عندما عرض رئيس الحكومة نجيب ميقاتي على رئيسي الجمهورية ميشال عون والنواب نبيه بري أن يترافقا برحلة سيارة واحدة من وزارة الدفاع في اليرزة إلى القصر الجمهوري في بعبدا، بعد إنتهاء إحتفالات عيد الإستقلال في 22 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، راح يروي لهما قُصصا عن الطقس لملء الوقت. إفتعل أموراً أقل أهمية من الطقس لكن الإثنين “يا جبل ما يهزك ريح”. لا يريد أحدهما أن يُعطي ريقاً حلواً للآخر. كانت رحلة الدقائق الأربع من اليرزة إلى بعبدا أطول من رحلة بالطائرة من بيروت إلى نيويورك مدتها أكثر من 12 ساعة!
ما هي مناسبة هذه الرواية؟
لم يكد يصدر مرسوم فتح العقد الاستثنائي لمجلس النواب في الجريدة الرسمية، حتى عاجله رئيس مجلس النواب بترسيم “حدود دستورية” تختزن رفضاً لتحديد جدول اعمال هذا العقد الاستثنائي، فأصدر موقفاً تعقيباً على نص العقد الاستثنائي، اكد فيه ان “المجلس سيد نفسه، ولا يقيّده أي وصف للمشاريع أو الاقتراحات التي يُقرّر مكتب المجلس طرحها، ويعود لرئيس الجمهورية حق الرد بعد صدورها عن الهيئة العامة الى المجلس. هذا حكم الدستور وما استقر عليه الاجتهاد. يقتضي التصويب”.
في المقابل، يتحصّن رئيسا الجمهورية والحكومة، صاحبا الصلاحية في فتح العقد الاستثنائي بنص المادة (33) من الدستور التي تم تعديلها في العام 1990 وتاريخ بدء العمل بها كان في 21/9/ 1990 وتنص على الآتي: “ان افتتاح العقود العادية واختتامها يجريان حكماً في المواعيد المبينة في المادة الثانية والثلاثين (دستور). ولرئيس الجمهورية، بالاتفاق مع رئيس الحكومة ان يدعو مجلس النواب الى عقود استثنائية بمرسوم يحدد افتتاحها واختتامها وبرنامجها.. وعلى رئيس الجمهورية، دعوة المجلس الى عقود استثنائية اذا طلبت ذلك الاكثرية المطلقة من مجموع أعضائه”. وبالتالي فان رئيس الجمهورية متمسك بصلاحياته “حتى آخر بارة من دون زيادة أو نقصان”، تقول أوساطه.
ما هي المعطيات التي رافقت موقف رئاسة الجمهورية من توقيع مرسوم العقد الاستثنائي لمجلس النواب؟
ان ولادة المرسوم اظهرت معطيات عدة، منها ممارسة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون صلاحياته الدستورية لجهة فتح دورة استثنائية ببرنامج محدد، يتضمن قوانين سبق للرئيس عون ان طالب باقرارها، لا سيما تلك التي تتعلق بالاصلاحات اللازمة والضرورية او بخطة التعافي المالي وغيرها من المشاريع المتصلة بالاوضاع المعيشية الملّحة، فضلاً عن اقتراح القانون المتعلق بوضع ضوابط استثنائية وموقتة على التحاويل المصرفية (الكابيتال كونترول)، وقانون استعادة الاموال المحوّلة الى الخارج.
تم التأكيد على ان صلاحية فتح دورة استثنائية محددة بالدستور (المادة ٣٣)، أي بالاتفاق بين رئيسي الجمهورية والحكومة، وهما يضعان توقيت الدورة وبرنامجها، وهذا ما تم بالفعل، وهو امر لم يكن يراعَ في الماضي. زدْ على ذلك أن رئيس الحكومة نصح رئيس الجمهورية بعدم دفع الأمور إلى حد إكتمال عريضة التواقيع النيابية المطالبة بفتح دورة إستثنائية والتي كانت تجاوزت الستين توقيعاً، فضلاً عن وجود إستعداد لتواقيع جديدة بحيث تصل إلى سقف السبعين توقيعاً.
وفق الفتوى الرئاسية، فان مجلس النواب “سيكون مُلزما بمناقشة مشاريع واقتراحات القوانين المحددة في مرسوم فتح الدورة الاستثنائية، مع ترك الباب مفتوحا امام ما يمكن ان يقره مكتب مجلس النواب في الاطار المحدد في المرسوم . وبالتالي موقف الرئاسة الاولى ينطلق من ان الصلاحيات المكرسة لرئيس الجمهورية في الدستور تمت ممارستها وفقاً للاصول، ما ينفي كل ما قيل عن ان الرئيس عون يرفض توقيع المرسوم، في محاولة تندرج في سياق الحملات المنظمة التي تستهدف الرئيس لمنعه من ممارسة صلاحياته الدستورية بالكامل”.
كما ان برنامج اعمال الدورة الاستثنائية يعطي الاولوية لمواضيع مهمة وضرورية تحتاجها المرحلة الدقيقة التي تمر بها البلاد اقتصادياً ومعيشياً ومالياً لا سيما مشروع قانون الموازنة العامة للعام 2022 (علماً أن وزير المال يُشدد على أن المشروع يحتاج إلى أسبوعين إضافيين ولم يُصبح ناجزاً حتى الآن)، ومشاريع اخرى تتناول الانتخابات النيابية والتدقيق المالي لجهة تمديد العمل بالقانون الخاص بتعليق العمل بالسرية المصرفية ( القانون رقم ٢٠٠/٢٠٢٠) وغيرها، وما يهم الرئيس عون، وفق موقف الرئاسة الاولى، “هو اقرار الموازنة لانتظام مالية الدولة والقوانين الاخرى الملحة الواردة في جدول الاعمال المحدد بالمرسوم”.
وما هو الاهم ان من شأن انعقاد الدورة واقرار القوانين المحددة في مرسوم فتح العقد الاستثنائي لمجلس النواب، “خلق اجواء سياسية هادئة تساعد على تبريد مواقف الاطراف السياسيين لمقاربة الملفات العالقة ومنها ما يتصل بإعادة إستئناف جلسات مجلس الوزراء، إذ أن المقاربة لا يمكن أن تكون مجتزأة، فعندما يُقال إنه لا يجوز تعطيل مجلس النواب بسبب إستثنائية الأوضاع الإقتصادية والمالية، فكيف الحري بالسلطة التنفيذية التي يجري تعطيلها وهي المعنية بإتخاذ قرارات وإقرار مشاريع قوانين بينها مشروع قانون موازنة العام 2022”.
صحيح أن المجلس النيابي سيد نفسه والأصح أننا نعيش في كنف نظام برلماني منذ الطائف حتى يومنا هذا، ولذلك، لا بد من إعادة عجلة الإنتظام العام إلى كل المؤسسات الدستورية من دون إستثناء، ولكن معظم المؤشرات لا توحي بحلحلة سياسية حتى الآن، واذا كان ميقاتي يربط الدعوة إلى جلسة مجلس الوزراء بتسلمه مشروع قانون الموازنة العامة، فعلينا انتظار ما إذا كان المشروع سيُسلم إليه ام لا، وحينها تتواصل عملية لحس المبرد الموصلة الى النزيف الكامل..