدي إلى سحب هذا التضخم من السّوق، ويساعد على إستقرار وثبات قيمة العملة. لكن من الذي يستفيد من رفع الفائدة؛ المواطن أم أصحاب رؤوس الأموال؟

حتمًا ليس المواطن، فارتفاع الفائدة يعني إرتفاعًا بالضرائب من أجل تغطية تكلفة فائدة الدين العام على سبيل المثال، مما ينتج تضخمًا من نوع آخر، وهو إرتفاع الأسعار نتيجة إرتفاع الضريبة، مع فارق أنّ أصحاب رؤوس المال يساعدهم إستقرار سعر صرف العملة من أجل تحويل ودائعهم مع أرباحهم إلى دولارات والخروج بها من السوق، إضافة إلى تأثر القطاعات المنتجة. فمثلًا، ما هو المشروع الذي سيؤمن لك مردودًا سنويًا ليغطي قيمة القرض مع فائدته، (كانت 19 بالمئة في الحالة التركية)، ويمنحك فوقها ربحًا معقولًا من أجل الإستمرار؟

بالمقابل، ماذا لو تم تخفيض قيمة الفائدة؟

صحيح أنّ قيمة العملة ستتراجع، ولكن بشكل مؤقت، لأنّ ذلك سيقود إلى تحفيز اقتصادي من خلال رفع قيمة الصادرات وإلى تحفيز سياحي. تركيا التي ارتفعت السياحة فيها هذا العام 93 بالمئة عن العام الماضي، حيث بلغ عدد السياح حتى الآن أكثر من 14 مليون سائح، في حين توقع مكتب الرئاسة التركية أن تصل عائدات السياحة عام 2022 إلى أكثر من 30 مليار دولار. كما أنّ صادراتها حتى الآن لامست ما يقرب المائتي مليار دولار، إضافةً إلى أن انخفاض العملة يُعوّل عليه لتعديل ميزان المدفوعات من دون أن يضع ضريبة على المستوردات ودون أن يمسّ بالمعاهدات، كي لا تردّ تلك الدول بالمثل. والأهم، برأي مناصري أردوغان، سيمنع خروج حيتان رؤوس الأموال الذين لن يتحملّوا خسارة من هذا النّوع، ولأجل ذلك يرتفع صراخ المؤسسات المالية الغربيّة ضد تركيا وأردوغان، في مقابل مديحها لمصر التي جهدت من أجل تثبيت عملتها كي لا يتكدّر أصحاب رؤوس الأموال!

ما يفعله أردوغان من حيث يدري أو لا يدري يُعاكس ما خطّط له ونفذه في مدى عقدين لجهة تبوء موقعٍ مميزٍ بين الأوائل عالميًا. فبعد بلوغ الناتج التركي أكثر من 900 مليار في 2013 هو الآن نحو 700 مليار دولار فقط بسبب هبوط الليرة التركية. لذا فالمسألة أبعد من قضية الفائدة التي هي نتاج وليست سبباً

أردوغان عائد

إقرأ على موقع 180  الأردن: البرلمان يلزم الحكومة بوقف إستيراد الغاز الإسرائيلي

في الثاني والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر، صرّح أردوغان “سنخرج منتصرين من حرب الإستقلال الإقتصادي التي تخوضها تركيا حاليا”، وأضاف “نحن نعلم جيدًا ماذا نفعل، ولماذا نفعل، وكيف نفعل، وما هي المخاطر التي تواجهنا، وما الذي سنحصل عليه في النهاية”.

ما يفعله أردوغان، هو محاولة كسر المحرّمات، فعملية التحرّر الإقتصادي أكبر كلفةً وأخطر من عمليات التوسع العسكري التي قادها. هناك استفاد مع دولٍ ضعيفة ومفتّتة، أمّا في الإقتصاد، فأنت تتكلّم عما يُطلق عليه مؤلف كتاب “صراعات الجيل الخامس” إيلي خوري بـ”الإمبراطورية”، التي تمتدّ أذرعها من الولايات المتحدة إلى أوروبا الغربية إلى اليابان وأستراليا، وما بينها من شبكة معقّدةٍ من المصالح والقوى المذهلة.

وتُظهر الأحداث بأنّ أردوغان لا يتراجع بسهولة، من قضية القس برونسون إلى قضية الإسرائيليين اللذين أفرج عنهما الأسبوع الماضي مرورًا بسفينة مرمرة والعلاقة مع النظام المصري الحالي، وغيرها الكثير من المواقف التي رفع فيها مستوى التحدي إلى أقصى مدياتها، ثم هبط بها وتراجع عنها.

وإذا عدنا بالذاكرة إلى 15 تموز/يوليو 2016، عندما شهد العالم محاولة الإنقلاب العسكري، مع مشاهد الدبابات التي تنتشر في شوارع تركيا وتسحق بمجنزراتها السيارات؛ فجأة، خرج زعيم حزب العدالة والتنمية ليتحدث عبر هاتفه ويخاطب جمهوره، ليقلب المعركة لمصلحته. حوّل الرئيس التركي الأزمة إلى فرصة لتصفية كلّ خصومه، وإحكام قبضته على أهم مؤسسات الدولة الأتاتوركية، الجيش والقضاء، فهل سيحدث نفس الشيء مع الإقتصاد؟

ليس الأمر بهذه البساطة. فطالما كان خيار تركيا هو إعتماد إقتصاد السوق فعليها الإقرار بقواعد اللعبة الرأسمالية. فالحقيقة الأولى هي أن الإقتصاد التركي لا ينمو الآن إلا بمعدلات متواضعة مقارنة بالنمو الجامح السابق الذي وضعه بين الأفضل عالميًا. فمن تداعيات محاولة الإنقلاب في 2016 والمشكلات السياسية اللاحقة إلى الركود في 2018  وصولًا إلى تداعيات كورونا.. هبط النمو من 5 بالمئة كمتوسط سنوي إلى أقل من 2 بالمئة. لذا تراجعت الثقة وتأثرت العملة، ولا يمكن لأردوغان تحمل هبوط الحد الأدنى للأجور نحو 40 بالمئة في أشهر قليلة توازيًا مع هبوط الليرة التي هي الأسوأ أداء عالميًا في 2021. ولا يمكنه لجم التضخم بخفض الفائدة فقط، بل عليه إجراء هيكلة عميقة خاصة بلجم الإستيراد لتعديل الميزان التجاري، وتعديل نموذج التوسع في الإستهلاك والبناء إعتمادًا على الإقتراض المفرط. فالدين الخاص كان 30 بالمئة من الناتج في 2007 وأصبح الآن 95 بالمئة. وعليه لجم الإنفاق العام الذي أورث عجزًا متصاعدًا في الموازنة من 2.4 بالمئة من الناتج في 2018 الى 3.5 بالمئة في 2020. وبما أنه يعتمد إقتصاد السوق سيقف في المدى القصير عاجزًا عن لجم دولرة الودائع التي زادت على 53 بالمئة من إجمالي الودائع هربًا من الليرة وتراجع الثقة بها بسبب السياسة النقدية المتبعة بالخفض القسري للفائدة على نحو يجافي المنطق الرأسمالي القاضي برفع الفائدة لإمتصاص السيولة وبالتالي تعزيز القدرة الشرائية للعملة والمحافظة على معدلات التضخم.

ما يفعله أردوغان من حيث يدري أو لا يدري يُعاكس ما خطّط له ونفذه في مدى عقدين لجهة تبوء موقعٍ مميزٍ بين الأوائل عالميًا. فبعد بلوغ الناتج التركي أكثر من 900 مليار في 2013 هو الآن نحو 700 مليار دولار فقط بسبب هبوط الليرة التركية. لذا فالمسألة أبعد من قضية الفائدة التي هي نتاج وليست سبباً. علاج الأسباب أولًا والنتائج تأتي وحدها لاحقًا.

Print Friendly, PDF & Email
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  تقارب "قسد" ودمشق.. غموض أميركي وإحتواء روسي