قضيت بضعة أيام غالبها عمل وقليلها تأمل واستمتاع؛ أنظر موجة تنقلب على نفسها تلو زميلتها، وترتد كلتاهما عن المكعبات الحجرية الضخمة التي وفدت مؤخرًا، لتعلن باستقرارها زوال المعالم التي ألفت وجودها خلال العقود الماضية. الموجة في معاجم اللغة العربية اسم مرة من الفعل ماج، أي؛ زاد وفاض، وماج البحر أي ارتفع ماؤه. الموجة مستخدمة في مصطلحات كثيرة؛ منها ما تعلق بالطقس، وما ارتبط بعلوم الفيزياء، وما ورد على سبيل المجاز كناية واستعارة.
***
أبدل ترددات الإذاعة عشوائيًا بين الحين والآخر. أجد لذة في اكتشاف محطات جديدة لا أعرف عنها شيئًا، وأبتهج حين يأتيني لحن أو صوت يعلن برنامج ألفته منذ الطفولة. أستقر مرة على موجة البرنامج العام وأخرى على الشرق الأوسط وثالثة على صوت العرب؛ ولكل منها رحيق خاص. أتنقل بين الموسيقى الكلاسيك والأغنيات العربية القديمة بانتظام؛ يدفعني المزاج الآني الذي يتحول من هذه إلى تلك دون أن يشفع تحولاته بحججٍ وأسباب. يطيب لي مرات أن أعيد ضبط الموجة فأستقبل إذاعة شعبية صارت مشهورة، سلوك مستجد حضرته صديقة مقربة فدهشت له وأعربت عن دهشتها، ولامتني على تغير في الذوق ينذر بكارثة. لم تثر الأغنيات التي توالت للحق استيائي؛ أنصت محايدة فوجدت بينها ما أحرزت كلماته هدفًا في المرمى. تأكدت كما أسر لي رفاق وأصدقاء، أن بعض الأغنيات التي اندرجت حديثًا تحت مسمى “شعبية”؛ لا تعدم ذكاءً وعمقًا، بل وطرافة وفطنة في انتقاء الألفاظ والتعبير بها صدقًا عن الحاضر. ثمة واقع نعيش فيه، لا يزعجه رفضنا، فيما يديننا نبذُه دون تفكير.
***
الماشي مع الموجة هو الشخص الذي يصنع كما يصنع الآخرون، دون أن يتفكر ويتدبر ويقرر. إذا سار القطيع يسارًا فإلى اليسار، وإذا بركت الشياه وأطاعت الراعي، جاء بالمثل، فإذا كان فعيله هذا متعمدًا يرمي به للوصول إلى غرض أو مأرب؛ قيل إنه ”ركب الموجة“.
***
تتعاقب في الآونة الأخيرة موجة غلاء تلو أخرى، وترتفع الأسعار درجة بعد درجة، وتثقل الأعباءُ الكهولَ، وتضغط الأحزمة على البطون إلى أن تتمزق، مع هذا تموج الأسواق التجارية الفاخرة بالزبائن، وتمتلئ المقاهي الفخمة بحشود من الآكلين والشاربين، حتى يظن المار بها أن كنوزًا قد هبطت من السماء أو انشقت عنها الأرض؛ فتوزعت بين الأركان. ثمة فجوة تضاعف مساحتها الموجات المتتالية وتعمقها؛ يغرق فيها من يغرق، ويطفو من أسعده الحظ بطوق نجاة أو بطوف يهدهده.
***
في الإطار ذاته، تردد وسائل الإعلام الأجنبية حديثًا متواصلًا عن موجة تضخم منتظرة، تدفع إلى الذاكرة بموجة الكساد التي حلت في ثلاثينيات القرن العشرين؛ فأنهكت العالم كله وأورثته بؤسًا وقنوطًا. لا يعدم المرء أفكارًا تطرق ذهنه دون أن يدعوها؛ تفتش عن أصحاب المصالح العالمية الكبرى، وتعزو النوازل التي توالت في الفترة الأخيرة إلى سياسات غير حكيمة على أطيب التقديرات، وإلى مؤامرات اقتصادية مريبة على مستوى أسوأ.
***
أحياناً ما يحث واحد صاحبه على أن يضبط موجته؛ والمعنى أن يحاول التكيف مع محيطه، فيستخدم مفرداته، ويدرك مزحاته، ويتلفظ بتعبيراته، ويستوعب ما قد يغمض على آخر لم يتمكن من ضبط موجته بعد. إذا قال واحد عن زميله إنه معه على الموجة نفسها، فالمعنى أنهما يفهمان بعضهما دون حاجة لشرح مطول، وقد يدرك كل منهما قصد الآخر بغير حديث؛ يكتفيان بنظرة عين أو إيماءة، وغالبًا ما يتفقان على الرأي ذاته.
***
أمواج الحياة متباينة الأثر، منها الرفيق بالسابحين ومنها القاسي العنيف. إذا تعقدت الظروف وغاب الأمل عمت موجة تشاؤم لا تبقي ولا تذر، وإذا لانت الأمور وتحسنت؛ غمرت القلوب موجة تفاؤل ترتفع إلى عنان السماء، فما أسهل أن يرضى الناس، وما أسرع ما يتناسون فترات الضيق. على كل حال لا تدوم موجةٌ بطبيعة التعريف أو تستقر، إنما هي حركة دائبة لا تنقطع ما ترددت فينا الأنفاس.
***
حين تشتد الأزمة وتحتدم، وتعلو الأمواج مطيحة بما في طريقها، يُنصَح الواقف وسط المعمعة أن ينحني ما وصله العباب كي يعبر بسلام. لا يتمكن الناس جميعهم من الانحناء، ولا يضمن من انحنى السلامة والنجاة. أحيانًا ما ينقسم الظهر ويعجز المرء عن القيام، بينما يبقى منتصب القامة في مكانه؛ تزيده الأنواء صلابة وتعمق جذوره في الأرض.
(*) بالتزامن مع “الشروق“