حينما قرر صدام حسين إحتلال الكويت في 17 تموز/ يوليو 1990، رفع الملايين علم الكويت في دولنا العربية والعالم. تعاطفنا حينما رأينا الإخوة الكويتيين يتحولون من مواطنين إعتُديَ على حدودهم من قبل دولة عربية أخرى، إلى جيران يسكنون بنايات في أحياء سكنية بمدن عربية خارج وطنهم. فكانت الألوان التي تُرفع آنئذٍ الأسود، الأحمر، الأخضر، تتوسطها مساحة بيضاء.
بالمقابل، أتذكر بكاء الكثيرين من العرب بمرارة، بعد أن شاهدوا لحظة إعدام الرئيس العراقي الأسبق في 30 كانون الأول/ ديسمبر 2006. وبالطبع طيلة السنوات السابقة على تلك اللحظة الكئيبة والتالية لها وحتى يومنا هذا، بعدما تعرض العراق للكثير من ثقيل المآسي والمحن، قام الملايين برفع ألوان علم العراق، الأسود والأحمر، تتوسطهما مساحة بيضاء، خالية إلا من عبارة “الله أكبر” باللون الأخضر.
دعونا نعود مرة أخرى إلى التسعينيات، حينما كان يعلن الكثيرون في أرجاء العالم الإسلامي تعاطفهم مع أهل البوسنة والهرسك، لمّا تعرضوا له من مآسٍ، خاصة في الفترة ما بين نيسان/ إبريل 1992 إلى كانون الأول/ ديسمبر 1995، على يد صرب يوغوسلافيا. كان الدعم هنا إنسانياً بشكل عام، وأممياً إسلامياً بشكل أكثر تحديداً. وكانت الألوان التي يُلوّح بها حينها، هي اللون الأزرق الذي يتداخل معه مثلث أصفر، يحده على أحد جوانبه صف من النجوم الخماسية البيضاء.
وتقدماً بالزمن ثانية، من حقبة التسعينيات إلى شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2021، تم تنظيم مسيرات في حي برج حمود، في العاصمة اللبنانية بيروت، رفع المشاركون فيها علم دولة أرمينيا، وعلم مقاطعة ناجورنو-كاراباخ. مواطنون لبنانيون من أصل أرميني، كانوا وراء المبادرة تعبيراً عن دعمهم لبني عرقهم إبان الحرب الآذرية-الأرمينية الأخيرة.الفارق بين علمي أرمينيا الدولة وأرتساخ الإقليم، ما هو إلا مساحات بيضاء مربعة، متراصة بشكل هندسي لتقطع ألوان العلم الأرميني، الأحمر، الأزرق والأصفر. وكانت الألوان في هذا النموذج تمثل هوية عرقية تاريخية، عوضاً عن هوية قومية.
وبشكل عام، نحن نرفع أعلام دول لم نولد فيها حين نريد أن نُعبّر عن تعاطف أو مساندة ودعم. وبالطبع نُلوّح بألوان دول ولدنا بها في كل مناسبة قومية، تظاهرية، رياضية أو حتى بدون مناسبة.
بعد هذه النماذج التي تبدو متناثرة غير مترابطة، ننتقل سوياً للحالة الأوكرانية الحالية. فقد أصبح من الصعب مؤخراً، مع توغل وتمدد العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، أن يتفادى واحدنا اللونين الأزرق والأصفر.
ظهر لونا العلم الأوكراني في مباريات كرة القدم على أرض الملاعب الأوروبية المختلفة. وفي مسيرات تنادي بوقف الحرب نظمت في يانج سيركل بمدينة هوليوود، في ولاية كاليفورنيا الأميركية.
قام كذلك موقع التوظيف الأميركي/الياباني (Indeed)، بإضافة اللون الأصفر ليغطي نصف شعاره الأزرق أصلاً، دعماً لأوكرانيا!
كما تمت إضاءة بوابة براندنبورج الشهيرة بمدينة برلين الألمانية، بألوان العلم الأوكراني. ذات الأمر تم تنفيذه على جدران بيت الحكم البريطاني 10 داوننج ستريت، الكولوسيوم بروما الإيطالية، محطة قطار فلندرز بمدينة ملبورن الاسترالية، قلعة براتيسلافا بسلوفاكيا، مبنى البرلمان الويلزي، قوس النصر وبرج ايفل بفرنسا، والقائمة تطول.
رفعت أيضاً أعلام صغيرة لأوكرانيا داخل الكونجرس الأميركي، أثناء خطاب حالة الإتحاد السنوي (State of the Union Address) الذي ألقاه الرئيس جو بايدن في الأول من آذار/ مارس 2022.
أسمع أحد القراء الآن يقول وقد أصابه العجب “كل هذه النماذج منطقية وقابلة للفهم”.
وهنا، أناقش منطقه باحترام قائلاً: هل كل هذه النماذج منطقية بالفعل، وقابلة للفهم حقاً؟
هل للفهم علاقة بهذه الأمور على الإطلاق؟ أم هي بالأحرى مشاعر تعاطف مع أوكرانيا، ومضادة أوتوماتيكياً لروسيا، يمكن للأكثر طيبة من بيننا تقديرها كمشاعر، من دون إدراك للواقع أو تقدير لأية مواقف ولا الخوض في أية تفاصيل؟
لندع مشاعر التعاطف ومن ورائها النوايا الطيبة جانباً ولو لدقائق، لنهرب من شِراك ألوان الأعلام، إلى كلمات من أصحاب عقول “غير رمزية” تحاول توصيف الواقع الحقيقي دون التلويح بألوان تموه الحقيقة فتعطل الفهم:
في اقتباسات مجمّعة من لقاء روبرت زوليك، مستشار وزارة الخارجية الأميركية تحت قيادة جيمس بيكر، نجده يروي كيف طُرح أمر توحيد ألمانيا وضمها لحلف الناتو مقابل الوعد بعدم تمدد نطاق الأخير نحو الشرق قائلاً:
“في شباط/ فبراير من عام 1990، ذهب جيمس بيكر إلى موسكو.. وطرح فرضية أمام (ميخائيل) جورباتشوف، قائلاً: هل تفضل أن يكون لديك ألمانيا موحدة، مستقلة وحيادية، وغير مرتبطة بالغرب، في قلب أوروبا. أم تفضل أن يكون لديك ألمانيا موحدة منضمة لحلف الناتو، مع ضمان عدم تقدم نطاق سيطرته بوصة واحدة للأمام؟. ما كان يحاول فعله هو أن يجبر جورباتشوف على مجابهة خيار صعب.. في نهاية الأمر يجب عليك أن تنظر للغة المعاهدة، وتنظر إلى الأساس الذي استند إليه جورباتشوف ليصل إلى قراره، لكن كما قلنا، سيقوم (فلاديمير) بوتين باستخدام كل وسائل الضغط التي يقدر عليها”.
نعوم تشومسكي، العالم اللغوي بمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا، والمحلل السياسي التاريخي، برغم تفادي وسائل إعلام التيار الرئيسي الأميركي له لأسباب مفهومة، يقول عن روسيا ورئيسها، خلال لقاء له مع القناة المستقلة “الديمقراطية الآن/ Democracy Now” في 2 آذار/مارس 2015:
“الحقيقة هي، مهما كان رأيك في بوتين، سهل الاستفزاز، رجل بوجه فأر، مصاب بمتلازمة أسبرجر، أو قل ما شئت، لدى الروس حيثيات حقيقية. وهذه الحيثيات مفهومة هنا، لعقول من يأبهون بالتفكير”.
ودون الخوض في تفاصيل أكبر سردها تشومسكي أثناء حديثه، نركز على مقالة هامة كتبها أحد أبرز أقلام مجلة “Foreign Affairs”، وهو جون ميرشايمر وقال فيها: “مقاومة بوتين لا يجب أن تمثل أية مفاجأة. في نهاية الأمر، كان الغرب يتحرك باستمرار نحو باحة روسيا الخلفية قائماً بتهديد مصالحها الاستراتيجية المحورية، وهي النقطة التي أثارها وشدد عليها بوتين بشكل متكرر. الصفوة بالولايات المتحدة وأوروبا صدموا من الأحداث، لأنهم ينتسبون لرؤية مغلوطة للسياسة الدولية. فهم ينزعون لتصديق أن منطق الواقعية لا يحمل أية صلة بالقرن الحادي والعشرين”.
عودة لتشومسكي، في لقاء نشر على موقع “Tuthout” المستقل، بتاريخ 4 شباط/ فبرير 2022، أي قبل أقل من ثلاثة أسابيع على بدء العمليات الروسية في أوكرانيا قال في سياقه:
“في ما يتعلق بمسألة نشر الأسلحة الهجومية على حدود روسيا، هناك إجابة مباشرة. يمكن لأوكرانيا أن يكون لها نفس وضع النمسا واثنين من الدول الاسكندنافية طوال فترة الحرب الباردة: محايدة، ولكن ترتبط بشكل وثيق بالغرب وآمنة إلى حد مقبول. جزء من الاتحاد الأوروبي إلى المدى الذي يختارونه”.
نزور عقل الكاتب الأميركي كريس هيدجز، صاحب كتاب “إمبراطورية الوهم/ Empire of Illusion”، لنقتبس بضعة سطور من مقالة كتبها بتاريخ 24 شباط/ فبراير 2022، عن الخط الزمني المختصر المؤدي لأزمة أوكرانيا، واضعاً اللوم على ألوان علم بلده ذاته، قائلاً:
“دولة الحرب تحتاج لأعداء لكي تديم وجودها. عندما لا يتاح العثور على عدو، يتم تصنيع عدو. تحول بوتين، وفق كلمات السيناتور أجنوس كنج، إلى هتلر الجديد، الساعي للاستحواذ على أوكرانيا وبقية شرق أوروبا. نداءات الحرب الصاخبة، التي تردد الصحافة صداها ببجاحة، يتم تسويغها عبر إفراغ الصراع من سياقه التاريخي. عبر رفع أنفسنا إلى مكانة المنقذين، ووصم أياً كان من يجابهنا، من صدام حسين إلى بوتين، بأنه القائد النازي الجديد”.
وخلال لقاء الكولونيل المتقاعد لورانس ويلكرسون، رئيس فريق الموظفين تحت أمرة كولن باول سابقاً، أجراه معه الصحفي الكندي-الأميركي بول جاي على قناته المستقلة “التحليل The Analysis” في 26 شباط/ فبراير 2022، قال الرجل ملقياً ألوان علم بلاده إلى مكان بعيد:
“كانت وكالة الاستخبارات المركزية CIA تمد هؤلاء النازيين الجدد في أوكرانيا بالعون والأسلحة والتدريب.. كما فعلوا في فنزويلا. في سوريا. في العراق. السي أي إيه لا يأبه إذا ما كنت من النازيين الجدد، سيقومون بتمويلك إذا ما كنت إلى جانبهم لبرهة أو برهتين. كانوا في الحقيقة يعملون مع القاعدة في سوريا.. هذه هي الطريقة الخسيسة التي نتبعها حول العالم اليوم”.
وإنهاءً لمسألة ألوان الأعلام، دعونا نختم بنبرة كوميدية ذات مغزى، على لسان كوميديان الستاند اب الأميركي الراحل، جورج كارلين في إحدى عروضه الكوميدية، متحدثاً عن شارات الجيش الأميركي الصفراء والعلم الأميركي، فقال عنها مستهزئاً: “I consider them to be symbols, and I leave symbols to the symbol-minded”.
“أعتبرهم رموزاً، وأنا أترك الرموز لأصحاب العقول الرمزية”.
تحياتي الرمزية.