أجراس الأزمة الأوكرانية.. هل تُوقظ اليسار الأردني؟

تغيّر العالم منذ ما يزيد على الثلاثين عاماً، وما زالت الأحزاب اليسارية والقومية والشيوعية في الأردن تُردّد أناشيدها وشعاراتها التي ورثتها عن الآباء. وكما مرّ قطار التجدد على الرفاق في كل العالم، مرّ من جانبها ولم تره أو تتنبه إليه. تشي مرحلة ما بعد الأزمة الأوكرانية بأن عليها أن تنهض وتبدأ العمل.

إن سألنا، كيف نشأت هذه الأحزاب؛ فإن الإجابة هي أنها نشأت على وقع الأحلام والشعارات الكبرى. أحلام وشعارات تحرير فلسطين والوحدة العربية. لكن على ما يبدو، وهذا ما لا يمكن الجزم به تماماً، أنها لم تكن مؤسسة على الوعي التام، إذ ثمة معضلة تطال أحزاب الأردن، من يسارية وشيوعية وحتى إسلامية، أنها تفتقر إلى قوام أردني خالص، ذلك أنها تتصل بحبل سُريّ بالخارج دائماً، وهنا تكمن المعضلة.

تشكلت معظم الأحزاب اليسارية والشيوعية الأردنية في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وإستمدت برامجها وأفكارها من الخارج، كلٌ حسب المنظومة الداعمة له، وهذا الواقع لم يكن ليُشكل، حينذاك، كارثة أو تهمة، إذ كان أغلبية العرب مسكونين بهاجس الوحدة العربية التي تُبعث في النفوس كلما تقارب بلدان عربيان من بعضهما، أو حتى إذا تمكن بلد عربي من ضم آخر إليه، ولو بالقوة.

وألقت الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، بظلالها على الأردن، فوجد نظامه نفسه أقرب إلى الولايات المتحدة، مثلما وجد في التنظيمات اليسارية والقومية عدواً لدوداً له، مما إستوجب فرض الأحكام العرفية، وفي المقابل، السماح للإخوان المسلمين بالعمل بهدف عزل اليساريين عن قاعدتهم الاجتماعية.

استمرت تلك السنوات العجاف على وقع تقارب النظام الأردني مع الإخوان المسلمين، ولم يأت العام 1990، غداة هبة نيسان/ أبريل التي قضت على الأحكام العرفية إلا وكانت الأحزاب اليسارية والقومية والشيوعية قد انهكها القيد. حينها كانت الأحزاب اليسارية والشيوعية في العالم تُراجع آليات عملها وتُعيد صياغة خطابها غداة انهيار المنظومة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفييتي.

بقيت الأحزاب اليسارية والشيوعية في الأردن على حالها، مع مطلع الألفية الجديدة، لكن بفارق تغيّر الظرف الداخلي أيضاً، ما أتاح لها فرصة أن تصبح هي المقربة من النظام، إلا أن خطابها الذي لم يتغير (المقصود به الخطاب الذي ما زال يرى في النظام عدواً) بقي حاجزاً بينها وبين نهوضها من جديد، كما أنها – وقد يكون ذلك أسعد النظام – احتفظت بقيود الأحكام العرفية ولم تناضل كي تقترب من فئات الشعب، حتى لو تطلب الأمر دفع الأثمان، فما قيمة الحزب بلا أهل البلد؟

إنها دعوة إلى إعادة صياغة خطاب يساري أردني متصالح مع البلد بصورتها التي استقرت عليها، والاستمرار في مطالب الإصلاح والعمل لأجلها بين الناس وليس من وراء المكاتب، وعدم الانسياق وراء كذبة أن “الإخوان المسلمين” كانوا يوماً ما، سواء في القرن الماضي أم في يومنا هذا، حزب معارضة

أيضاً لا يمكن إنكار أن الدولة الأردنية قد تضع العراقيل أمام الأحزاب اليسارية في حال سعت الاخيرة إلى تجديد خطابها والعمل بين الناس، لكن ألا يستحق تجديد الخطاب قدراً من النضال والعمل والمبادرة، وأيضاً ألم يخلق الظرف الحالي فجوات للأحزاب اليسارية الأردنية تُمكنها من تحقيق غاياتها بأقل الكلف؟

الطلاق البائن

في مطلع الألفية الحالية، بدأت ملامح الفتور بين الإخوان المسلمين والنظام الأردني تلوح. حينها بدأ التفكك يتسرب إلى الاسلاميين في الأردن، ويبدو أن ذلك حصل عندما التقط النظام الأردني أن الولايات المتحدة والغرب بدأوا بإعداد عدة الاسلام السياسي للمرحلة الآتية.

ولعل المُتتبع لمراحل العلاقة بين الاخوان والنظام في السنوات العشرين الماضية، يستخلص أنها بدأت بالفتور عام 2015، عندما تم الإعلان أن “الجماعة” في الأردن “غير مرخصة”، وبالتالي تم تأسيس جماعة أخرى مرخصة، لكن هذا غير حقيقي، لأن الفتور كان بدأ قبل ذلك بكثير.

هذا التاريخ هو الذروة لا بل الصفعة التي تلقاها الإخوان المسلمون الذين أخذتهم نشوة نصر “الجماعة” في مصر، وكانوا أبسط من أن ينتظروا ما يجري على الأرض السورية، إذ تملّكَهم غرورُ السلطة ولحظتها التاريخية الآتية حتماً وأنه لا بد من إنتزاع دور سياسي أكبر في الأردن!

لكن “من استعجل الشيء قبل أوانه، عوقب بحرمانه”، ولعل غالبية قادة الإخوان في الأردن قد سمعوا بهذه القاعدة الفقهية، غير أنهم أغفلوها، لكن النظام أدرك نواياهم، وعندما انهار خيار الإسلام السياسي خلال الأزمة السورية، وتحديداً في العام 2013، غداة سقوط مشروع “الاخوان” في مصر، سعت كل دولة في المنطقة لتطويق الإخوان المسلمين على طريقتها.

الأردن بطبيعته، استكمل حالة التطويق التي تنبه لها منذ العام 2000، والقى ورقة أن الجماعة “غير مرخصة”، إذ أن “جمعية الإخوان المسلمين” تأسست في الأردن عام 1946 بقرار صادر عن مجلس الوزراء، وفي العام 1953 صدر قرار حكومي باستبدال كلمة “جمعية” بكلمة “جماعة” ليصبح اسمهم “جماعة الاخوان المسلمين”، وفي العام 1966 صدر قانون الجمعيات الأردني، وبموجبه طلبت الحكومة من الأندية والجمعيات تصويب أوضاعها وفق القانون، لكن ذلك لم يشمل “جماعة الاخوان” في حينه، إذ أنها كانت قريبة من النظام، لا بل كانت “أحد أركانه”، على حد وصف بعض المحللين الأردنيين. لكن مع حلول العام 2015 تم استخدام هذه الورقة في مواجهة جماعة الإخوان.

في تلك الأثناء، كان اليساريون غائبين عن الشارع في لحظة لم تحمل في طيّاتها ملامح فتور متجدد بين النظام والإخوان، بل ما يُشبه الطلاق البائن، وثمة فئة من الأعداء المشتركين سواء للدولة الأردنية أو الأحزاب اليسارية، إنبرت في تلك اللحظة. إنها ما تسمى “الثورات الملونة” التي تقوم على أكتاف الـ(NGO’S)، أما هدف الولايات المتحدة والغرب فهو خيار الاسلام السياسي.

إقرأ على موقع 180  صدّام والقذافي.. سيرةُ عداوة ثورية!  

تفشي ظاهرة الـ (NGO’S)!

بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، شهد الاردن تراجعاً للعمل الحزبي، لصالح تفشي ظاهرة الـ(NGO’S) كما الفطر في المجتمع، كما أن خطورة هذه المنظمات يكمن في أن الأموال التي تضخ في المجتمعات الفقيرة، تصبح هي حصان طروادة لأفكار وقيم تبدو مثالية وجميلة مثل الديمقراطية والحرية، بما توفر من مسارب تقوم بالدرجة الأولى على تغييب دور الدولة لمصلحة هذه المنظمات التي تستمد ولاءها لمن يدفع لها!

ولكأن مجتمعاتنا كانت بحاجة لما يسمى “الربيع العربي”، حتى ندرك أن الديمقراطية أو الحرية لا تعني شيئاً بلا مشروع تحرر وطني يخص الدولة بمعزل عن الهيمنة الأميركية، فما قيمة الديمقراطية والحرية بالنكهة الأميركية، وهي التي تصادر حق أي دولة أخرى أو شخص بالاختلاف عنها!

لقد حملت فئة الشباب المتحمسة للحرية الفضفاضة هذا “الربيع العربي” على أكتافها، وبدأت الولايات المتحدة، تُوجه فوهات بنادقها للدولة التي تريد، ولأن الغاز هو عنوان الحروب التي نشبت في مطلع القرن الحالي، بدأ “الربيع العربي” من تونس أولاً، مصر وليبيا ثانياً، ومن ثم سوريا، وكأنه يخط طريقه على وقع خرائط الغرب الغازية لتطويق الدب الروسي، الذي يُعدُ الغاز والنفط أحد أبرز عناصر قُوّته.

لعل الفكرة اليتيمة التي تيقظت لها الأحزاب اليسارية الأردنية هو “الربيع العربي”، عندما بلغت نيرانه سوريا وليبيا. قبلها كانوا يرقصون مُهللين بلا وعي أمام أبواب السفارتين التونسية والمصرية في عمان. ذلك التصرف قد لا يُعدُّ عيباً، لكن المعيب هو إساءة توصيف الحالة، فلا تتحرك بين الناس ولا تسعى إلى تغيير خطابك السياسي ولا تُعد قراءة علاقتك بالنظام سواء في مواجهة ظاهرة الإسلام السياسي أم دفاعاً عن موقع سوريا القومي.

على الأحزاب اليسارية في الأردن أن تدرك أن الخطاب السياسي للخمسينيات والستينيات المنقضية، ربما كان يناسب مرحلة ما تبدّى خلالها للكثير من تلك الأحزاب أن الأردن مجرد كيان وظيفي، وكان نضالها يقوم على أساس هذه الفكرة، لكن الأردن في تلك المرحلة يختلف تماماً عنه في هذه الأيام والسنوات

الخطاب الحجري!

يقتضي ذلك مصارحة. نعم، على الأحزاب اليسارية في الأردن أن تدرك أن الخطاب السياسي للخمسينيات والستينيات المنقضية، ربما كان يناسب مرحلة ما تبدى خلالها للكثير من تلك الأحزاب أن الأردن مجرد كيان وظيفي، وكان نضالها يقوم على أساس هذه الفكرة، لكن الأردن في تلك المرحلة يختلف تماماً عنه في هذه الأيام والسنوات، وعلى اليساريين الذين يعتبرون أنفسهم جزءاً من خطاب المقاومة في المنطقة أن يتذكروا جيداً خطابات السيد حسن نصرالله التي تطرق فيها إلى الواقع الأردني، وخلاصتها “أن تيار المقاومة يدرك أن الأردن ليس صديقاً، لكنهم يرضون بموقفه المتمثل بأنه ليس عدواً”، وبالتالي على الأحزاب اليسارية في الأردن الإجابة على أسئلة عدة قبل صياغة خطابها الجديد، ومن بينها “لماذا كان للأردن مساهمة في حفظ استقرار الجنوب السوري، برغم تجاوبه مع حلفائه (أعداء سوريا) في ملفات عديدة بداية الأزمة”؟ و”كيف يمكنهم توصيف التعاون الأردني الروسي في الأزمة السورية”؟ و”كيف يقرأون حالة التنافر بين الإخوان المسلمين وبين الدولة”؟ و”كيف يقرأون سعي الأردن للحيادية في ملفات صِدامية عديدة بين الولايات المتحدة وروسيا”(للمناسبة، لم تكن الأزمة الأوكرانية أول الملفات الخلافية التي اختار الأردن فيها الصمت الذي رأته روسيا “ايجابياً” بالنسبة إليها)؟

ومن الأسئلة التي يجب أن تُسأل “ما مدى خطورة الـ(NGO’S) على النظام الأردني كما على أمن البلد”؟ وغالبية الأحزاب تفهم ذلك لكنها لا تعمل على بلورة مفاهيم تناهض مفاهيم الـ(NGO’S). وكيف يمكن إنتاج مفاهيم مناهضة لقيم الـ(NGO’S) قد تعد إحدى الفجوات التي يمكن أن تُثبت لهذه الأحزاب أركانها من جديد لا سيما بين الناس؟ وألا تعلم هذه الأحزاب أن أوكرانيا مالت للغرب عبر كمين الثورات الملونة التي تعد الـ (NGO’S) في عالمنا العربي حصان طروادة لها، وإذا أرادت هذه الاحزاب اليسارية تقديم العون لروسيا، ولوطنها الأردن، ألا يتطلب ذلك مجابهة مفردات الـ(NGO’S)؟

في الختام، لا يجب أن يُفهم من أي إشارة إلى التقارب مع النظام الأردني أنها دعوة إلى الصمت في قضايا الإصلاح السياسي والإجتماعي. إنها دعوة إلى إعادة صياغة خطاب متصالح مع البلد بصورتها التي استقرت عليها، والاستمرار في مطالب الإصلاح والعمل لأجلها بين الناس وليس من وراء المكاتب، وعدم الانسياق وراء كذبة أن “الإخوان المسلمين” كانوا يوماً ما، سواء في القرن الماضي أم في يومنا هذا، حزب معارضة. إنهم مجرد أداة إمبريالية لكن بصبغة إسلامية.

Print Friendly, PDF & Email
رانية الجعبري

صحافية وقاصة من الأردن

Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  ترف الخطأ والحروب.. Made in USA