أمي.. ما متِّ ومعك لن نموت

مهيبٌ ان تحيط الام بالكلمات، والأكثر رهبة ان تناجيها وهي المنتقلة الى السماء، وأمي التي ولدتني هي المُطلّة من علياء عاملة على سهول فلسطين. انها فلسطينية عربية تزَيَّن جسدها بالجراح ورفعت فوق رأسها ابنها الشهيد ووجهته نحو السماء.

لأمي التي اتحدت في جسد واحد مع الأم الفلسطينية اقول: ولد الحب مذ ولدتِ، وصار كالهواء، كالماء أنّا حللت، فهل مات الحب مذ رحلت؟

وحّدنا الموت، ضمنا الى صدرك، ابلغنا اعظم الاسرار، وجعلنا في قبرك واحدا بلا خيار، فما اصعب ان تطلع الشمس على غير جبينك، ما اصعب ان تنبت السنابل من غير ان تتساقط قمحا من راحتيك، ما اصعب ان يجري النهر قبل ان يغتسل عند قدميك، ما اصعب ان يستدير القمر فوق ضريحك، وكيف كيف لضياء الحب ان يستغرق في نومه الكبير بظلمة قبر؟..

كنتُ افتح عيناي لأراك، واستجمع كل تفاصيلك لأكنزها حيث لا تبرح المكان، صرت أغمض عيناي وأمشي في مسير الموت لعلّي اعثر عليك قبل انبلاج فجر.

أنّا كنتِ، في البيت دفئاً ونوراً، في الحقل خيراً ومواسم لا تبور، في السماء سحاباً ومُزناً، سيدةً في النساء تستمطرين الرحمات، أنّا كنت، في سرّ الله واسمه الاعظم، مخبوءً جبينك في التراب، وصدرك يصارع الرميم، اني أحبك..

في دروبنا اليك، يشهق الصمت، تنحني الاشجار، تركع الزهور، ويبكي السكون، نبحث عنك في الحقول فتخذلنا الروابي والسهول، ونرفع رؤوسنا الى فوق فلا طير ولا تباشير للرجوع، لقد اجدبت حقولنا وماتت طيورنا لانك رحلت.

امي؛

مذ غبت، ينام الموت اذا غفوتُ، ويصحو الموت اذا صحوتُ، لقد سقط المستحيل واقترب الموعد، وصرت ارى الحقيقة المطلقة قبرك الذي هو قبري، هوذا رسمك في انحائي، يمخر عباب شرايني، يفتح باب القلب بيدين من ثلج ونار، يا ألقاً وأرقاً وجمر انتظار.

بدايتنا معك لن تنتهي، فالمشوار طويل، وبرغم وصالنا مع الزمن، نكون معك أخلد وأرهف من دنيانا والزمان، وكيف لأنوارك التي تهدي وتقي العثرات، وتعيننا على اتخاذ القرار الحق، وترفعنا عنفوانا على النور لا يقهر، كيف لها ان تموت؟..

يا زهو الوجود، وابتسامة الحياة على مدى الزمان، واندثار الايام وغشاوات ووعر الطريق، هي أقدامك وطأت أديم الارض برفق وثبات، وهامتك والفؤاد تاقا دوما الى فوق، الى قباب السماوات، فكانت الارض مرتعك الزمني والسماء قبلتك الاسمى، وها قد وصلتي.

أمي؛

يا امرأةً خطّت قسمات وجهك يد الله، رسم الجمال على محياك ابتسامة وقار، ظلالك تحنو وتفيء هنا، وفوحك والاريج يملآن الهنا والهناك، فجميعنا راحلون من غربتنا المقلقة، الى الاسمى والابقى حيث انت في الهناك في فيض حنانك، وسأعود يوما الطفل الذي يؤوب اليك، يتكوّر في حضنك يشمّ رائحة الجنة وأريج الله..

أمي؛

افتحِ عينيك، لقد رأيت الله، ليس في المعبد المغلقة نوافذه، بل هناك حيث خبأتُك في المحراب الخفي من قلبك، يا من تجسّدت بك الحياة بأناقتها وروائعها والجمال، فبايعك الخلود، لذا، ما متِّ ومعك لن نموت.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  معركة غزة.. الحرب وفن القيادة
داود رمال

صحافي لبناني

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  لبنان واللجوء السوري.. أزمةٌ مُقيمةٌ ومستقبلٌ واحدٌ!