منذ خلف بوريس يلتسين كرئيس لروسيا الاتحادية فى ٢٠٠٠ (بعد فترة رئاسة مؤقتة امتدت بين نهاية ١٩٩٩ وربيع ٢٠٠٠)، وبوتين الذى دأب على وصف انهيار الاتحاد السوفييتى كـ«كارثة القرن العشرين الأصعب” يعمل على ربط أطراف روسيا المترامية بالمركز فى موسكو ومقاومة النزعات الانفصالية التى تنامت فى التسعينيات، وعلى رفع معدلات التنمية الاقتصادية والاجتماعية ومستويات الدخل لشعبه التى تراجعت بشدة أيضًا فى التسعينيات، وعلى تحقيق الاستقرار السياسى الذى غاب فى السنوات الأخيرة من عمر الاتحاد السوفييتى، ومكافحة فساد النخبة الحاكمة الذى استشرى أثناء فترة رئاسة يلتسين (١٩٩١-١٩٩٩) حتى وإن كان ذلك على حساب حريات المواطنات والمواطنين ونظير التخلى عن التداول الديمقراطى للسلطة. وليست سياسات بوتين الداخلية هذه ببعيدة عما كان عليه جدول أولويات السياسات السوفييتية التى نجحت فى مهام الاستقرار السياسى والتنمية الشاملة والحفاظ على وحدة البلد الكبير إلى أن تعثرت وتراجعت فى سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين وكتبت نهايتها فى مطلع التسعينيات.
أما فى مجالات السياسة الخارجية، فقد تلت رئاسة بوتين سنوات الرئيس الأخير للاتحاد السوفييتى ميخائيل جورباتشوف (١٩٨٥-١٩٩١) وسنوات يلتسين التى اتسمت بقبول الهيمنة العالمية للولايات المتحدة ومهادنة الغرب الأمريكى والأوروبى على النحو الذى حمل جورباتشوف على تأييد التدخل العسكرى الأمريكى ضد العراق فى حرب تحرير الكويت (١٩٩٠-١٩٩١) ورتب صمت يلتسين على الاقتراب التدريجى لحلف الناتو من الحدود الروسية وعلى التورط العسكرى للحلف فى الحروب الأهلية فى يوغسلافيا السابقة. على النقيض من ممارسات الاستسلام للهيمنة الأمريكية والتسليم بالتبعية للغرب التى وسمت التسعينيات الروسية، يستهدف بوتين ومنذ توليه منصب الرئاسة إعادة الاعتبار لبلاده كقوة عظمى ذات مصالح أمنية وعسكرية واقتصادية وتجارية فى جوارها المباشر وفى العالم يتعين على القوى العظمى الأخرى أخذها فى الحسبان وعدم تجاهلها.
يترجم هذا الهدف العريض إلى مجموعة من السياسات أبرزها الآتي:
١) إيقاف توسع حلف الناتو فى القارة الأوروبية وآسيا الوسطى والحيلولة دون تطويقه لحدود روسيا من جميع الجهات.
٢) فرض النفوذ العسكرى والاقتصادى الروسى فى الجوار المباشر استجابة لمقتضيات الأمن القومى وحماية للأقليات العرقية الروسية التى تعيش فى بعض جمهوريات الشرق الأوروبى وآسيا الوسطى منذ عقود طويلة.
٣) إعادة صياغة العلاقة مع الولايات المتحدة والقوى الأوروبية تحديدًا ألمانيا وبريطانيا وفرنسا على أساس من الندية التى تراها موسكو تلزم واشنطن بالابتعاد عن الشئون الداخلية لروسيا والامتناع عن تهديد أمنها القومى، وتلزم برلين ولندن وباريس باحترام المصالح الروسية فى القارة العجوز وبناء روابط الاعتماد المتبادل التى تتحرك من خلالها الطاقة من سيبيريا والأورال إلى بقية القارة وتصل فيها التكنولوجيات المتقدمة عبر الشركات الأوروبية إلى روسيا لتطوير اقتصادها ونظمها المالية والإدارية.
تنشط الدبلوماسية الروسية لدعم الحلفاء التقليديين فى إيران وسوريا والجزائر عسكريا وأمنيا فى بيئات داخلية (الصراع الأهلى السورى مثالا) وإقليمية (صراعات إيران فى جوارها العربى والتوترات المستمرة بين الجزائر والجار المغربي) معقدة وتستهدف من ذلك حماية حلفائها ومد شبكات نفوذها لمناوئة السياسات الأمريكية والأوروبية فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
٤) تقوية العلاقات الشاملة مع الصين والهند والقوى الإقليمية الكبيرة فى الجنوب العالمى كالبرازيل وجنوب إفريقيا ومصر وإثيوبيا، ومع الحلفاء التقليديين كروسيا البيضاء وكوريا الشمالية وفيتنام وإيران وسوريا والجزائر وكوبا، وتوظيفها فى مواجهة الغرب وضغوطه المستمرة ولبناء المكانة العالمية لروسيا كالقوة العظمى التى تُعدّ وريث الاتحاد السوفييتى السابق وتبحث عن الإفادة من الماضى الإيجابى للسياسات السوفييتية التى ساندت حركات التحرر الوطنى عالميا، وساعدت جهود التنمية فى قارات آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وحالت مرارًا كقوة ذات قدرات نووية وتسليحية هائلة ومناوئة للغرب دون تورط الأمريكيين والأوروبيين خارج بلادهم فى حروب وصراعات عسكرية على الهيمنة والنفوذ والموارد الحيوية، وهى الحروب والصراعات التى اشتعلت فى التسعينيات بعد انهيار الاتحاد السوفييتى السابق وانفراد الولايات المتحدة بين ١٩٩١ و٢٠٠٣ بالقيادة العالمية كقوة عظمى وحيدة لم تجد من ينافسها حتى تورطت فى كارثة غزو العراق، واستنزفت طاقاتها المادية والبشرية وشرعت الصين من جهة وروسيا من جهة أخرى فى تحديها وبعض البلدان الأوروبية فى الابتعاد عن مغامراتها العسكرية.
***
ذلك تحديدًا هو السياق الاستراتيجى الذى تصنع فيه راهنا السياسة الخارجية الروسية تجاه الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، والتى تتشابه إلى حد بعيد مع السياسات التى باشرها الاتحاد السوفييتى السابق. بين خمسينيات وثمانينيات القرن العشرين. نشطت الدبلوماسية السوفييتية لمنع قيام الأحلاف العسكرية المدعومة أمريكيا وأوروبيا فى المنطقة وساندت قوى التحرر الوطنى وعدم الانحياز فى مواجهة محاولات كحلف بغداد والمساعى المتكررة لنشر قوات غربية فى الشرق الأوسط (تحديدًا فى إيران والعراق والأردن ولبنان خلال الخمسينيات والستينيات، وبعد أن كانت تركيا قد انضمت إلى حلف الناتو ووضعت على أراضيها قوات وأسلحة أمريكية وأوروبية، وذلك لكى يستكمل الغرب فى زمن الحرب الباردة تطويق السوفييت فى خاصرتهم الجنوبية). قادت مصر معركة رفض الأحلاف العسكرية وأسقطت حلف بغداد وشاركت بفاعلية مع الهند ويوغسلافيا السابقة فى بلورة حركة عدم الانحياز، وواجهت بسبب ذلك تعنتًا صارخًا من الأمريكيين والأوروبيين الذين رفضوا بيع السلاح لها، بينما كانوا يقدمونه لإسرائيل دون توقف بعد حرب ١٩٤٨، ووقفوا حائلًا دون حصولها على مساعدات اقتصادية ومالية من المؤسسات الدولية (كالبنك الدولى).
هنا تدخل الاتحاد السوفييتى السابق لمساندة مصر، فنفذت فى ١٩٥٥ صفقة الأسلحة التشيكية التى حصلت من خلالها القاهرة بموافقة موسكو على أسلحة سوفيتية متقدمة ثم وافقت موسكو، بعد سحب البنك الدولى لعرض تمويل مشروع السد العالى وتأميم الرئيس المصرى الأسبق جمال عبد الناصر لقناة السويس وفشل العدوان الثلاثى البريطانى الفرنسى الإسرائيلى على مصر، على تقديم المساعدة المالية والفنية لبناء السد الذى صار رمزًا للتحرر الوطنى ولخطط التنمية الطموحة. كرر السوفييت ذات السياسات بين خمسينيات وثمانينيات القرن العشرين تجاه بلدان أخرى فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أبرزها سوريا والعراق والجزائر واليمن حصلت جميعها على دعم عسكرى وتنموى وساندتها موسكو لمواجهة ضغوط واشنطن والعواصم الأوروبية بغية ضمها إلى الأحلاف الغربية والتورط فى سياسات تطويق واحتواء الاتحاد السوفييتى. وكانت مساعدات موسكو البوابة الواسعة لدخولها إلى المنطقة كقوة عظمى، ولتنامى نفوذها الاستراتيجى والسياسى فى مواجهة الغريم الأمريكى، ولتثبيت صورتها فى عموم الجنوب العالمى كداعمة للتحرر الوطنى والتنمية.
***
اليوم، تنشط الدبلوماسية الروسية لدعم الحلفاء التقليديين فى إيران وسوريا والجزائر عسكريا وأمنيا فى بيئات داخلية (الصراع الأهلى السورى مثالا) وإقليمية (صراعات إيران الكثيرة فى جوارها العربى والتوترات المستمرة بين الجزائر والجار المغربي) معقدة وتستهدف من وراء ذلك حماية حلفائها ومد شبكات نفوذها لمناوئة السياسات الأمريكية والأوروبية فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
كذلك تقدم روسيا دعما عسكريا لبلدان كمصر والعراق والإمارات وتركيا (وبدرجات أقل لكل من السعودية والأردن وتونس) يتمثل فى مبيعات للسلاح تمكن هذه الدول من تنويع مصادر تسليحها ومن تجاوز القيود التى تفرضها الولايات المتحدة وأوروبا على مبيعات أسلحتها إلى الدول العربية (فى مقابل اختفاء قيود مماثلة على مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل). كما أن موسكو، ومثلما هى لا تشترط أن تجمد العواصم الشرق أوسطية وعواصم شمال إفريقيا تعاونها العسكرى والأمنى مع واشنطن للحصول على السلاح الروسى، تقدم مساعدات اقتصادية (محدودة) ودعمًا تنمويًا (مؤثرًا) إلى بلدان المنطقة دون تمييز بين من يعادون واشنطن والغرب كطهران ودمشق وبين من تربطهم بها علاقات تعاون وصداقة كالقاهرة وبغداد وأبوظبى وأنقرة وتونس والرباط وبين من يقفون من الغرب موقف غير المنحاز كالجزائر. وتقدم المعاهدات المبرمة خلال السنوات القليلة الماضية بين روسيا وبين بلدان كمصر وتركيا والإمارات والجزائر للتعاون فى مجال إنتاج الطاقة النووية وبناء المفاعلات النووية أدلة بينة على الدعم التنموى والفنى الذى تقدمه موسكو وعلى العلاقات الاقتصادية والتجارية المهمة التى تربطها بالمنطقة، والتى هى راهن بوابتها لاستعادة البريق والنفوذ القديم الذى كان للاتحاد السوفييتى السابق.
وإذا كان السوفييت قد اعتادوا فى الماضى تقديم المساعدات العسكرية والتنموية دون مقابل مالى (أو نظير مقابل مالى محدود كما تدلل صفقات السلاح الكثيرة التى حصلت عليها مصر بين ١٩٥٥ و١٩٧٣)، مستهدفين فى ذلك مد شبكات نفوذهم كقوة عظمى ودعم قوى التحرر الوطنى فى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كمنطقة من مناطق الجنوب العالمى، فإن روسيا اليوم تحصل على مقابل مالى عادل (بحسابات السوق) لمبيعات سلاحها وتكنولوجيتها النووية، وتستهدف أيضًا مد شبكات نفوذها لمناوئة النفوذ الأمريكى والأوروبى فى منطقتنا وفيما وراءها.
(*) بالتزامن مع “الشروق“