“الحوربات” الإنتخابية اللبنانية.. لئلا تضيع

لم يعرف تاريخ الإنتخابات في لبنان، هذه الحدية في الخطابات والإنقسامات التي تشهدها المرحلة الراهنة، فالحملات الإنتخابية، كانت تخاض على الأغلب بما يُعرف بـ"الحوربات" التي تقوم مقام الخطاب السياسي، مما يعطيها طابعاً فولكلورياً يستمد نبضه ووهجه من "الزجل" والشعر الشعبي اللبناني.

تستعير “الحوربة” معناها من الحرب، فالقوّالون والزجّالون حين يتبارون وتستعر أشعارهم بالتحدي والخصومة، يبدون وكأنهم في ساحة وغى ونزال، تماما كالمحاربين في الميادين، وبما يشبه الشعراء ـ الفرسان لدى العرب القدامى الذين كانوا يتحاربون ويتهاجون بأقذع الشعر قبل أن يستلوا سيوفهم من أغمادها.

وعلى ما يقال في علم السياسة إن الإنتخابات “حرب هادئة” بين متنافسين وليست حرباً ساخنة بين متصارعين، وإذ عرف لبنان منذ ما قبل استقلاله عام 1943 سلسلة من “الحروب الإنتخابية الهادئة”، فقد كانت “الحوربات” الإنتخابية إحدى سمات تلك الإنتخابات، وما فتئء إرث “الحوربات” محفوظاً في ذاكرة الأجيال الحالية، ويصار إلى استعادتها وتردادها في جلسات “الإمتاع والمؤانسة” في المدن والقرى اللبنانية من أول الجنوب إلى آخر الشمال.

في كتاب “لئلا تضيع” لشيخ الأدب الشعبي اللبناني سلام الراسي “في عام 1934، شغر احد المقاعد النيابية في الجنوب، بوفاة النائب فضل بك الفضل، فبادر نسيبه بهيج إلى تقديم ترشيحه خلفا له، وكان سيد دار الطيبة عبد اللطيف الأسعد، الذي لم تكن السلطة الفرنسية راضية عنه، فقدّم ترشيحه للمقعد الشاغر، متحدياً بذلك سلطة المستشار الفرنسي القومندان باشكوف، وزحف موكب عبد اللطيف الأسعد إلى بنت جبيل، وكان أبرز ما حدث يومئذ أن شاعراً شعبياً هو علي هيدوس، مشى أمام الجماهير الزاحفة، وهو يحدو حدوة حماسية ومئات من الشباب ترد عليه:

باشكوف خبّر دولتك / سلطاننا عبد اللطيف 

باريز مربط خيلنا / ورصاصنا قلط جنيف”.

هذه “الحدوة” كما يسميها سلام راسي، ما زالت حية في الذاكرة الجنوبية، إذ من السهولة استحضارها في مناسبات وجلسات مختلفة، وهي بطبيعة الحال تفتح الباب أمام “حوربات جنوبية” بين آل الأسعد وآل عسيران، وفي أحد المواسم الإنتخابية على ما يشير الناقد والأديب عبد المجيد زراقط، أن بلدة حولا تمنعت عن المجيء إلى “دار الطيبة”، وكانت رايتها قد انعقدت لأحمد الأسعد الزعيم الجنوبي المعروف، وعلى ما يبدو أن قسماً من اهاليها تخلّف عن زيارة الطيبة، وراح يردد:

يا بيك حولا شرفت / من دون حزب الحاج خليل

حول المناسف صفصفت / واللحم عم يرجف رجيف.

ولما بذل احمد الأسعد مزيداً من الجهود لحضور القسم المتمنع من أهالي حولا، أثمرت غايته، وجاء المتمنعون وهم يردّدون واحدة من أشهر “الحدوات” المتوارثة، وفيها قالوا:

إجت حولا بفحولا / يا سيدي البيك

إجت حولا زيحولا / كرمال عينيك.

وفي ذاكرة أيام التنافس الأسعدي ـ العسيراني الذي استمر تكراراً حتى آخر انتخابات نيابية فرعية عام 1974، أي قبل سنة واحدة من الحرب الأهلية المشؤومة، وصلت “الحوربات” إلى ذروة إيقاعاتها الحماسية والخصامية التي لم تنجُ منها الزعامات ورجالات تلك الفترة، وكان مما يقوله الأسعديون:

طير البيطير بنذبحوا / وقلب العدو بنجرحوا

بنشيل بدر من السما / ومنحط أحمد مطرحوا.

أغلب الظن، أن هذه “الحدوة” تحفظها غالبية الجنوبيين، ويقابلها “ردية” من خصوم آل الأسعد، وعلى الأرجح من أنصار آل عسيران، وهي:

أكبر زعيم بها لبلد/ منمددوا ومنذبحوا

منشيل راسوا من الجسد/ ومنحط جزمة مطرحو.

ويورد تحقيق أجرته الزميلة ضحى شمس ونشرته صحيفة “السفير” في حمأة انتخابات 1996، أشكالا ونماذج من “الحوربات” التي كانت تشهدها مدينة بنت جبيل، وحيث المنافسة التقليدية بين آل بيضون وآل بزي، وكان المرشحان المتنافسان عام 1950عبد اللطيف بيضون وعلي بزي، و”حورب” أنصار الأول منشدين قائلين:

بيضون الله قدّسك/ حط العناية تحرسك

والخصم البدو يعاكسك / بذيل مهرك كتفوا.

وحين فاز علي بزي وفشل منافسه عبد اللطيف بيضون “حورب” أنصار الفائز شامتين قائلين:

يا بنت جبيل اعتزي/ والنايب علي بزي

هني ناموا جوعانين / ونحنا تعشينا وزة.

وبما أن التنافس السياسي لم يعرف حصرية مناطقية أو جهوية، وإنما كان يأخذ مداه على المستوى الوطني العام، ولذلك حين وقع الخصام بين الراحلين رياض الصلح وأحمد الأسعد في عقد الأربعينيات، قام الشاعر الشعبي علي هيدوس المناصر لأحمد الأسعد، يهجو الصلح ويقول:

يا رياض مش هيك الأمل/ ذبحت لربعك جمل

ممنوع تطلع ع الجبل/ تتبوس جزمة أحمد.

وردّ عليه أنصار رياض الصلح الجنوبيون:

طربوش بيك الأسعدي / معكوف عكفة زعرنة

باعوا المنارة لليهود/ هيدي زعامة وسخنة.

والأمر عينه، جرى في الإنزياحات السياسية بين الرئيسين بشارة الخوري وإميل إده، ويظهر أن قسماً من الجنوبيين كان من حلفاء الرئيس بشارة الخوري، وحين فاز الأخير على إميل إده، ردّد بعض أهل الجنوب، على ما يقول المؤرخ منذر جابر في “التوجهات السياسية الشيعية والمارونية إبان قيام دولة لبنان الكبير”:

هدي يا حماري هدي / وبشارة ركب إده.

بالصعود نحو الجبل، يبدو أن “الحوربات” الجبلية سابقة للمواسم الإنتخابية، ويروي سلام الراسي “أن سيد دار المختارة كان لقبه عمود السماء ـ وأنذاك ـ كان الخلاف بين الحزبين اليزبكي والجنبلاطي في ذروة احتدامه، وكان آل نكد من أهل الزعامات والكرامات، وقد تغنى بهم أحد شعراء الزجل وقال:

إقرأ على موقع 180  لبنان.. فرصة فرنسية ذهبية لن يُفوّتها ماكرون

عنا مشايخ بو نكد بياتهم وجدود / للضيف والسيف وغدرالليالي السود”.

ويكمل سلام الراسي قائلاً “حدث يوما أن أقيم في بعقلين عرس لأحد اليزبكيين من آل تقي الدين، واحتشد عدد كبير من الشعراء، وحميت سوق عكاظ، ولاحت تباشير النصر لليزبكيين، وإذ ـ بأحدهم ـ ينقر على دفه ويقول:

 لا بد ما كاس الصفا يصفالها / ويخوض مهرك يا نسيب مجالها

دار البناها بشيرعمود السما / عار عليكم تنكرون فضالها. 

وفي مقابل هذا التحدي، قام احد الشعراء اليزبكيين وقال:

بعدا القضية معلقة وما زالها / خيول الوقيعة محرجمة بمجالها 

ولو رف ظل جناح قاسم بو نكد / فوق المعاصر تكتكتلوا حجالها”.

من الجبل إلى جبيل، فالتنافس الإنتخابي المألوف، غالباً ما كان يشهد وطيسه بين الدستوريين بزعامة بشارة الخوري والكتلويين بزعامة إميل إده، ومن “الحوربات” المنظومة على وزن “قرادي” والتي يحفظها الجبيليون، وكان الكتلويون وراء إطلاقها، وهم المتحالفون آنذاك مع أحمد الحسيني:

اميل اده كيف ما مال/ بتميل الجمهورية

والزعامة للكتلة / والنيابة حسينية.

وكما كان علي هيدوس إبن بنت جبيل شاعراً مناصراً لآل الأسعد ويوغل طعناً في مناوئيه، فإن الياس النجار من بلاد جبيل، وكان من أنصار إميل إده، لم يختلف عن نظيره هيدوس، ومن “حورباته”:

دوري يا سمرا دوري / وتفو ع بشارة الخوري

وتفو ع رياض وريمون/ وكل من هو دستوري.

وذهب أنصار بشارة الخوري في انتخابات 1943 إلى الطعن بأنصار إميل إده في بلاد جبيل وقبولهم ترشيح إده فيما قيد نفوسه في بيروت وقالوا:

سَرج الخيل بميدان خيل/ فيه رواية وتحدي

 ما في رجال ببلاد جبيل / تا جابو إميل إده.

في طرابلس كان لآل كرامي النسبة الأكبر من “الحوربات”، ولعل أكثرها شيوعاً وتداولاً حتى اليوم منذ عهد الرئيس عبد الحميد كرامي، تلك القائلة:

الورد فتّح فوق/ بيت كرامي/ شفتو بعيني فوق/ بيت كرامي.

وبموازة بروز اليسار ورمزه في طرابلس عبد المجيد الرافعي في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، راح اليساريون والقوميون “يحوربون” بالتالي:

يا أفندي اثنين كيلو بربع / ما أرخصك بين الأهل والربع.

ولا تخلو واحدة أخرى من المعنى نفسه، ولكنها تعتمد على القافية من دون الوزن المعروف:

اثنين كيلو بربع يا أفندي/ ما أرخصك يا أفندي.

إلا أن أكثر “الحوربات” الكرامية ذات المغزى، تقول:

عز البلاد رجالها / الله لعن خوانها.

أخيراً؛ ما قيل في ذم النيابة:

على ذمة سلام الراسي، “أن بعض الأدباء ورجال الفكر الذين خبروا الحياة النيابية، ما لبثوا أن زهدوا بها، ومنهم ميشال شيحا وشارل عمون وابراهيم المنذر والياس فياض وأمين نخلة، وكان جان عزيز قبل أن يصير نائباً يحلم بلبنان وطناً مثالياً تحكمه عقول حكمائه، وتُنسب إليه أبيات كان يُردّدها بعدما خبر الحياة النيابية:

من جرّب المجربا / فعقله تخربا 

ما يرتجى من غافل / يمشي.. إذا يوماً كبا”.

وفي كتابه “جود من الموجود”، يقول سلام الراسي “ملأ الشاعر اللبناني موسى الزين شرارة مكاناً رحباً في دنيا الأدب، وقيل إن أحد أقطاب السياسة أغراه يوماً بخوض غمار إحدى المعارك النيابية المضمونة، ولما سألناه عن قناعته أجاب شعراً وقال:

قالوا النيابة، قلتُ ليست مأربي / هي مأرب المتزلف المتملقِ 

ومضيتُ أمشي حافياً وأنا الذي / ما اعتدتُ مشياً في حذاء ضيقِ”.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  "أنظروا إليه".. ماذا سيقول "السيد" غداً؟