لا حاجة للإطالة والإسهاب، حول “الرجل المريض”، وهو التوصيف الأكثر شهرة الذي سقط على السلطنة العثمانية منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى الحرب العالمية الأولى، فآنذك، كانت النخبة العربية على قناعة كاملة بأن السلطنة دخلت طور الإحتضار، وما استمرارها إلا نتيجة للخلافات التي تعصف بطموحات الدول الكبرى وكيفية وراثة إمبراطورية مترامية الأطراف، فعدم الإتفاق والتوافق الدوليين على تقاسم الإرث العثماني، أعطى للسلطنة عمراً إضافياً وعقوداً زائدة من الحياة والبقاء.
في تلك المرحلة، برزت الجمعيات العربية السرية والعلنية، فطالب بعضها باللامركزية ضمن السلطنة العثمانية وبعضها الآخر بالإستقلال التام، وبعد إخفاق مفاعيل الدستور العثماني في عام 1908 وما أعقبه من إتجاه نحو التتريك الكثيف الذي قابله سعي حثيث لإحياء لغة الضاد، راحت النخب العربية تعقد الآمال السياسية والوطنية على دول كبرى، فيمّم جانب منها شطر وجهه نحو فرنسا، وجانب آخر نحو إنكلترا، ولم يخلُ أمر الجانب الثالث من الرهان على روسيا، ولو كان ضئيلاً.
وحين انعقد “المؤتمر العربي الأول” في باريس عام 1913، لم تكن المظلة الفرنسية غائبة عن رعاية المؤتمرين الذين أحسنوا الظن بما وصلهم من خطابات وشعارات أنتجتها الثورة الفرنسية عام 1789، وما أن حلّت معالم هزيمة العثمانيين عام 1917، حتى كانت اتفاقية “سايكس بيكو” تضرب أطنابها في المشرق العربي، مضافا إليها “وعد بلفور” القائم على مزيفات تاريخية أدت لاحقاً إلى اقتلاع شعب كامل من أرضه وجذوره، ومع ذلك، بقي الرهان العربي بإقامة دولة مستقلة بقيادة الشريف الحسين بن علي، فتكاتفت انكلترا وفرنسا على نفيه، ولما تم إعلان المملكة العربية عام 1918، بقيادة فيصل بن الحسين، أتاحت إنكلترة لفرنسا إطاحة الملك والمملكة، فكانت معركة ميسلون في الرابع والعشرين من تموز/ يوليو 1920 الذي سقط فيها الحلم العربي شهيداً.
الرهان العربي المستجد نحو الغرب أو روسيا، ومهما كان لونه وانزياحه، لن يخرج عن كونه استدعاء جديداً لرهانات خاسرة، فهزيمة الغرب أو انتصاره في أوكرانيا لن يبعد الكأس المرة التي اعتاد الغرب على تقديمها للعرب، وإخفاق روسيا أو نجاحها في أوكرانيا، لن يجعلها إلا نسخة مكررة عن الإتحاد السوفياتي
من يقرأ مذكرات قادة الثورة العربية الكبرى، من مثل عارف العارف وصبحي العمري، وأحمد قدري وعوني عبد الهادي ومحب الدين الخطيب، ورستم حيدر وصلاح الدين الصباغ وأحمد رضا وسليمان الظاهر وساطع الحصري واحمد مريود وغيرهم، يصل إلى نتيجة مؤداها أن حروف المذكرات ليست إلا نتاجاً لمرارات الرهان على العواصم الكبرى.
الرهان العربي الثاني، تأطرت عناصره إثر الحرب العالمية الثانية وانقسام العالم بين شرق وغرب، ومع أن بعض العرب كان رهانهم على ألمانيا النازية خلال سنوات الحرب الثانية، فهذا الرهان ذهب أدراج الأوهام مع هزيمة ادولف هتلر، ولم يبق بعد الحرب سوى الإنزياح نحو حلف “الناتو” أو الإنحياز نحو حلف “وارسو”، وإذ اشتدت حبال الإستقطاب بين الحلفين خلال عقود “الحرب الباردة”، فانعكس ذلك صراعات عربية ـ عربية لم يلتئم بعضها حتى هذه اللحظة، والمدهش في الأمر، أن القضية الفلسطينية التي اتفق العرب على مركزيتها وأولويتها، لم يعرها، لا الشرق ولا الغرب، اهتماماً، فقد تلاقى الغربيون والشرقيون على ضرورة ضمانة أمن إسرائيل وحراسة احتلالها، وحيال ذلك لا بد من طرح هذا السؤال: ماذا جنى العرب الذين تغربوا في مرحلة “الحرب الباردة”، وماذا كسب العرب الذي تشرقوا خلال الحرب المذكورة؟
هنا يمكن القول، إذا كانت الدولة العربية الأولى قد سقطت في عام 1920 ضحية النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الأولى، فإن فلسطين هي ضحية النظام الدولي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية.
إن ما سبق قوله، يفرض الحديث عن النظام الدولي في هذه المرحلة بالذات، ذلك أن كثرة عربية تذهب إلى القول بأن نظاماً دولياً قائماً على التعددية القطبية، من شأنه أن ينتج توازناً عالمياً يستفيد منه العرب ويصب في صالحهم، وهذا بحد ذاته يثير النقاش بإتجاه مسألتين بالغتي الأهمية، وهما:
أولاً؛ إن النظامين الدوليين القائمين على التعدد القطبي واللذين عرفهما العالم في القرن العشرين، لم يجن منهما العرب مصلحة ولا فائدة، بل إن العرب كانوا ضحية هذين النظامين.
ثانياً؛ هل يمكن للنظام الدولي المتعدد الأقطاب أن يمنع الحروب بين الأمم والملل ويحول دونها؟
هذا السؤال يعيد عقارب الزمن إلى ما قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية، ووفق المضمون التالي:
قبل الحرب العالمية الأولى، كان ثمة تعددية قطبية مؤلفة من الدول ـ الإمبراطوريات التالية: إنكلترة، فرنسا، ألمانيا، روسيا، اليابان، تركيا، وإمبرطورية النمسا ـ المجر.
هذه التعددية الإمبراطورية السباعية، لم تقف حائلاً ولا عائقاً دون اندلاع أقوى الحروب وأكثرها عنفاً وهولاً وقتلاً حتى تاريخه، وقد شملت معظم بقاع الأرض، وأفضت بالنتيجة إلى قيام نظام عالمي جديد، أوضح ما عبرت عنه “عصبة الأمم” التي عكست “التعدد” القطبي بعد الحرب.
ذاك “التعدد”، وكانت رؤوسه موزعة بين روسيا السوفياتية وإنكلترا وفرنسا والولايات المتحدة واليابان، لم يعمّر أكثر من عقدين من الزمن، فالحلم الإمبراطوري لدى ألمانيا عاد وأطل برأسه من جديد تحت ثلاث رايات: تفوق العنصر الألماني، “الرايخ” والمجال الحيوي. ولم تكن اليابان بعيدة عن الرايات الألمانية إنما بنزعة أسيوية، وهكذا ذهب العالم مرة أخرى إلى طاحونة الحروب والقتل المليوني، وبدت الأرض في الحرب العالمية الثانية مقبرة للموتى ليس إلا، ولم تضع تلك الحرب أوزارها إلا بعد انتحار هتلر واحتراق اليابان بقنبلتين نوويتين، كانتا كافيتين لنزول الإمبراطور الياباني هيروهيتو (1901 ـ 1989) من عليائه الإلهية إلى بشريته الأرضية.
لم يُكتب النجاح العملي والكلي لفكرة عدم الإنحياز في الخمسينيات، لكنها كانت فكرة ذهبية رائدة تؤسس لعدم الإرتباط مع الأقطاب ولا مع قطب ولا مع تعددية قطبية ولا مع نظام عالمي متعدد أو آحادي
ما المقصود من ذلك؟
المقصود، أن التعددية القطبية ليست شرطاً للسلام العالمي، ولا يشكل التعدد القطبي مدخلاً للوئام والتآلف بين الشعوب والأمم أو بين الملل والنحل كما قالت العرب قديماً، فالتعددية القطبية لا تعدو كونها توازناً وتقاسماً للمصالح بين الأقطاب الأقوياء وإعترافاً متبادلاً بأدوار كل منهم دون سواهم.
انطلاقاً مما تقدم قوله، فالرهان العربي المستجد نحو الغرب أو روسيا، ومهما كان لونه وانزياحه، لن يخرج عن كونه استدعاء جديداً لرهانات خاسرة، فهزيمة الغرب أو انتصاره في أوكرانيا لن يبعد الكأس المرة التي اعتاد الغرب على تقديمها للعرب، وإخفاق روسيا أو نجاحها في أوكرانيا، لن يجعلها إلا نسخة مكررة عن الإتحاد السوفياتي، وفي كتابات محمد حسنين هيكل ما يفيد وما يفيض من مأساة العلاقة بين موسكو والرئيس جمال عبد الناصر.
هل ثمة من يتذكر عبد الناصر وحركة “عدم الإنحياز”؟
في عام 1955 انعقد مؤتمر “باندونغ” بدعوة من الثلاثي الرئاسي جمال عبد الناصر (مصر) وجواهر لال نهرو (الهند) وجوزيب بروز تيتو (يوغوسلافيا)، ومن اتجاهات هذا المؤتمر نضجت فكرة “عدم الإنحياز” لأي من المحاور الدولية، لا المحور الشرقي ولا المحور الغربي، كان ثمة من يبحث عن طريق ثالث يجمع دولاً وشعوباً لا يأخذها الأقطاب الكبار بجريرة صراعاتهم وحروبهم ومصالحهم، ذاك الطريق كانت فكرته قائمة على مقولة: لكم مصالحكم ومصائركم، ولنا مصالحنا ومصائرنا.
لم يُكتب النجاح العملي والكلي لفكرة عدم الإنحياز في الخمسينيات، لكنها كانت فكرة ذهبية رائدة تؤسس لعدم الإرتباط مع الأقطاب ولا مع قطب ولا مع تعددية قطبية ولا مع نظام عالمي متعدد أو آحادي.
هل يمكن إحياء هذه الفكرة؟
هل يمكن أن يكون العرب غير منحازين؟ فيعثرون على ذواتهم بعدم الإنحياز؟ وهل يمكن أن تتشكل كتلة غير منحازة قوامها العرب وتركيا وإيران؟
هي فكرة، قد تكون حلماً، ولكن عبد الناصر ونهرو وتيتو ما كانوا يحلمون.