الحقيقة أن هذه الصدمة أحدثت تغييرات كبيرة فى الثقافة السياسية اليابانية ومن حيث لم يرد ولم يطمح أصلا آرثر فقد كانت هذه التغييرات أحد أهم عوامل التحول السياسى فى اليابان إلى الديموقراطية!
كانت واحدة من أهم سياسات قوات التحالف هو العمل على تسريح الجيش اليابانى ونزع سلاحه بالكامل! ورغم أن درس ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى كان ما زال ماثلا أمام الحلفاء حيث تسبب نزع السلاح الألمانى فى نزوع الألمان نحو النازية، إلا أن وجود قوات الجنرال آرثر هى من طمأنت الحلفاء إلى سياستهم فى نزع سلاح اليابانيين ثم تحول ذلك إلى أمر واقع بعد إقرار الدستور اليابانى الذى أكد على عدم السماح لليابان بوجود جيش لها!
قام الحلفاء أيضا بإقرار عدد من السياسات التى ساهمت فى دفع الديموقراطية بالإضافة للدستور، ومن هذه السياسات إعطاء المرأة اليابانية حق التصويت لأول مرة فى تاريخها، وبالفعل ففى أول انتخابات برلمانية جرت بعد الحرب، كانت نسبة تصويت اليابانيات هى ٦٧٪ بفارق ٨٪ فقط عن نسبة تصويت الرجال وهو ما كان يعد تطورا كبيرا للغاية فى السياسة اليابانية التى كانت محتكرة للرجال فقط!
كذلك فقد تم إقرار حق العمال فى الإضراب وتعديل قانون العمل بهدف إصلاح ظروف العمل بعد أن كانت قد وصلت إلى مرحلة السخرة فى السنوات القليلة التى سبقت الحرب العالمية الثانية! كذلك فقد قامت قوات الحلفاء بالإفراج عن المساجين السياسيين وكان معظمهم من الشيوعيين، كما أعاد الحلفاء الحزب الشيوعى إلى العمل السياسى بعد أن كان هناك قرار من الإمبراطور عرف باسم «حفظ السلام» يمنع كل الشيوعيين أو المتعاونين معهم من العمل العام منذ منتصف العشرينيات!
وفى خطوة أخرى فقد قام الحلفاء بعقد محاكمات طوكيو لمحاسبة قادة الحرب فى اليابان بعد أن تم إخلاء مسئولية الإمبراطور كما شرحنا فى المقالة الماضية، وانتهت هذه المحاكمات بإصدار حكم الإعدام بحق سبعة من مجرمى الحرب اليابانيين، والحكم على ١٧ آخرين بالسجن مدى الحياة، بينما تم تبرئة شخص واحد، وسقطت التهمة عن اثنين للوفاة أثناء المحاكمة!
تحت دعوى توفير ظروف الاستقرار السياسى والاقتصادى فى اليابان، انحاز آرثر للتيارات السياسية المحافظة، فأخذ فى التراجع عن دعم حق العمال فى الإضراب، وأعاد كل من تم منعه من العمل السياسى إلى الحياة العامة مرة أخرى، وسمح للإمبراطوريات الاقتصادية بمواصلة العمل
لكن الخطوة الأكبر التى اتخذها آرثر كانت تشكيله لجنة لمراجعة ملفات ما يقرب من ٧٥٠ ألف يابانى متهمين بالمشاركة فى الحرب أو تأييدها من موقع رسمى وذلك بهدف منعهم من ممارسة السياسة أو تبؤ أى وظيفة عامة، وبالفعل فقد تم منع ٢٠٠ ألف يابانى من السياسة إلا أن هذه القرار لم يصمد كثيرا! فسريعا ما عدل ماك آرثر من خططه الإصلاحية وقرر إعادة التقرب من الدوائر المحافظة فى اليابان لإبعاد الأخيرة عن أى تأثير سوفيتى أو صينى مع بداية الحرب الباردة، ومن ثم فمع بداية الخمسينيات قد تم التراجع عن هذا المنع كلية!
كذلك فقد قرر الحلفاء تفتيت كل إمبراطوريات الصناعة فى اليابان والتى عرفت باسم الـ«زايباتسو» وكان عددها يفوق الـ٣٠٠ إمبراطورية ومعظمهم كانوا شركاء فى تمويل آلة الحرب اليابانية، إلا أن هذا القرار كسابقه ولنفس الأسباب فقد تم التراجع عنه ولم يتم تفتيت سوى عدد محدود للغاية من هذه الشبكات الصناعية فيما عرض الجنرال آرثر والولايات المتحدة للكثير من الانتقادات لإعادة دعم التيارات المحافظة التى كانت أحد أهم أسباب قيادة اليابان للحرب العالمية الثانية.
اتخذ الحلفاء بعض القرارات الأخرى لدفع الديموقراطية مثل سياسات الإصلاح التعليمى والتركيز على مقرطة المناهج ونزع قيم الحرب والتطرف القومى منها، وكذلك سياسات الإصلاح الزراعى التى أعادت توزيع الكثير من الأراضى على الملاك الجدد من صغار المزارعين.
***
لكن وكما أشرنا سابقا، فظروف الحرب الباردة قد دفعت الولايات المتحدة إلى تغيير سياساتها كليا حتى تضمن اليابان كحليف، فتحت دعوى توفير ظروف الاستقرار السياسى والاقتصادى فى اليابان، فقد انحاز آرثر للتيارات السياسية المحافظة، فأخذ فى التراجع عن دعم حق العمال فى الإضراب، وأعاد كل من تم منعه من العمل السياسى إلى الحياة العامة مرة أخرى، وسمح للإمبراطوريات الاقتصادية بمواصلة العمل، بل وقام الأمريكان أيضا بمحاولة إعادة الجيش اليابانى للحياة مرة أخرى محاولين استخدام أى حيلة يمكن التوصل إليها فى ضوء القيود التى وضعتها المادة التاسعة من الدستور، فتم إنشاء قوات الدفاع الذاتى اليابانى وتم تسليحها بحيث أصبحت ــ وما زالت ــ تملك قدرات عسكرية كاملة لا تقل كثيرا عن قدرات الجيوش فى الدول المجاورة، وحينما سقطت الصين فى يد الشيوعيين وبدأت الحرب الكورية، فقد كان ذلك دافعا أكبر للأمريكان فى الاستمرار فى هذا النهج العكسى للسياسات الإصلاحية التى كانوا قد بشروا بها فى البداية!
وبعد ٧ سنوات من الاحتلال رأت الولايات المتحدة أنه يجب إنهاء هذا الوضع مع إعطاء اليابان سيادتها كاملة، ولكن بشروط! فقد قضت اتفاقية سان فرانسيسكو ١٩٥١، ومن بعدها اتفاقية الدفاع العسكرى المشترك بين الولايات المتحدة واليابان فى ١٩٥٢ باسترجاع اليابان لسيادتها مع مغادرة ماك آرثر وباقى القائمين الغربيين فى الحكم اليابان والعودة إلى ديارهم ولكن فى مقابل الاحتفاظ بجزيرتى «أوكيناوا» و«أيواشيما»، بل والإبقاء على ربع مليون جندى أمريكى فى قواعد عسكرية أمريكية داخل اليابان!
هزيمة اليابان فى الحرب واحتلالها ساعدا بالفعل على إحداث تغييرات ديموقراطية، إلا أن هذه التغييرات لم تكن أبدا مكتملة، فقد تسببت فى خلق اعتمادية عسكرية، بل وسياسية على الولايات المتحدة مما ينقص من السيادة اليابانية على أرض الواقع، حتى لو كانت من الناحية الدستورية مكتملة
بالطبع ورغم أنه من الناحية القانونية فقد انتهى الاحتلال بالفعل عام ١٩٥٢، إلا أنه من الناحية الفعلية قد تواصل مع تواجد عشرات الآلاف من القوات الأمريكية فى اليابان! وقد رأى الكثير من اليابانيين أن اتفاقية الدفاع هذه ما هى إلا اتفاقية إذعان لبلادهم وكان هذا الاعتقاد صحيحا بالفعل إلى حد بعيد! وقد تسبب فى عشرات المظاهرات الضخمة ضد الولايات المتحدة وقواعدها العسكرية طوال فترة الخمسينيات، مما اضطر الأمريكان لاحقا لتعديل بعض بنود الاتفاقية فى ١٩٦٠ ثم إعادة الجزيرتين المحتلتين بعد ذلك بسنوات، إلا أن هذا لم يمنع أبدا وجود تيار يابانى معارض بشدة للتواجد العسكرى الأمريكى حتى يومنا هذا! والملفت للنظر، أنه وعلى مدار العقود الماضية، فقد حاولت الولايات المتحدة بالفعل دفع اليابان لتغيير المادة التاسعة من الدستور وإعادة العسكرة الكاملة، وهو الأمر الذى عارضه الساسة اليابانيون أنفسهم وحتى اليوم!
***
يمكن القول إذا إن هزيمة اليابان فى الحرب واحتلالها قد ساعدا بالفعل على إحداث تغييرات ديموقراطية، إلا أن هذه التغييرات لم تكن أبدا مكتملة، فقد تسببت فى خلق اعتمادية عسكرية، بل وسياسية على الولايات المتحدة مما ينقص من السيادة اليابانية على أرض الواقع، حتى لو كانت من الناحية الدستورية سيادة مكتملة! كما أن الاحتلال فى الواقع قد تسبب فى استمرار هيمنة التيارات المحافظة فى اليابان على شئون الحكم، مما جعل الديموقراطية اليابانية فى معظمها ديموقراطية محافظة قائمة على المؤسسات والعائلات، محدودة التعدد ومحدودة التنافس ومصممة لتيارات بعينها، ولهذا حديث آخر.
(*) ملحوظة: تم الاعتماد فى بعض فقرات هذا المقال على كتاب الصحفى الأمريكى باتريك سميث والمعنون «اليابان: رؤية جديدة» من ترجمة عالم المعرفة بالكويت فى ١٩٩٦، ترجمة سعد زهران.
(**) بالتزامن مع “الشروق“