للحوار الوطني المصري متطلباته وضروراته.. من أين نبدأ؟

قبل الانتخابات الرئاسية المصرية التى أجريت منتصف عام (2014) تبدت ثلاث معضلات كبرى تنتظر الرئيس الجديد.

كانت المعضلة الأولى، الأمن والحرية، أو كيف نتصدى لموجات العنف والإرهاب التى تتهدد البلد دون تغول على الحريات العامة، التى أكدها وتوسع فيها الدستور الذى أقر مطلع ذلك العام؟
كانت المعضلة الثانية، الاقتصاد والعدل الاجتماعى، أو كيف ننشط الاقتصاد العليل دون تغول آخر على ما تضمنه الدستور من التزامات وحقوق اجتماعية واسعة؟
وكانت المعضلة الثالثة، إدارة السياسة الخارجية فى بلد تعترضه مستجدات خطيرة على حدوده من جميع الاتجاهات الاستراتيجية، فضلا عن أزمة السد الإثيوبى التى أطلت بتهديداتها الوجودية على البلد ومصيره، أو كيف ننفتح على المراكز الدولية المختلفة والحفاظ بالوقت نفسه على استقلال القرار الوطنى بعيدا عن أى إملاءات محتملة؟

لم تكن تلك المعضلات مما يمكن حلحلتها بضغطة زر، أو بين يوم وليلة، ولا كانت الاستجابات على ذات قدر خطورتها.
بالتداعى نشأت شروخ سياسية واجتماعية نالت من شعبية الرئيس الجديد، التى كانت قد وصلت إلى ذروة غير مسبوقة منذ رحيل «جمال عبدالناصر»، فالشعبية خزان يسحب منه ويضاف إليه.
بالوقت نفسه تفككت الكتلة السياسية التى تجسدت فى (30) يونيو/حزيران (2013) ممثلة فى «جبهة الإنقاذ الوطنى»، التى مثلت الغطاء السياسى الواسع للتظاهرات الغاضبة ضد حكم جماعة «الإخوان المسلمين» وجرت صدامات واعتقالات بين صفوف جماعات الشباب أرهقت الضمير العام.

فى الثورة الأولى على نظامه، لم يتخذ “عبدالناصر” خطوة ديمقراطية كبيرة تحصن الحقوق الاجتماعية الواسعة، التى لا مثيل لها بالتاريخ المصرى كله، وكان الثمن ما جرى فى (1967)

بعد مرور وقت قصير على حكم الرئيس «عبدالفتاح السيسى»، دعاه الأستاذ «محمد حسنين هيكل» فى حديث متلفز إلى الثورة على نظامه.
بدا التعبير مثيرا بتوقيته ورسائله من رجل أراد أن يساعده فى مواجهة التركة الثقيلة التى ورثها خشية أن تتصدر أشباح الماضى المشاهد الجديدة.
سألت الأستاذ «هيكل» صباح اليوم التالى: «ماذا كان رد فعل الرئيس؟».
قال: «اتصل بى متقبلا ما اقترحته ومرحبا به».

قلت: «أرجو أن تضع فى اعتبارك أن أصواتا نافذة داخل الحكم الجديد تساءلت محتجة ورافضة.. هل يثور أحد على نظامه؟».
لم تكن الفكرة جديدة، فقد ثار الرئيس «عبدالناصر» مرتين على نظامه.
الأولى، فى أعقاب انفصال الوحدة المصرية السورية عام (1961).
تبدت ضرورات لمراجعة أسس النظام، وطبيعة بنيته الاقتصادية والسياسية.
صدر «الميثاق الوطنى» بعد حوارات واسعة اتسمت بالصراحة والشفافية والندية فى إطار «المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية»، كما الحوار بين الرئيس والمفكر الإسلامى «خالد محمد خالد».
ثم نشأت حاجة أخرى لثورة جديدة من داخل النظام إثر هزيمة (1967)، حاكم «عبدالناصر» نظامه ناقدا فى محاضر رسمية مسجلة كل ما هو منسوب إليه من تجاوزات داعيا بالوقت نفسه إلى الديمقراطية والتعددية الحزبية ودولة القانون والمؤسسات.

فى الثورة الأولى على نظامه، لم يتخذ “عبدالناصر” خطوة ديمقراطية كبيرة تحصن الحقوق الاجتماعية الواسعة، التى لا مثيل لها بالتاريخ المصرى كله، وكان الثمن ما جرى فى (1967).
فى الثانية، لم تساعد ظروف الحرب “عبدالناصر” فى إحداث تحول ديمقراطى كبير فى بنية النظام، وكان الثمن ــ هذه المرة ــ الانقلاب على النظام من داخله بعد رحيله بشهور قليلة.
بدوره، لجأ سلفه الرئيس «أنور السادات» إثر حرب أكتوبر (1973) إلى إجراء حوارات واسعة حول أفكار تضمنته ما أطلق عليها «ورقة أكتوبر».
كان ذلك تمهيداً للانقلاب على توجهات ثورة يوليو/تموز (1952) الاجتماعية والاقتصادية.
باختلاف الأزمان والعصور نشأت مبادرات الحوار بكافة تنويعاتها، الحقيقية والمراوغة.
هكذا نشأت دعوات حوار فى عهد الرئيس «حسنى مبارك» لم يسفر عنها أى شىء، سوى المراوحة فى المكان.

فى اللحظة الراهنة تتصدر الأزمة الاقتصادية المتفاقمة المشهد المصرى، وتستدعى بقدر خطورتها كل ما لدى البلد من مخزون خبرات وكفاءات للنظر فى أسباب وطرق مواجهتها بإعادة النظر فى السياسات والأولويات وألا تتحمل الطبقات الفقيرة والطبقة الوسطى أعباء جديدة غير محتملة من أى إجراءات اضطرارية جديدة

فى كل مرة تستدعي أزمات التحول فكرة الحوار العام.

بقدر جدية التوجه تكتسب الفكرة قيمتها التاريخية وطاقتها على التغيير.
مطلع عام (2016) طرحت فكرة بالغة الجدية على الرئيس «السيسى»، أن يقود بنفسه حوارا وطنيا مع نخب المجتمع المصرى، من مثقفين كبار، وسياسيين ونواب وشبان، والمجلس القومى لحقوق الإنسان، والمجلس القومى للمرأة واتحادات العمال والفلاحين وممثلى النقابات المهنية، وأن تصدر قرارات رئاسية وفق ما يتوافق عليه معهم.
بدأت التجربة مع المثقفين، وكان الحوار صريحا لأبعد حد، طلب الرئيس بعده أن يجتمع وزير الثقافة فى ذلك الوقت «حلمى النمنم» بالمثقفين لصياغة القرارات والاقتراحات التى ترددت فى الاجتماع.
ثم تكفلت الحوادث العاصفة التى ضربت البلاد فى أبريل/نيسان (2016) إثر اتفاقية «تيران» و«صنافير» إلى تعطيل لغة الحوار ورفع منسوب تسمم المجال العام لحدود بالغة السلبية استدعت ضمن أسباب أخرى أجواء الأزمة المخيمة.

إقرأ على موقع 180  مبارك.. مدرسة من لا يقرأون التاريخ!

وكان شبه مستحيل أن تنعقد جلسته التالية مع المجلس القومى لحقوق الإنسان، الذى أخذ يستعد بقوائم لديه عن أحوال المعتقلين وطلبات الإفراج.
فكرة الحوار طرحت نفسها مجددا ــ هذه الأيام ــ بعدما دعا الرئيس «السيسى» إليه فى إفطار «الأسرة المصرية» بحضور بعض قيادات المعارضة.
بنص كلامه فهو: «حوار وطنى مع جميع القوى السياسية دون استثناء حول أولويات المرحلة الراهنة»، «الوطن يتسع للجميع»، «الاختلاف فى الرأى لا يفسد للوطن قضية».
كان مستلفتا للإنتباه فى تلك الدعوة إسباغ صفة «السياسى» عليه، وهذا تطور يعتد به بالنظر إلى أن الوسائل السياسية شبه مستبعدة فى إدارة الشأن العام.
لكل حوار سياقه ومقتضياته.

الاعتراف بالأزمة أول مقتضيات جدية أى حوار.
فى اللحظة الراهنة تتصدر الأزمة الاقتصادية المتفاقمة المشهد المصرى، وتستدعى بقدر خطورتها كل ما لدى البلد من مخزون خبرات وكفاءات للنظر فى أسباب وطرق مواجهتها بإعادة النظر فى السياسات والأولويات وألا تتحمل الطبقات الفقيرة والطبقة الوسطى أعباء جديدة غير محتملة من أى إجراءات اضطرارية جديدة.
الخطة المقترحة تضمنت بعض النقاط التى تستحق النظر فيها بالاجتهاد والإضافة مثل «خفض الدين العام كنسبة من الدخل القومى»، و«توفير السلع الأساسية للمواطنين بأسعار مدعمة» وإشارات لافتة للإنتباه للقطاع الخاص حول مشاركته فى توسيع قاعدة الصناعات الكبرى والمتوسطة.

حتى تكتسب الدعوة للحوار صدقيتها وحرمتها فإنه من الضرورى البدء فى فتح المجال الإعلامى ورفع قوائم الحظر على الأصوات المعارضة

إذا كانت الأزمة الاقتصادية المتفاقمة أولوية أى حوار مفترض، فإن المدخل إليه هو الإصلاح السياسى قبل أى شىء آخر.
تحسين البيئة العامة المسمومة شرط أساسى وضرورى لنجاح الحوار الوطنى، إطلاق سراح المحبوسين احتياطيا، كل المحبوسين احتياطيا من غير الذين تورطوا فى عنف أو حرضوا عليه خطوة ضرورية لا بد أن تأخذ مداها.
إلغاء قانون الحبس الاحتياطى خطوة مهمة ثانية لرفع المظالم، حيث تحول بذاته إلى عقوبة.

والإسراع فى إنفاذ الوعد الرئاسى بإطلاق سراح المحكومين فى قضايا رأى عبر تشكيل لجنة متنوعة سياسيا لهذا الغرض سوف تكون خطوة حاسمة فى رفع منسوب الرهان السياسى على نجاح الحوار الوطنى المنتظر.
كان الإفراج عن (41) محتجزا خلف قضبان السجون وفق قانون الحبس الاحتياطى مما ساعد إلى حد كبير فى إسباغ مقبولية على دعوة الحوار الوطنى، أملا أن يسفر عن تغيير فى قواعد اللعبة السياسية وتحسين البيئة العامة.
إذا ما جرت الإفراجات دون تباطؤ فإن أى شكوك مشروعة فى جدية وجدوى الحوار سوف تتبدد بأسرع من أى توقع.
فتح نوافذ الحوار العام بلا مصادرة أو رقابة أمام التنوع السياسى فى البلد عبر وسائل الإعلام المختلفة يساعد بالضرورة على إزاحة أى شكوك.
لا حوار ممكنا إذا لم يفتح المجال العام للتعدد والتنوع.
التنفس السياسى بحرية أول علامات الجدية.
حتى تكتسب الدعوة للحوار صدقيتها وحرمتها فإنه من الضرورى البدء فى فتح المجال الإعلامى ورفع قوائم الحظر على الأصوات المعارضة.
ما الأطراف المشاركة فى الحوار؟
وما الأطر السياسية التى يجرى داخلها؟
سؤالان لازمان تفرضهما ضرورات اتساع أفق الحوار وجدية جدول أعماله.
للحوار متطلباته وضروراته، التى تستدعى المصارحة الكاملة حتى يكتسب ثقة الرأى العام.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
عبدالله السناوي

كاتب عربي من مصر

Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  لبنان في قلب "حرب السفن".. و"الأحضان"!