كان التناقض مذهلا؛ أطلق الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش فى نيويورك، مبادرة متأخرة، ولكن الحاجة ماسة إليها، لوقف الحرب فى أوكرانيا. وقال المتحدث باسم الأمين العام: «فى هذا الوقت الذى تتزايد فيه المخاطر والعواقب، يود (جوتيريش) مناقشة الخطوات العاجلة لإحلال السلام». وكشف أن الأمين العام للأمم المتحدة اقترح إجراء محادثات شخصية فورية مع فلاديمير بوتين فى موسكو وفولوديمير زيلينسكى فى كييف.
فى نفس الوقت تقريبا الذى حدث فيه هذا التطور المأمول، كان رئيس الوزراء البريطانى بوريس جونسون، يستقل طائرة إلى الهند، ليهرب بها من فضيحة «بارتى جايت» ويدمر جهود السلام. ادعى جونسون أن بوتين مفترس لا يمكن الوثوق فيه، قائلا «أنا حقا لا أرى كيف يمكن للأوكرانيين الجلوس بسهولة مع الروس والتوصل إلى شكل من أشكال التسوية. كيف يمكنك أن تتفاوض مع تمساح عندما تكون ساقك بين فكيه؟».
هذه الفجوة مقلقة؛ فهى تشير إلى غياب التنسيق بين الأمين العام للأمم المتحدة ودولة عضو دائم فى مجلس الأمن حول حل الأزمة، كما تسلط الضوء على مشكلة أكبر وهى تباين ــ وأحيانا تعارض أو التركيز على خدمة المصالح الذاتية ــ نهج القادة الغربيين الذين مازالوا يعلنون حتى الآن وحدة هدفهم.
قال رئيس البنك الدولى، ديفيد مالباس، إن «كارثة إنسانية» تلوح فى الأفق مع زيادة غير مسبوقة تقدر بنحو 37٪ فى أسعار المواد الغذائية، بعدما قطعت الحرب الإمدادات، لتدفع الملايين نحو الفقر مع زيادة سوء التغذية وانخفاض الإنفاق على التعليم والرعاية الصحية للأقل ثراء
الغضب فى الدول الغربية الذى أشعله غزو بوتين فى 24 فبراير/شباط بدأ فى التلاشى، كما الحال مع التفاؤل الذى أعقب نجاح أوكرانيا فى صد التقدم الروسى حول كييف. بينما تبدأ موسكو الآن هجوما ضخما بطيئا فى الشرق، يتزايد القلق من أن هذا الصراع ليس له نقطة نهاية وأن الضرر الاقتصادى والبشرى الهائل الذى ينتج عن هذه الحرب قد يكون دائما وعالميا.
***
لا ينظر جونسون عادة إلى ما هو أبعد من اللحظة الحالية. قال إن المملكة المتحدة وحلف شمال الأطلسى سيواصلان «استراتيجية» فرض عقوبات على روسيا وتزويد كييف بالأسلحة. يدعم جونسون حرية واستقلال أوكرانيا، ولكن، مثل قادة حلف الناتو الآخرين، يبدو أنه يفتقر إلى خطة مدروسة وطويلة الأجل لتحقيق ذلك.. فماذا لو بدأت القوات الأوكرانية فى الخسارة؟ ماذا لو انقسمت أوكرانيا أو بدأت فى الانهيار؟
قد يكون ثمن الفشل ــ التكلفة الحقيقية لانتصار بوتين ــ باهظا على أوكرانيا، فمن المحتمل أن تفشل الديمقراطيات الغربية المتصدعة والبلدان الفقيرة، التى تعانى من أزمات الأمن والطاقة والغذاء والتضخم والمناخ والجائحة، فى دعمها. وحتى بعيدا عن حسابات المصلحة الذاتية وقصر النظر فيما يتعلق بقضايا مثل واردات النفط والغاز الروسى، والخوف من تصعيد أوسع، تجنب القادة الغربيون الخيارات الصعبة التى من شأنها أن تضمن لأوكرانيا البقاء وتساعد فى تخفيف حدة الأزمة.
قدم الأسبوع الماضى لمحة قاتمة عن المستقبل الذى ينتظرنا إذا توفرت القدرة لبوتين على الاستمرار فى شن حرب مع الإفلات من العقاب، وارتكاب مزيد من الجرائم، والتهديد باستخدام الأسلحة النووية والكيميائية، وتجاهل وثيقة الأمم المتحدة. خفض صندوق النقد الدولى بشكل كبير توقعاته للنمو بسبب الصراع، وتوقع تجزئة الاقتصاد العالمى إلى تكتلات جيوسياسية وزيادة الديون والاضطرابات الاجتماعية.
قال رئيس البنك الدولى، ديفيد مالباس، إن «كارثة إنسانية» تلوح فى الأفق مع زيادة غير مسبوقة تقدر بنحو 37٪ فى أسعار المواد الغذائية، بعدما قطعت الحرب الإمدادات، لتدفع الملايين نحو الفقر مع زيادة سوء التغذية وانخفاض الإنفاق على التعليم والرعاية الصحية للأقل ثراء.
فر أكثر من 5 ملايين شخص من أوكرانيا فى غضون شهرين، وسيتبع ذلك المزيد، مما يؤدى إلى تفاقم علميات الهجرة الدولية التى تمتد من أفغانستان إلى منطقة الساحل الإفريقى. يشير برنامج الغذاء العالمى إلى أن نحو 20 مليون شخص فى منطقة شرق أفريقيا التى ضربها الجفاف قد يواجهون المجاعة هذا العام. لم تتسبب حرب بوتين فى الجفاف، لكن الأمم المتحدة تحذر من أنها قد تضر بالجهود المبذولة للحد من الاحتباس الحرارى، مما يؤدى إلى مزيد من النزوح والهجرة.
إن التأثير السياسى الأوسع والسلبى للحرب، إذا استمرت إلى ما لا نهاية، لن يُحصى، وحذر أكثر من 200 مسئول سابق جوتيريش الأسبوع الماضى أن مستقبل الأمم المتحدة كمنتدى عالمى موثوق ومشرع وقائد لحفظ السلام فى خطر. وتتعرض مصداقية محكمة العدل الدولية للخطر أيضا، ذلك أن بوتين استهزأ بأوامرها بالانسحاب وبنظامها فى محاكمة جرائم الحرب بأكمله.
***
قد تخسر أوكرانيا هذه الحرب. وعلى الرغم من أن ذلك يبدو مخيفا، إلا أن بوتين من الممكن أن يفوز. إذا تخلى الغرب عن مبادئه وقيمه وسمح بذلك، فإن الثمن الذى سيدفعه الجميع، ولفترة طويلة، هو وجود عالم جديد مليء بالألم
الإخضاع الكامل أو الجزئى لأوكرانيا من شأنه أن يضرب المعايير الديمقراطية وحقوق الإنسان فى مقتل، ويؤدى إلى كارثة للنظام الدولى القائم على القواعد، وانتصار الحكام المستبدين فى كل مكان. تخيل محتوى الرسالة التى يرسلها الإخضاع الروسى لأوكرانيا إلى الصين بشأن تايوان على سبيل المثال، أو إلى بوتين الطامع فى ضم جمهوريات البلطيق الضعيفة أو إلى الإرهابيين الذين يخططون الآن بشكل خفى لاستغلال الأزمة فى أوكرانيا وانشغال الغرب ويستمتعون بانتصار العنف.
إن الفشل فى وقف الحرب وإنقاذ أوكرانيا وإيقاع أقصى العقوبات الممكنة على نظام روسيا المارق سيكون له ثمن باهظ، خاصة بالنسبة لأوروبا والاتحاد الأوروبى.. العالم على أبواب نشوب حرب باردة جديدة مع وجود قوات وقواعد دائمة للناتو على حدود روسيا، وزيادة الإنفاق الدفاعى بشكل كبير، وتسارع السباق النووى، والحرب الإلكترونية والمعلوماتية التى لا تتوقف، ونقص إمدادات الطاقة، وارتفاع تكلفة المعيشة، وتصاعد الحركات اليمينية المتطرفة المدعومة من روسيا كما حدث فى فرنسا.
باختصار، نحن نشهد فجر عصر جديد من عدم الاستقرار. لماذا قد يتسامح سياسيون مثل جو بايدن من أمريكا، وأولاف شولز من ألمانيا، وإيمانويل ماكرون فى فرنسا مع مستقبل محفوف بالمخاطر وخطير للغاية.. فاتخاذهم موقف أكثر قوة الآن قد يمنع ظهور الكثير من تلك التهديدات. تجنب المخاطر الموجودة اليوم هو ضمان لوجود غد أكثر خطورة.
إرسال الأسلحة وأفضل التمنيات لا يكفى.. ناقش الزعماء الغربيون الأسبوع الماضى تقديم ضمانات أمنية لأوكرانيا بعد الحرب. كل هذا يعد جيدا. لكن الحرب مشتعلة الآن. من الذى سيضمن بقاء أوكرانيا فى الأسابيع القليلة المقبلة التى قد تكون حاسمة؟ من، إذا حان الوقت للحسم، سيتجاوز مرحلة التدريب ويقدم دعما عسكريا مباشرا على أرض أوكرانيا؟
لنكن واقعيين. على الرغم من البطولة والتضحيات، قد تخسر أوكرانيا هذه الحرب. وعلى الرغم من أن ذلك يبدو مخيفا، إلا أن بوتين من الممكن أن يفوز. إذا تخلى الغرب عن مبادئه وقيمه وسمح بذلك، فإن الثمن الذى سيدفعه الجميع، ولفترة طويلة، هو وجود عالم جديد مليء بالألم.
(*) بالتزامن مع “الشروق“؛ النص الأصلي (“الغارديان“) بالإنكليزية.