ما يقوله ماسّي بأنّ فهم الإسلام هو واجب وضرورة للغرب ومصالحه عبّر عنه سابقاً المفكّر الهندي المسلم شراغ علي (Cheragh Ali، ت. 1895) الذي كتب في سنة 1883 كتاباً عن قابليّة الإسلام للإصلاح حتى يتماشى مع متطلّبات العصر وحاجات المسلمين. يقول شراغ علي في كتابه إنّ “قلّة إلمام الكتّاب الإنكليز بموضوع ذي أهميّة حيويّة لإنكلترّا هو شيء معيب”، ويضيف أنّ “الإمبراطوريّة البريطانيّة هي أعظم دولة إسلاميّة في العالم؛ أعني أنّ ملكة إنكلترّا، والتي هي إمبراطورة الهند، تحكم على عدد أكبر من المسلمين من أي حاكم آخر، بما في ذلك صاحب الجلالة السلطان العثماني”.
من غير الصحيح أنّه لم يكن هناك إهتمام بدراسة الإسلام في أوروبا في تلك الفترة (أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين) والتي شهدت نهضةً كبيرةً للدراسات الإسلاميّة والعربيّة في جامعاتها ومعاهدها. الدليل على ذلك في هذا العدد الضخم من الكتب والمقالات التي ألّفها مستشرقون في مواضيع متعدّدة، منها القرآن، وحياة النبي ومجتمعه، والمجتمعات الإسلاميّة وعاداتها ومعتقداتها إلخ، وفي نشر “أمّهات” كتب التراث الإسلامي (تاريخ الطبري مثلاً)، وتأليفهم معاجم اللغّة العربيّة مثل معجم راينهارت دوزي (Reinhart Dozy، ت. 1883) ومعجم ستانلي لاين-بول (Stanley Lane-Poole، ت. 1931)، وفهرسات القرآن والحديث والكتب مثل فهرست الكتب العربيّة لكارل بروكلمان (Carl Brockelmann، ت. 1956)، إلخ.
إذاً، مغزى كلام ماسّي وعلي يشير إلى الصراع الدائر في تلك الفترة حول كيفيّة فهم الإسلام واستخدام هذا الفهم في صياغة السياسة الإستعماريّة للدول الأوروبيّة في العالم الإسلامي. لكن الهدف لم يكن محصوراً بالتأثير على صنّاع القرار في أوروبا فحسب، بل قصد أيضاً إعادة “تعريف” المسلمين أنفسهم بـ”الإسلام الصحيح”. وللتذكير هنا، نحن نتكلّم عن فترة راجت فيها قناعة عارمة عند كثير من المتحمّسين للإصلاح في العالم الإسلامي مفادها أنّ علماء الدين الذين يمثّلون المؤسّسة الدينيّة يرفضون الحداثة والإصلاح ويتعلّقون بالتقليد الذي هو سبب تأخّر المسلمين.
إذا نظرنا في المفكرين الروّاد في العالم العربي أمثال رفاعة الطهطاوي (ت. 1873)، وعبد الرحمن الكواكبي (ت. 1903)، وأحمد عرابي (ت. 1911) الذين كانوا نتاج المؤسّسة الدينيّة وشكّلوا العمود الفقري للنشاط الفكري والسياسي والتربوي والثوري في وقتهم، لا نجد من يشابههم بعد الحرب العالميّة الأولى، وقطعاً بعد 1930 أو اليوم
نجد هذا الهدف المزدوج في معظم الكتب التي ألّفها مسلمون من دعاة الإصلاح عن الإسلام في تلك الفترة، مثل كتاب “روح الإسلام” (The Spirit of Islam، طبع 1891) وكتاب “تاريخ العرب” (A Short History of the Saracens، طبع 1899) للسيّد أمير علي (Ameer Ali، ت. 1928)، وهو من القضاة المسلمين البارزين في الهند، وكان داعية إصلاح بشرط الولاء للبريطانيّين!
ونجد ذلك أيضاً في الكتب التي ألّفها أوروبيّون وترجمها مسلمون من دعاة الإصلاح، مثل كتاب المستشرق الهولندي راينهارت دوزي عن الإسلام (Essai sur l’histoire de l’islamism، طبع أوّلاً بالهولنديّة في سنة 1863، وترجم إلى الفرنسيّة في سنة 1880) الذي ترجمه إلى العثمانيّة-التركيّة الصحافي والناشط عبد الله جودت (Abdullah Cevdet) في سنة 1908. وكتاب هنري ماسّي المذكور أعلاه الذي ترجمته المفكّرة التركيّة خالدة أديب (Halide Edib) إلى الإنكليزيّة في سنة 1938، وقامت مكتبة خيّاط في بيروت بإعادة طبعه في سنة 1966 (مع طبعات متتالية في ما بعد).
هذا التدافع لدعاة الإصلاح من أجل “تعلّم” الدين والتاريخ الإسلاميين على يد الأوروبيين، كان لافتاً للإنتباه لا سيما عندما نُدقق بالإسماء التي قامت بترجمة هذه الكتب، وهي من خيرة المفكّرين الذين امتطوا قبّعة تحديث الإسلام بجانب قبّعة الحداثة الغربيّة، وكان همّهم التقريب بينهما من منطلق أنّ “الإسلام الصحيح” (بعكس إسلام المؤسّسة الدينيّة) متجانس مع الحضارة الغربيّة والفكر التنويري.
ليس هدفي هنا الحطّ من قيمة الترجمة وأهميّتها، أو نقد موجة تقليد الغرب. من دون شكّ، كان التأثّر بالحضارة الغربيّة عاملاً جيّداً ومفيداً للشعوب العربيّة والإسلاميّة (وغيرهم) في الكثير من الميادين. في ما يخصّ الأدب العربي الحديث تحديداً، من المستحيل تجاهل تأثير الحضارة الغربيّة عليه ودورها الكبير في إطلاق الرواية الأدبيّة، والشعر الحديث، والأدب المسرحي، إلخ.
ومن دون الجهد الرائد لأمثال محمّد عثمان جلال (ت. 1889)، ومصطفى لطفي المنفلوطي (ت. 1924)، وسليمان البستاني (ت. 1925)، وفرح أنطون (ت. 1922) – الذين ترجموا الكثير من الأعمال الأدبيّة والفكريّة التي كانت رائجة في أوروبا في عصرهم (بما في ذلك أعمال من الأدب الإغريقي والروماني) – لما كانت هناك نهضة أدبيّة وفكريّة في العالم العربي، فأصبحت هذه الأعمال المترجمة رافداً أساسيّاً للأدب العربي الحديث من جهة النهج والأسلوب والمواضيع، وألهمت الكثير من المبدعين للرجوع إلى التراث العربي الإسلامي وكتابة روايات عنه (وهو ما نجده في بعض أعمال الروّاد أمثال جرجي زيدان وأحمد شوقي وتوفيق الحكيم) والتي أصبحت من أهم إبداعات النهضة الأدبيّة والفكريّة في العالم العربي.
الملفت للنظر أنّ معظم هؤلاء كانوا أيضاً مهتمّين بالفكر الديني، وأدلوا بدلوهم في ما يخصّ قدرة الدين الإسلامي على رفد أو عرقلة النهضة المرجوّة. لكن مشكلتهم أنّ معرفتهم بالتراث الفكري الإسلامي كانت بالأغلب مرتجلة وانتقائيّة ونخبويّة. وكانت النقاشات إنفعاليّة، تأرجحت بين الاتّهاميّة (polemic) والتبريريّة (apologetic)، وهو ما نجده مثلاً في النقاش الذي دار بين فرح أنطون ومحمّد عبده حول ما إذا كان الإسلام قادراً على خلق النهضة أم معرقلاً لها.
لكن المشكلة الكبيرة في هذه النقاشات أنّها دارت وفقاً للفهم الغربي للإسلام كدين وتاريخ، والذي انطلق من مقاربة المستشرقين أمثال دوزي وأرنست رونان (Ernest Renan، ت. 1892) وماسّي التي رفضت التعدّدية فيه واصّرت على تعريفه وفقاً لنمطيّة فيها كثير من التخيّلات والأخطاء. فتسلّح “الإتّهاميّون” في العالم العربي بها من أجل تحليل أسباب إنحطاط العالم الإسلامي وتخلّفه واضعين التهمة على الدين والمؤسّسة الدينيّة. بينما قام “التبريريّون” بإسقاط الفكر التنويري الغربي على الإسلام، وقدّموا ذلك على أنّه “الإسلام الصحيح” الذي عبره يمكن للعالم الإسلامي أن ينهض من سباته.
في كلا الحالتين، كانت النتيجة تهميش المؤسّسة الدينيّة وتقهقر دورها مقارنةً بما كانت عليه من الفترة الإسلاميّة الكلاسيكيّة حتّى القرن التاسع عشر. ما أعنيه هنا تحديداً هو التصويب على عاملين: فقدت المؤسّسة الدينيّة دورها الريادي في التعليم والفكر لمصلحة المدرسة والجامعة العصريّة، وفقدت أيضاً معظم دورها في المجتمع، تحديداً في مجال القضاء والسياسة وإدارة مؤسّسات الدولة لمصلحة خريجي المدارس والجامعات الحديثة. مثلاً، إذا نظرنا في المفكرين الروّاد في العالم العربي أمثال رفاعة الطهطاوي (ت. 1873)، وعبد الرحمن الكواكبي (ت. 1903)، وأحمد عرابي (ت. 1911) الذين كانوا نتاج المؤسّسة الدينيّة وشكّلوا العمود الفقري للنشاط الفكري والسياسي والتربوي والثوري في وقتهم، لا نجد من يشابههم بعد الحرب العالميّة الأولى، وقطعاً بعد 1930 أو اليوم.
أبقت جامعات هارفرد ويال وشيكاغو وأوكسفورد وكامبريدج وتوبنغين وغيرها على معاهد اللاهوت فيها وعلى تدريس الدين، وساهم ذلك في إنتاج مجتمعات منفتحة، متقبّلة للفكر الديني الجديد، وقادرة على الوقوف بوجه التمدّد المسيحي المتطرّف، بعكس المدارس والجامعات في العالم الإسلامي التي تجنّبت الدين وأبقته في حضن المؤسّسة الدينيّة التي أصبحت أكثر تخلّفاً
لم يعِ دعاة إصلاح وتحديث الإسلام أهمية وضرورة إصلاح المؤسّسة الدينيّة نفسها أو على الأقلّ إنشاء معاهد دينيّة عصريّة من أجل إيصال هذا “الإسلام الصحيح” إلى الجماهير لكي يتأسّس في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة ويحميها من الفكر المتطرّف، وهو ما خلق فجوة كبيرة استغلّها في ما بعد الفكر الديني المتزمّت، خصوصاً الفكر السلفي (الذي رفده الغرب بكل أنواع الدعم). لكن إذا نظرنا إلى ما قام به الغرب مثلاً في موضوع إصلاح الدين المسيحي، نجد أنّ جامعات أوروبا وأمريكا لعبت دوراً كبيراً في تجديده ونشره. مثلاً، أبقت جامعات هارفرد ويال وشيكاغو وأوكسفورد وكامبريدج وتوبنغين وغيرها على معاهد اللاهوت فيها وعلى تدريس الدين، وساهم ذلك في إنتاج مجتمعات منفتحة، متقبّلة للفكر الديني الجديد، وقادرة على الوقوف بوجه التمدّد المسيحي المتطرّف، بعكس المدارس والجامعات في العالم الإسلامي التي تجنّبت الدين وأبقته في حضن المؤسّسة الدينيّة التي أصبحت أكثر تخلّفاً لفقدانها الدور المحوري التي كانت تلعبه في ما مضى. فأصبحت (إلاّ في حالات نادرة) ملاذاً للراسبين ومن ليس له باع في الفكر والعلم، وهو ما زاد من مشاكلها وعجزها عن الارتقاء إلى مستوى التحدّيات التي يواجهها العالم العربي والإسلامي.
وإذا كان يُسجل للحركات الإصلاحيّة في العالم العربي والإسلامي دورها في إحداث تغييرات جوهريّة في مقاربات الفكر الديني، إلا أنّها حقّقت ذلك بمعزل عن المؤسّسة الدينيّة. وقد تبيّن مع الوقت أنّ ذلك كان قراراً قاتلاً. لذلك تبدو الصورة في العقود الخمسة الأخيرة قاتمة، لكأنّنا نتقهقر إلى الوراء بدل التقدّم إلى الأمام.
إصلاح المؤسّسة الدينيّة ضرورة لا يمكن تجاهلها، خصوصاً في يومنا هذا، لأنه يساعد في تحصين المجتمعات من آفّة التطرّف على أنواعها ويساعدها على صياغة قراءتها للدين وفق مصالحها وحاجاتها بدل أن تكون مجرد مجتمعات مستهلكة لما ينتجه علماء الدين والمؤسسات الدينية وغالبا ما تعمل هذه وفقاً لأجندة السلطة في بلدانها أو لأطماع إستعماريّة لا نعرف بها إلاّ بعد فوات الأوان.