تلعب الحكومة دور المتذاكي، كما لو أن كل اللبنانيين مودعين، فتختصر خسائرهم وخسائر القطاع المالي بنحو 69 ملياراً، بينما هي في حقيقة الأمر 169 ملياراً حتى الآن ، و”الحسابة بتحسب” كل يوم اضافي، كما يقول اشقاؤنا المصريون، لكن ثمة خلط مقصود بين مخطط كيفية رد الودائع لأصحابها وبين مفهوم الخسائر وتوزيعها.
ويصح القول في هذا الخلط أنه خبيثٌ لأن الحلول المطروحة، لا سيما “ليلرة” وتسنيد نحو 75% من الودائع الدولارية، تُجنّب المصارف ومصرف لبنان تحمل المسؤولية كاملة. تضع على عاتقهما بعض الخسائر غير الوازنة قياساً بثقل سوء الأمانة الذي اقترفاه بحق جيل كامل من اللبنانيين برعاية سياسية كاملة وفاسدة عن سابق اصرار وتصميم.
فالازمة ليست نتيجة إعصار من جموح عناصر الطبيعة ولا تسونامي أمر به إله البحر “بوسيدون” ولا هي نتاج حرب مدمرة. إنها من صنع البشر، وهؤلاء معروفون وأحياء يرزقون يعيشون بالرفاه والبنين، يقطنون القصور والبيوت الفاخرة ويتنقلون بالسيارات الفارهة بمواكبات أمنية، عامة وخاصة!
الفاعلون يملؤون الشاشات وصفحات الصحف وأثير الاذاعات وعناوين المواقع الاكترونية. يُطلون طلّات الأبطال المنقذين ليبشروا اللبنانيين بطعم حلول المن والسلوى بعدما أذاقوهم، ويذيقونهم يومياً، أزمات العلقم والحنظل.
بالعودة الى الوراء قليلاً، كان بنك “كريدي سويس” قدّر الثروات الشخصية الكبيرة والمتوسطة والصغيرة الصافية في لبنان بحوال 232 مليار دولار في 2019. “كريدي سويس” هو المرجع الأكثر موثوقية في تقدير احجام الثروات في العالم. يُعرّفها بالممتلكات العقارية وغير العقارية والودائع والاسهم والسندات والاموال النقدية في الصناديق محسوماً منها الديون المترتبة.
تغفل الحكومة أيضاً أن للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بذمتها 11 الف مليار ليرة بين سندات خزينة ومستحقات متأخرة، ولا تساوي هذه المبالغ الآن الا 7% من قيمتها بعدما هبطت الليرة فتدحرجت القيمة بالدولار من 7.3 مليارات دولار إلى 550 مليوناً فقط حالياً. تضاف اليها مستحقات للمقاولين والمستشفيات وجهات أخرى بنحو ملياري دولار، ولا تساوي الآن سوى 200 مليوناً
وفي تقييم حديث يقيس بعض تداعيات الأزمة، هناك مؤشرات دالة واقعياً على تراجع قيم الثروات والأصول (المالية والعقارية وغيرها) بمتوسط بين 70 و75%، إستناداً إلى هبوط قيمة الليرة اللبنانية أكثر من 90% وعجز ميزان المدفوعات بالدولار وإقفال و/أو إفلاس عشرات آلاف المؤسسات الاقتصادية.. والنتيجة المفجعة، هبوط الثروات الشخصية الصافية الباقية الى 63 مليار دولار فقط، اي من متوسط 21 الف دولار لكل شخص بالغ في 2018 الى 6 آلاف فقط.
ولزيادة التفسير والإيضاح، يكفي النظر الى مؤشرات نسبة الفقر الى السكان التي ارتفعت من 33% في 2018 الى نحو 80% حالياً وفقا لاحصاءات الأسكوا. اما الفقر المدقع (العيش بدولارين أو أقل يومياً) فقد ارتفع من 8% الى 39%.
تهمل الحكومة حساب خسارات الليرة وتركز على الدولار فقط. وللمثال، كانت قيمة الودائع بالليرة عشية الأزمة نحو 70 ألف مليار ليرة بقيمة 47 مليار دولار على سعر الصرف الثابت آنذاك (1507.5 ليرة للدولار). لم يبق منها حالياً الا مليارات قليلة جداً بعد خسارة العملة الوطنية اكثر من 90% من قيمتها وبعد سحوبات يسيرة للعيش بلا جوع كافر، بأمر من الحاكم بأمر المال رياض سلامة، وبعد تحويل جزء منها الى دولار بعد اندلاع الازمة طمعاً بالملاذ الآمن، فاذا بالحكومة اليوم تريد سدادها باقتطاع قسري نسبته 40 الى 50% على مدى 15 سنة تضمحل معها القيمة كالهباء المنثور بفعل التضخم.
ولا تتضمن الخسائر المعلنة أيضاً ما يتعلق بسندات اليوروبوندز الخاصة بالدين العام اللبناني والتي سعر الواحد منها اليوم نحو 10 سنتات فقط، باجمالي خسارة يصل إلى 34 مليار دولار. وبين حاملي هذه السندات مصارف لبنانية ومكتتبون لبنانيون بالاضافة الى أجانب. وخسارة الأجانب لا تعني ان لبنان لا يخسر، بل خسر أكثر من قيمتها من سمعته الائتمانية بعد التوقف غير المنظم عن السداد. وهو الآن ممنوع من ولوج اسواق المال الدولية، وموضوع في قوائم سوداء لها تكلفتها الباهظة على عودة النهوض المنتظر يوماً.
عاد الناتج اللبناني 17 سنة الى الوراء. ويحتاج الى مثلها ليعود الى ما كان عليه في 2019. أي أننا امام جيل كامل حكم عليه ساسته بالرضوخ وقبول الأمر الواقع، والا فالويل والثبور وعظائم الأمور اذا عاد يوما ليراوده حلم 17 تشرين
وتغفل الحكومة أيضاً أن للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بذمتها 11 الف مليار ليرة بين سندات خزينة ومستحقات متأخرة، ولا تساوي هذه المبالغ الآن الا 7% من قيمتها بعدما هبطت الليرة فتدحرجت القيمة بالدولار من 7.3 مليارات دولار إلى 550 مليوناً فقط حالياً. تضاف اليها مستحقات للمقاولين والمستشفيات وجهات أخرى بنحو ملياري دولار، ولا تساوي الآن سوى 200 مليوناً. وينعكس ذلك على اوضاع المستشفيات التي تشهد اقفالات وهجرة اطباء وممرضين ما دفع بمؤسسات الى الاقفال واخرى الى العمل بالحد الادنى. وعلى صعيد المقاولين يكفي النظر الى عزوفهم عن الاشتراك بالمناقصات التي تطرحها الدولة والى حال البنى التحتية المتردية يوما بعد يوم.
والى ذلك، تضاف كلفة تدني التعليم المتأثر بهبوط الليرة، فالسنوات المقبلة ستشهد خريجين بلا كفاءات والمهارات ستنقص أكثر مع هجرة كثيفة بدأت قبل سنتين ومستمرة سنوات طويلة مقبلة. فكلفة تدمير رأس المال البشري أكبر بكثير من كلفة هبوط الناتج. ولا يمكن للناتج ان ينمو في مجتمع يتحول الى مجتمع بؤس وشيخوخة.
وفي الحسابات الكلية، تتعين الإشارة الى هبوط الناتج من 55 مليار دولار الى 22 مليارا بخسارة 33 ملياراً، تتضمن خسارات مما سبق ذكره. والأخطر هو الضربة القاصمة التي تلقاها القطاع الخاص الذي شهد اقفالات بعشرات الالاف وتسريح عمالة حتى وصلت البطالة الكلية أو الجزئية الى 50% من السكان. عاد الناتج اللبناني 17 سنة الى الوراء. ويحتاج الى مثلها ليعود الى ما كان عليه في 2019. أي أننا امام جيل كامل حكم عليه ساسته بالرضوخ وقبول الأمر الواقع، والا فالويل والثبور وعظائم الأمور اذا عاد يوما ليراوده حلم 17 تشرين.