العلانية التي يزعمها ساسة لبنانيون عن التمسك بـ”الوحدة الوطنية” تدحضها “هويات فرعية” تطل باستمرار بقناع اللامركزية. هُم، يبررون اللامركزية بأنها مرغوبة لأجل نمو اقتصادي وإداري يُرتجى. من يسمع ترتيل وتجويد اللامركزية وأهدافها المرجوة يحسب أن البلاد تنضح بالخيرات و”المواد الأولية” التي أعيت زياد الرحباني في مسرحيته الشهيرة “بالنسبة لبكرا شو”. في زمن مضى، كانت الطوائف اللبنانية تزعم وطنيةً مُدعاة من باب عناوين: الوحدة الوطنية. العيش المشترك. حتى أنه في لحظات الإنتشاء، ذهب بعضهم إلى القول بالعيش الواحد لا التعايش!
ما زاد الطينُ بِلةً في التكاذب اللبناني عن “حظ العيش سوياً” بين جماعاته، كان في ما أورده الإرشاد الرسولي الصادر عن السينودس من أجل لبنان (1997) من أن لبنان “رسالة”. قد يكون البابا يوحنا بولس الثاني، قد أصاب في شيء من توصيف الرسالة هذه. فهذا البلد كان على الدوام صندوقة بريد لتبادل الرسائل بين القوى المتصارعة في الإقليم وعليه. لم يبق دولة ولم تستخدم هذه الجغرافيا الفائضة بثقافات متناحرة سياسياً وحتى روحياً. ومن يقول بعكس ذلك، عليه أن يفسر للبنانيين التناحر المديد بين المسلمين والمسيحيين. الطرفان ما ردعهما نصٌ قرآنيٌ عن فعل ما فعلوه ببعضهما البعض. الطرفان ما لجمهما سفرٌ من أسفار التنكيل عن التنكيل ببعضهما البعض على الهوية. الإثنان، القرآن والإنجيل، ما استطاعا دفع اللبنانيين إلى بلوغ سن الرشد السياسي.
ليست “الوحدة الوطنية المُفتعلة ” نعيماً مؤكداً. في أماكن كثيرة، خصوصاً في الأحياز العربية المُسماة دولاً أو أوطاناً وأقطاراً. كانت “الوحدة” بالقوة، أو تحت وطأة الأيديولوجيا سبباً لإنفجارات من النوع القاتل الذي يسفح دماءً غزيرة، ويترك مشردين أكثر، ويؤسس لنزاعات وسمتها كراهيات تتغذى من تواريخها الجينية، وكذلك من تواريخها الدموية. هذا حصل في السودان. اليمن. العراق. ليبيا. المغرب. الجزائر. ويحصل الآن في سوريا، بعدما تبدى بأبشع صوره في لبنان عبر “اليمين المسيحي” و”اليسار الاسلامي”، أو بين “الشرقية” و”الغربية” وهما منطقتان في العاصمة، اختصرتا كل لبنان الذي حضن آنذاك، إدارة مدنية درزية، مقابل فيدرالية مسيحية ـ قواتية. الآخرون لم يفعلوا أمراً مماثلاً، على مثل الشيعة والسنة، ليس جراء وعي ما فوق هوياتي بل جراء تداخل أهلي وإجتماعي، عزّزه، آنذاك، تواضع القدرات الإيرانية عند الشيعة، ووهم أكثري سعودي عند السُنة، اعتبروه ضامناً لهم ولفترة طويلة من الزمن.
ومن “نعم” الله على لبنان، أن اللبنانيين، ولكثرة إفراطهم بحب الوحدة، تشظوا وذهبوا منهكين لتوقيع اتفاق الطائف قبل ثلاثة عقود. ثم وبعد أن استردوا جزءًا من عافيتهم، إنتبهوا وعادوا للمناداة باللامركزية من مدخل إداري ومالي وتنموي وحسب. سهّل لمناداتهم هذه بند “إصلاحي” من بنود “وثيقة الوفاق الوطني”، تبنى “اللامركزية الإدارية” وتركها مفتوحة على إجتهادات تداخل فيها الإداري بالمالي. لكن كلاهما غضن في طياته معنىً سياسياً عريضاً لهويات فرعية ما كانت قادرة على العيش معاً. وهذا تؤكده وقائع الإختلاف على معنى “العدو” و”الصديق” والتنازع على معنى الموقع والدور. وهذا التنازع تقلب بين الزمنين السوري والإيراني، وما بينهما من زمن خليجي عبّر عنه رفيق الحريري، حياً وشهيداً.
هذا البلد كان على الدوام صندوقة بريد لتبادل الرسائل بين القوى المتصارعة في الإقليم وعليه. لم يبق دولة ولم تستخدم هذه الجغرافيا الفائضة بثقافات متناحرة سياسياً وحتى روحياً. ومن يقول بعكس ذلك، عليه أن يفسر للبنانيين التناحر المديد بين المسلمين والمسيحيين
“اللامركزية” ليست مفردة ًجديدةً على اللبنانيين. ولا هي استجدت مع وثيقة الوفاق الوطني. لا بل على العكس من ذلك، فهي قديمة قدم “لبنان الكبير”. يومها اكتشف اللبنانيون بالحس السياسي الفطري “معضلة” العيش معاً. قد لا تكون هوياتهم الدينية والمذهبية سبباً أوحداً لذلك. بل لعل، عيشهم في ظلال امارات ومتصرفيات وسلطنات كون أهواءً رفدتها الهويات الفرعية وجعلتها تتقدم على الهوية الوطنية الواحدة.
ليست المطالبة باللامركزية الإدارية في لبنان كعنوان إصلاحي وليدة اليوم، ولم تهبط بالمظلّة على حين غفلة. وقيل الكثير بشأنها منذ ما قبل الاستقلال وتحديدا في عهد الرئيس إميل إده، وبرزت منذ ستينيات القرن الماضي، نتيجة الشكوى من تفاوت النمو الاقتصادي والاجتماعي بين المناطق. بين المدن والأرياف. بين المركز والأطراف. وان كان الرئيس فؤاد شهاب خفف قليلا من وطأة المركزية من خلال تعميم البلديات مع بعض الانماء في المناطق المحرومة على وقع تدخلات ما سمي “الشعبة الثانية” او “المكتب الثاني” (الاستخبارات). في تلك المرحلة، وبرغم مديح استثنائي نالته، أنتجت الكثير من الصراعات المحلية. كما أنتجت نوعا من مركزيات جديدة، كثيراً ما انتهت بالدم والفتن أو بتنامي الزبائنية لزعماء محليين، إذ تتحول البلدية ومالها وضرائبها وموظفيها في خدمة هذا النائب أو ذلك الحزب. سيرة ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا.
هذا المطلب كان في صلب برنامج “الحركة الوطنية” بزعامة كمال جنبلاط، في مطلع سبعينيات القرن الماضي. الأصح أنه كان مطلباً ليسار متسرع، ما لبث ان صار مُشتهى “فدراليا” ليمين متقوقع، عبرت عنه آنذاك “الجبهة اللبنانية”. هذان “التسرع” و”التقوقع” دبّج صياغتهما، بطريقة وسطية، اتفاق الطائف، فجاء ليعطي اللامركزية دفعاً جديداً ويفرضها على الاجتماع اللبناني الذي ما كان له القدرة حينها لا على الرفض ولا على القبول. جُل ما كان ينشده مطلع تسعينيات القرن الذي إنطوى هو “وقف الحرب”. فكان أن قايض سلماً بارداً بنصوص دستورية المهم والأهم فيها بقيا على الدوام مثار التباسات تأويلية مفتوحة على اجتهادات كثيرة في بلد شعبُهُ (الأصح شعوبه في البلد الواحد) ومن فرط إدعاء الذكاء والفرادة وبلغة لا تخلو من عنصرية، قادر، بكليته أن يكون خبيراً في كل شيء. فكان ان اصطف بند اللامركزية إلى جانب قانون الانتخابات النيابية و”الكيفية” التي تتشكل بها الحكومات وتدبج معها بياناتها الوزارية.
مصطلح “اللامركزية”، مُسمى بوظائف كثيرة وشديد الصلة بالميثاقية والطائفية والمذهبية والزبائنية
إقرار بند اللامركزية في متن وثيقة الوفاق الوطني وإدخاله حيز “الإجماع الوطني” الذي قلما أن كان حاضراً لجبه ما يعترض مسيرة الدولة في صعودها وترقيها، لم يضع حداً للجدل الذي كان منذ أن طُرح هذا المطلب. في الأساس، انبثق جذر “اللامركزية” من رحم “الميثاقية” التي هي أيضاً من استعصاءات النظام اللبناني في الجمهوريتين الأولى والثانية. فقد كان كل تعارض أو ارتطام بين الأطراف المكونة لـ”لبنان قطعة سما” على ما تقول الأغنية البليدة، يفضي إلى تترس الجماعات وراء “الميثاقية”. هذا كان يحصل في الانماء. الإدارة. الثقافة… وفي السياسة وسرديتها وتقلباتها الطويلة والمتشعبة من بشارة الخوري إلى ميشال عون اليوم.
لم يتورع الساسة اللبنانيون عن استخدام اللامركزية كإغراء سياسي بدليل أن أحداً لم يضعها موضع التنفيذ كغيرها من بنود الطائف المؤجلة. ولعل أسوأ استخداماتها كانت تحصل للحيلولة دون أي خرق تحثه جماعةٌ ما في جماعةٍ أخرى. في كل مشهديات المسرح اللبناني كانت اللامركزية حاضراً قوياً. من اعلان دولة لبنان الكبير إلى فؤاد شهاب وما بينهما من إعلان جمهورية ودستور واستقلال ترافقوا مع صعود اليمين واليسار ومغامراتهما في حروب أهلية وحروب تحرير جسدت أكثر أنواع الانقسامات فجاجةً حول العدو والصديق وبمشاركة العدو والصديق. وهكذا استمر مصطلح اللامركزية جاهزاً دوماً في الإستخدام الوظائفي لدى الطبقة السياسية اللبنانية وتحول من ممكن مدني إلى نفير طائفي ومذهبي. وهذا لم يكن خُلواً من دهاء حاد بإلباسه ثوب التنمية المالية والإدارية. ولهذا كان مصطلح “اللامركزية”، مُسمى بوظائف كثيرة وشديد الصلة بالميثاقية والطائفية والمذهبية والزبائنية.
يحضرني هنا قول وزير الداخلية الأسبق زياد بارود بأن اللامركزية الإدارية “تحتّم لامركزية مالية”، وهذا “خيار إستراتيجي وطني”، لا “خيار زواريب”، فاذا اعتمد مع إمكانات مالية كافية، نساهم في انتقال المواطن “من معادلة الولاء مقابل الخدمات الى معادلة الضرائب والرسوم مقابل الخدمات، لان المطلوب نقل المواطن من حالته الزبائنية الى حالة مواطنية بالكامل”. هذا “المطلوب” ليس سهلاً إن لم يكن مستحيلاً. من يمكن أن يقبل بهكذا “إنقلاب”؟
(*) في الجزء الثاني والأخير غداً: اللامركزية قناع الهويات الفرعية
راجع:
أحمد بعلبكي، بعنوان اللامركزية والمحددات السياسية في إعتمادها لبنانياً: https://180post.com/archives/9808
حسين أيوب، بعنوان “لبنان يعيدنا إلى كانتوناتنا.. لبنان ليس بخير”: https://180post.com/archives/9827