في ماهيّة الإسلام.. الأركان الخمسة والعقلية الذكورية (15)

ما يمكن إستخلاصه من خلال النصوص القرآنية والأحاديث النبوية أنّ النبي محمد لم تكن لديه فكرة ثابتة عن أركان الإسلام (الخمسة) وعددها. إذ لو كان له رأي واضح في ذلك، لما قال لكلّ شخص أمراً مختلفاً.

تروي لنا أمّهات كتب الحديث أنّ عمر بن الخطّاب قال:

“بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: “يا محمد، أخبرني عن الإسلام؟” فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجّ البيت إن استطعت إليه سبيلاً”. قال (الرجل): “صدقت”. قال (عمر): “فعجبنا له، يسأله ويصدقه”. قال (الرجل): “فأخبرني عن الإيمان؟” قال (رسول الله): “أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره”. قال: “صدقت”.

نسأل هنا عن معنى تعريف الإسلام بهذا الشكل الذي يتمحور حول العبادات؟ ولماذا التفريق بينه وبين الإيمان الذي يتمحور حول العقيدة؟ (للتوضيح لمن لا يعرف القصة، أخبر النبي في ما بعد عمر أنّ الرجل الذي سأله كان الملاك جبريل).

هكذا تعريف هو تعريف orthopraxy (الممارسة الصحيحة) هدفه القول أن الإسلام كدين همّه الأساس ممارسة الشعائر والطقوس الدينية، ولذلك نحن بحاجة إلى شريعة تعرّف لنا الشعائر وكيفية ممارسة طقوسها، وهذا مختلف عن تعريف الإسلام كإيمان يتطلّب عقيدة معيّنة – وهو تعريف orthodoxy (العقيدة الصحيحة) – ولذلك نحن بحاجة إلى علم الكلام والإلهيّات. الخلاف بين المسلمين حول هذين المفهومين أنتج مذاهب فقهية ومدارس كلاميّة وتيّارات دينية قالت بواحدة منهما أو بهما معاً.

وإذا عدنا إلى موضوعنا أعلاه الذي يعرّف الإسلام كـ orthopraxy له أركان خمسة هي من المسلمّات التي أصبحت عقيدة يردّدها المسلمون على سوادهم، من دون الخوض في صحّتها أو معرفة نشأتها، لا بد من أن نسأل هنا؛ إذا كان للإسلام خمسة أركان، لماذا لا نجد أي أثر لذلك في القرآن (آية تعرّفنا بكل وضوح بأركان الإسلام بهذه الطريقة)؟

صحيح أنّ القرآن يتناول ضرورة الصلاة والصيام وأموراً أخرى كثيرة، لكنه لا يقول لنا ما هي أركان الإسلام تحديداً. ويمكن أن نضيف أنّه في آخر سورة من القرآن أوحيت إلى النبي محمّد، وفقاً للتراث الإسلامي، وهي سورة التوبة (وتسمّى أيضاً سورة براءة)، نجد الآية رقم 11: “فإن تابُوا وأقامُوا الصَلاة وآتوا الزَكاة فإخْوانُكُم في الدين ونُفَصِّلُ الآيات لقومٍ يعلمون”. هنا يعرّف القرآن بكل وضوح أنّ التوبة والصلاة والزكاة هي ما يجعل من الكافر أخاً للمسلم في الدين.

إذا كان الإسلام له في المفهوم القرآني خمسة أركان، فلماذا في آخر سورة أُنزلت على النبي يناقض القرآن نفسه بتخصيص ثلاثة أركان فقط؟ الإجابة هي أن القرآن لا يناقض نفسه. فكرة أن يكون للإسلام أركان خمسة هي من خارج القرآن، وقد طوّرها الفقهاء ودعّموها بأحاديث نسبوها إلى النبي والصحابة والتابعين.

حتّى الحديث النبوي يحوي على تناقض كبير حيال تعريف الأركان وعددها. نعم، نجد الحديث أعلاه وأحاديث أخرى تشبهه. لكن نجد أيضاً أحاديث كثيرة تخالفه. مثلاً، ينقل ابن تيمية في “كتاب تحقيق الإيمان” أنّه عندما جاء وفد عبد القيس إلى النبي، سأله عن الإيمان، فأجابهم: “شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تعطوا خمساً من المغنم”. (الحديث أيضاً في  سنن أبي داود).

وهناك الحديث (في صحيح مسلم) أنّ رجلاً سأل النبي: “أرأيت إذا صليت المكتوبات، وصمت رمضان، وأحللت الحلال، وحرّمت الحرام، ولم أزد على ذلك شيئاً، أدخل الجنة؟” فأجاب النبي: “نعم”.

وهناك الحديث أنّ النبي قال يوماً لمعاذ بن جبل: “ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟” قلت: “بلى يا رسول الله”. قال: “رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد”.

من يمكنه حقّاً الصلاة خمس مرات في اليوم، وصيام شهر رمضان، والقيام بواجب الحجّ، ودفع الزكاة؟ الجواب هو الرجال تحديداً، كون النساء لا يمكنهم صيام كامل شهر رمضان مع وجود الدورة الشهرية والتي تمنعهم أيضاً من الصلاة في كثير من الأوقات، ولا الحجّ بمفردهن، ولا دفع الزكاة بوجود الزوج

نسأل هنا: هل نسي النبي عندما أجاب وفد عبد القيس أنّ الحجّ هو من أركان الإسلام؟ وعندما أجاب الرجل أن الصلاة والصوم وعمل الحلال واجتناب الحرام كافية له، هل سها عن بال النبي أنّ الزكاة والحج هما من أركان الإسلام؟ وعندما قال لمعاذ ما قال، هل عنى النبي أنّ لا شيء يقارن بالصلاة وأن الصوم والزكاة والحج هي أمور ثانوية؟ أم أنّه أجاب كلّ سائل بما رآه موافقاً لوضعه أو لهدف آخر أراده؟

نسأل مجدّداً، إذا لم تكن مقولة أنّ للإسلام خمسة أركان مصدرها القرآن أو النبي، من أين مصدرها إذاً؟

للإجابة، علينا النظر في النقاش الذي استعر بين المسلمين بعد وفاة النبي حول تعريف الإيمان، وهو أمر لم يُحسم أبداً في الإسلام، ولكلّ مذهب رأي فيه. تمحور الخلاف بين من يشترط على من يريد أن يكون مسلماً الإيمان بعقيدة محدّدة والقيام بشعائر معيّنة (القول والعمل)، أو الإيمان فقط بعقيدة (القول). إذا كان قولاً لا غير، يجب تعريف ما هو القول الذي يجعل من الشخص مسلماً. أمّا إذا كان قولاً وعملاً، يجب تعريف ما هو القول وما هو العمل الذي على الشخص قوله وعمله ليصبح مسلماً. من هنا ظهر مفهوم الأركان.

إقرأ على موقع 180  التراث السنّي التقليدي.. وإلزامية الإجتهاد (6)

من أجاب أنّ الإسلام هو orthopraxy، انكبّ على علم الفقه، يستنبط الأحكام التي على الناس ممارستها واطاعتها. ومن أجاب بالـ orthodoxy، انكبّ على علم الكلام والإلهيّات من أجل استنباط العقائد التي على المسلمين الإيمان بها. ومن قال بالإثنين، جمع بينهما.

وبالعودة إلى الأركان الخمسة، لماذا هذه الأركان تحديداً؟ ولماذا نجد فيها قول واحد – وهو الشهادة – وأربعة أعمال – وهي الصلاة، الصوم، الزكاة، والحجّ؟

وجود الشهادة بين الأركان الخمسة هو تصريح واضح أنّ الإسلام لا يتطلّب أي عقيدة غير شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، لكنّه يتطلّب أفعالاً من دونها لا يكون إيماناً. وهذه القناعة تتناقض مع تعريف المعتزلة أو الشيعة أو أهل التصوّف للإسلام والذي هو تعريف ركيزته العقيدة الصحيحة (orthodoxy)، ويختلف أيضاً عن تعريف الأشاعرة والحنابلة والماترديّة الذي يتطلّب عقائد إضافيّة لا يكون إيمان من دونها. مثلاً، لا يكون إيمان عند المعتزلة من دون الأصول الخمسة (التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر). وعند الأشاعرة، لا يكون إيمان من دون القول أن القرآن غير مخلوق والقول بالكسب في موضوع أفعال البشر، الخ. أما عند الشيعة، فلا إسلام من دون الإيمان بالإمامة كما يقول ابن بابويه (ت. 991) في كتاب “كمال الدين” في حديث قدسي عن النبي عن الله:

“من لم يشهد أن لا إله إلاّ أنا وحدي، أو شهد بذلك ولم يشهد أنّ محمّداً عبدي ورسولي، أو شهد بذلك ولم يشهد أنّ علي بن أبي طالب خليفتي، أو شهد بذلك ولم يشهد أنّ الأئمّة من ولده حججي، فقد جحد نعمتي وصغّر عظمتي وكفر بآياتي وكتبي..”.

خلاصة الأمر هي أنّ العقلية الذكورية للعلماء المسلمين ومقاربتهم لكثير من الأمور في الدين والحياة أنتجت واقعاً أصبحوا فيه وحيدين قادرين على أن يكونوا مسلمين بامتياز، وأنتجوا إسلاماً لا ينطبق كاملاً إلاّ عليهم. وكان الله في عون الباقين

أمّا الأركان الأربعة الأخرى، التي هي أعمال، فاختيارها لم يكن صدفةً، بل يعكس أولوية العقلية الذكورية في رؤية وفهم الدين.

لنسأل مثلاً، من يمكنه القيام بهذه الأركان الأربعة؟ أي من يمكنه حقّاً الصلاة خمس مرات في اليوم، وصيام شهر رمضان، والقيام بواجب الحجّ، ودفع الزكاة؟ الجواب هو الرجال تحديداً، كون النساء لا يمكنهم صيام كامل شهر رمضان مع وجود الدورة الشهرية والتي تمنعهم أيضاً من الصلاة في كثير من الأوقات، ولا الحجّ بمفردهن، ولا دفع الزكاة بوجود الزوج. بمعنى آخر، إذا كان دور تعريف ركائز الإسلام مناط بالمرأة، لن تعرّف الإسلام بطريقة تجعلها خارجة أو عاجزة عن القيام بمعظمها. كذلك الأمر مع من هم أقلّ حظّاً في الدنيا، إذ تمنعهم أشغالهم وضرورات الحياة من القيام ببعض هذه الأركان في كثير من الأوقات. إذا قلنا أن عجزهم يسقطهم كمسلمين، نظلمهم. وإذا قلنا أنّ عليهم فعل ما يقدرون عليه، فما معنى أن يكون للإسلام أركان محددة؟

تعريف الأركان الخمسة إذاً هو تعريف نخبوي ذكوري (ككثير من الأمور في الإسلام)، أوجده وعمّمه بعض الفقهاء – من أهل السنّة تحديداً – الذين عكس فهمهم للإسلام واقعهم كرجال لديهم إجمالاً الكثير من الوقت والوفر المادي والصحّة البدنية للقيام بتلك الأعمال. وعكس أيضاً قناعتهم أنّ الإسلام هو دين أساسه العمل (orthopraxy). وفرضوا رأيهم هذا وكأنه رأي الله ورسوله. هم وضعوا مسألة العقيدة جانباً لتجنّب الخلاف. فأصبح من الضرورة عند أهل السنّة المهتمّين بالعقيدة أن يؤسّسوا أو يتبعوا مدارس كلاميّة ليس لها علاقة بمذهبهم الفقهي. فنجد مثلاً القاضي عبد الجبار (ت. 1025) والذي كان من عظماء المعتزلة كان أيضاً قاضي قضاة الري وكان على المذهب الشافعي، بينما كان الزمخشري (ت. 1144)، وهو أيضاً من عظماء المعتزلة المتأخّرين، على المذهب الحنفي، أمّا الغزالي (ت. 1111) فكان شافعياً في المذهب، أشعرياً في علم الكلام، وصوفياً في الإلهيات.

خلاصة الأمر هي أنّ العقلية الذكورية للعلماء المسلمين ومقاربتهم لكثير من الأمور في الدين والحياة أنتجت واقعاً أصبحوا فيه وحيدين قادرين على أن يكونوا مسلمين بامتياز، وأنتجوا إسلاماً لا ينطبق كاملاً إلاّ عليهم. وكان الله في عون الباقين (يتبع الأسبوع المقبل عن “مفهوم الشهادة ونشأتها”).

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  جريمة فرنسا إرتكبها وعي إسلامي