في ماهيّة الإسلام.. ذكورية القرآن وحقوق المرأة (17)

على مرّ العصور حتى يومنا هذا، تناول معظم علماء المسلمين موضوع المرأة في الإسلام بمنطق ذكوري. لم يركزوا على استقلالية المرأة وتمكينها واعطائها حقوقاً وقدرات تجعلها متساوية مع الرجل في المجالات السياسية والاجتماعية والدينية والعائلية، بل على العكس، تحدّثوا عنها بلغة تُرسّخ هيمنة الرجل. فما قول القرآن في المرأة وأي صورة يبرزها لنا عنها؟

قبل كلّ شيء، ليس القصد من بحثي هذا معالجة علاقة المرأة بالإسلام، فأنا من القائلين بوجوب أن يُتْرَك للمرأة قيادة النقاش حول هذه الإشكالية، وبالتالي، ليس للرجل، مهما علا شأنه أو وصل في علمه، أن يحسم نيابةً عنها حتى يفرض رأيه عليها. وأضيف أيضاً أنّ مسألة تمكين المرأة ومساواتها بالرجل ما زالت غاية تنشدها (ولم تبلغها بعد) معظم المجتمعات المعاصرة (بغضّ النظر عما إذا كانت هذه الغاية نابعة عن صدق أم نفاق)، ولا نعرف بعد أي تجربة تاريخية أعطت المرأة حقوقاً تساوي تلك التي أُعطِيَت للرجل.

سأركّز النقاش حول القرآن، والسؤال الذي أبتغي معالجته هو تصوّر النصّ القرآني للمرأة وهل يفيدنا كمنطلق لمعالجة مكانة المرأة في عصر الجاهليّة ومجتمع النبي محمّد؟

السرديّة الشائعة هي أنّ الإسلام أعطى المرأة حقوقاً لم تكن لها من قبل في مجتمع الجزيرة العربيّة (كما يُردد كثيرون من المدافعين عن الإسلام). وكأنّ هذا الرأي يقول للمرأة أنه عليكِ أن تكوني شاكرةً لما أعطاكِ الإسلام، فحتّى لو كانت درجتكِ أدنى من درجة الرجل بكثير ومع حقوق أقلّ، يبقى ذلك أفضل ممّا كان عليه وضعكِ قبل الإسلام. وهذا رأي يرفضه البعض في العصر الحديث ويجادلون أنّ الإسلام سلب المرأة الكثير من امتيازاتها التي كانت لها في زمن الجاهليّة. وكلا الفريقين يتلاعب بالحقائق التاريخية القليلة من أجل تدعيم موقفه. لذا، علينا الخروج من عبثيّة هاتين السرديّتين، لأنّهما تفضيان فعليّاً إلى إجبار المرأة على تقبّل التهميش أو رفض الإسلام، ولا تفسحا المجال أمامها لإنتاج سرديّتها هي، وفقاً لأولوياتها.

من دون شكّ، هناك آيات كثيرة في القرآن تتحدّث عن مكانة للمرأة أدنى من تلك التي للرجل. مثلاً، الآية 34 من سورة النساء: “الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِم”، أو الآية 3 من السورة ذاتها التي تسمح للرجل بالزواج من أكثر من امرأة، بينما لا تُعطي المرأة حقّ الزواج من أكثر من رجل: “فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ”. كذلك الأمر في الآية 282 من سورة البقرة التي تتحدّث عن أنّ شهادة امرأتين تعادل شهادة رجل واحد.

هل أراد القرآن في مقاربته لهذه الأمور أن يبارك تلك العلاقات والمعاملات والتقاليد التي تعطي الرجل أفضلية كبيرة على المرأة، أم هو فقط يخاطب المسلمين الأوائل، وفقاً لعاداتهم ومعاملاتهم وتقاليدهم؟ أم يفعل الإثنين معاً؟

الملفت للإنتباه أنّ كلّ هذه الحالات التي يتحدّث فيها القرآن عن أفضليّة للرجل على المرأة تتمحور حول العلاقات الإجتماعيّة والمعاملات التجاريّة والتقاليد: زواج، إرث، نفقة، دَين، شهادة، الخ. لكنّها لا تشير بتاتاً إلى ضعف بنيوي أو عقلي أو ديني للمرأة مقارنةً بالرجل.

هل أراد القرآن في مقاربته لهذه الأمور أن يبارك تلك العلاقات والمعاملات والتقاليد التي تعطي الرجل أفضلية كبيرة على المرأة، أم هو فقط يخاطب المسلمين الأوائل، وفقاً لعاداتهم ومعاملاتهم وتقاليدهم؟ أم يفعل الإثنين معاً؟ الجواب بحاجة إلى بحث أكثر إستفاضة مما يمكن أن يكون عليه مقالنا هذا. لكن لا بأس بأن نحاول (مع ما في ذلك من مجازفة).

بدايةً، يلفت إنتباهنا في القرآن أسلوب غير مألوف في الكتب المقدّسة التقليديّة عند الأديان الأخرى (خصوصاً المسيحيّة واليهوديّة)، وهو شموليّة خطابه للرجال والنساء في موضوع الإيمان (أو الكفر) ومتطلّباته والثواب فيه (أو العقاب)، كما نجد في الآية 35 من سورة الأحزاب:

“إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ، وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ، وَالقَانِتِينَ وَالقَانِتَاتِ، وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ، وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ، وَالخَاشِعِينَ وَالخَاشِعَاتِ، وَالمُتَصَدِّقِينَ وَالمُتَصَدِّقَاتِ، وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ، وَالحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالحَافِظَاتِ، وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً”.

وفي الآيتين 5 و6 من سورة الفتح:

“لِيُدْخِلَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ، وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً. وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ وَالمُنَافِقَاتِ وَالمُشْرِكِينَ وَالمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ، عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً”.

وهناك أيضاً الآية 12 من سورة الممتحنات:

“يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ، إِذَا جَاءكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً، وَلاَ يَسْرِقْنَ، وَلاَ يَزْنِينَ، وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ، وَلاَ يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ، وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ، فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ”.

نحن في حضرة خطاب قرآني واضح في شموليّته للجنسين؛ حريص على ذكر النساء وعلى ذكر الرجال، وبذلك يتجاهل عن قصد القاعدة الشائعة في اللغة العربيّة التي تستخدم صيغة الجمع للمذكّر عند مخاطبة مجموعة تتألّف من نساء ورجال، وهو أسلوب يستخدمه القرآن كثيراً لكن ليس في كلّ الحالات كما نقرأ.

إقرأ على موقع 180  الفضل شلق: هكذا تعرفت على كمال جنبلاط ورفيق الحريري

ومن منطق معرفي، لا نجد في هذه الآيات أيّ تفريق بين المرأة والرجل. لذلك علينا أن نسأل: لماذا في هكذا حالات يُصرّ القرآن على مخاطبة الجنسين بهذا الأسلوب، وتذكيرهما بتساوي ما لهما وما عليهما في ما يتعلّق بالعبادة والآخرة؟ إذا كانت التراتبيّة الإجتماعيّة تشمل كلّ شيء بما في ذلك الجنس بذاته، نتوقّع من نصّ الآيات أعلاه أنّ يُبرز هذه التراتبيّة بين الرجل والمرأة. لكنّه لا يفعل ذلك.

ليس من السهل معرفة هدف القرآن من ذلك، لكن من دون شك، لومه لآدم وحوّاء معاً يحرّر المرأة من تبعات الفكر الديني الذي يحمّلها المسؤوليّة الكاملة عن السقوط والذي ينكر عليها حقوقها ومساواتها بالرجل كعقاب إلهي لها على ما فعلت

كما ذكرت قبلاً، هذا النوع من الخطاب ليس بالمعتاد في الديانات السماويّة الأخرى. لغة القرآن في مخاطبته للمرأة أو للمؤمنين والمؤمنات بهذا الشكل تختلف عمّا نجده في التوراة والأناجيل. ويمكن أن نذهب أبعد من ذلك إذا قارنّا مثلاً طريقة سرد القرآن لقصّة سقوط آدم وحوّاء من الجنّة مع ما نجد في سفر التكوين. في القرآن (سورة الأعراف تحديداً) يضع القرآن اللائمة على آدم وحوّاء معاً:

“فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ. وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ. فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا”.

أمّا في سفر التكوين، فإن حوّاء هي التي ارتكبت الخطيئة وأغوت آدم لكي يتبعها. إذاً، القرآن يطرح أمامنا إشكالية في مسألة السقوط التي هي أساس تهميش المرأة في التراثين اليهودي والمسيحي، وصولاً إلى تحميلها مسؤوليّة الخطيئة الأولى. فأصبحت المرأة بما تجسّده كمرأة عنوان للخطيئة، وهذا نجده أيضاً (بعكس ما يقول القرآن) في التراث الفكري والتقليد الإسلامي (وله مثيل في ديانات وحضارات أخرى).

ليس من السهل معرفة هدف القرآن من ذلك، لكن من دون شك، لومه لآدم وحوّاء معاً يحرّر المرأة من تبعات الفكر الديني الذي يحمّلها المسؤوليّة الكاملة عن السقوط والذي ينكر عليها حقوقها ومساواتها بالرجل كعقاب إلهي لها على ما فعلت.

ويمكن أن نذهب أبعد من ذلك إذا نظرنا إلى طريقة تصوّر القرآن للنفس والطبيعة البشريّة وتفحّصنا ما إذا كانت تشير إلى مكانة أعلى للرجل عن مكانة المرأة. يستوقفنا هنا أيضاً استخدام القرآن كلمة تتجاهل البعد الجنسي، وأعني تحديداً كلمة “الإنسان”. مثلاً: “وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً” (سورة النساء 28)، فنسب الضعف إلى البشر كافّة، لا لجنس منهم بعينه. ويقول أيضاً: “وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً” (سورة الإسراء 67)، فنسب الكفر إلى البشر كافّة، لا لجنس منهم بعينه. ويقول أيضاً: “وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ، وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً” (سورة الإسراء 83)، و“إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً” (سورة الأحزاب 72)، فنسب الإعراض واليأس والظلم والجهل إلى البشر كافّة، لا لجنس منهم بعينه. وأخيراً: “إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً. إِلاَّ الْمُصَلِّينَ”. (سورة المعارج 19-22)، فنسب الحرص وقلّة الصبر والبخل إلى البشر كافّة، لا لجنس بعينه، واستثناءه للمصلّين ليس استثناءً لجنس بعينه.

هذه الأمثلة تعطينا نظرة واضحة عن تصوّر القرآن لعيوب البشر المنسوبة إليهن وإليهم، نساءً ورجالاً. ولا نجد في هذه الأمور تخصيصاً لجنس أحد منهما بنقص أو مزايا لا تشمل الجنس الآخر.

هل يمكن القول هنا أنّ هذه المفاهيم التي يظهرها القرآن كانت مألوفة في زمن الجاهليّة؟ الأرجح هو نعم، فأي خطاب ليس له معنى أو قدرة على الإقناع إلاّ إذا كان مألوفاً (وهذا يختلف عن التجاهل لما هو مألوف).

في الخلاصة، إن إشكالية المرأة في القرآن أننا نطلب من النصّ إجابة واضحة بدل أن نقرأه ونتقبّل جدليته التي تتراوح بين الاعتراف بالمرأة مساويةً للرجل وبين وضعها في منزلة دون الرجل. هذه جدليّة صراعية داخل القرآن، وتُعبّر عن الصراع بين النظري والعملاني، بين الواجب والممكن. إذا قلنا أنّ النظري والواجب هو الأساس وأنّه غير قابل للتغيير (وهذا رأي لا أكثر)، يقودنا ذلك إلى القول إنّ العملاني والممكن قابل للتغيير ويتعلّق بتطوّر المجتمع (وهو رأي أيضاً). والرأي ليس بالضرورة أمراً سيّئاً، و“ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ” (سورة الأنفال 53).

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  فرنسا والجزائر: تقرير ستورا يُشعل صراع الذاكرة الأليمة