المجاهدون الأفغان.. رعاية أمريكية مالاً وسلاحاً وسياسة

بعد أن شرحت فى مقالة الأسبوع الماضى التقسيمات العديدة لأفكار الصحوة الإسلامية، وبعد أن أوضحنا كيف أن التيار السلفى الوهابى أصبح هو العنوان الأكبر للوعى الإسلامى الشعبى والسياسى فى سبعينيات القرن الماضى متوازيا مع الصعود الإقليمى للسعودية، نشرح فى هذه المقالة واحدة من أهم بؤر الصراع التى خاضها أحد تيارات الإسلام السياسى الذى أصبح لاحقاً العنوان الأبرز فى العلاقات الدولية حتى اللحظة.

كانت بؤرة الصراع الأهم التى تشكلت فيها التيارات السياسية والجهادية الإسلامية هى أفغانستان، والتى شهدت منذ منتصف السبعينيات الماضية حتى الآن، صراعا مستمرا على السلطة كان أحد أطرافه بشكل دائم هى تيارات الإسلام السياسى على تنوع مواقفها وأيديولوجياتها.

***

فى ١٩٧٣، أنهى الجنرال محمد داوود خان الملكية الأفغانية فى انقلاب عسكرى أيدته الكثير من القوى السياسية فى أفغانستان ولا سيما الحزب الشعبى الديموقراطى الذى أصبح أحد أهم الفاعلين السياسيين فى أفغانستان خلال الحرب السوفيتية ــ الأفغانية!
كان الجنرال داوود منحازا للاتحاد السوفيتى فى البداية، لكنه سرعان ما التزم بموقفه الداعم لحركة عدم الانحياز وتوترت علاقاته مع القادة السوفييت وخاصة بعد رفضه تدخل السوفييت فى صنع السياسة الخارجية الأفغانية! لكن لم يكن هذا أهم التحديات التى واجهت داوود خان، فقد كانت تنتظره معضلة كبرى ممثلة فى تحول الحزب الشعبى الديموقراطى ضده وهو ما تأجج بسلسلة اعتقالات أمر بها الجنرال داوود فى إبريل/نيسان ١٩٧٨ أدت إلى قيام ثورة «ثور» ضده لتطيح به وتتشكل الجمهورية الديموقراطية الأفغانية بقيادة السياسى نور طارقى وبدعم قائد الثورة حفيظ الله أمين.
كان كل من طارقى وأمين من قيادات جبهة «خلق» وهى إحدى الجبهات الماركسية داخل الحزب الشعبى الديموقراطى، والتى كانت العدو الأشرس لجبهة أخرى داخل الحزب كانت تعرف باسم جبهة «بارشام»، والأخيرة كانت تدعو إلى التحول نحو دولة اشتراكية إسلامية وليست ماركسية!

كانت واحدة من أكبر الانتقادات التى وجهت إلى الولايات المتحدة هى أنها ومن خلال هذه العملية المخابراتية قد دعمت قيادات منظمة “القاعدة” الإرهابية، مثل أسامة بن لادن، الذين انقلبوا على الولايات المتحدة في ما بعد، ورغم أن كثيرين ينفون هذه التهمة مؤكدين أن الدعم الأمريكى اقتصر على المجاهدين الأفغان ولم يشمل أيا من المجاهدين العرب (العرب الأفغان)

بيد أن انتصار ثورة «ثور» بقيادة زعماء جبهة “خلق” لم يدم كثيرا، حيث سرعان ما اندلعت الصراعات بين نور طارقى وحفيظ الله أمين، ليتم اغتيال الأول بتوجيهات من الثانى، لكن لم يحصل أمين على الدعم السوفيتى اللازم، حيث رأت القيادات السوفيتية أن اغتيال أمين لطارقى قد يعنى الخروج عن سيطرة الاتحاد السوفيتى فقامت القوات السوفيتية باجتياح أفغانستان فى ديسمبر/كانون الأول ١٩٧٩ واغتيال أمين وتعيين بابريك كارمال بدلا منه لتندلع على الفور حرب أهلية بين الحكومة الأفغانية المدعومة من الاتحاد السوفيتى وبين المجاهدين الأفغان، وهو الصراع الذى استمر لعقد كامل من الزمان وانتهى بانهيار الاتحاد السوفيتى وسقوط النظام التابع له فى أفغانستان!
لكن وقبل أن نحلّل تطور هذا الصراع يجدر بنا أولا أن نحدد من هم تحديدا المجاهدون الأفغان؟

***

بدأت حركة المجاهدين الأفغان بتأسيس مجموعة من القيادات الدينية والقبلية الأفغانية لعدد من المنظمات الجهادية لمحاربة جمهورية أفغانستان الديموقراطية المدعومة سوفيتيا، وفى مقدمة هذه القيادات شخصيات مثل صبغة الله مجددى الذى أصبح لاحقا رئيسا مؤقتا للبلاد، وشخصيات أخرى مثل سيد أحمد جيلانى ومولاى نبيل محمدى. قامت هذه القيادات بتأسيس عدة حركات جهادية تزعمتها جبهة النجاة والجبهة القومية الإسلامية لإنشاء جمهورية إسلامية فى أفغانستان، وقد سافر صبغة الله مجددى فى ١٩٧٩ بالفعل للولايات المتحدة طالبا الدعم الأمريكى لهذه الحركات الإسلامية لإزاحة النظام الشيوعى الأفغانى ولكن تردد الأمريكان فى قبول الطلب قبل أن يغيروا رأيهم بعد الغزو السوفيتى لأفغانستان فى الأسابيع الأخيرة من عام ١٩٧٩.
كان لاتحاد القبائل والحركات الإسلامية في مواجهة الغزو السوفيتى صداه الشعبى الكبير، حيث انضمت العديد من الحركات السياسية الإسلامية فى أفغانستان للجهاد مثل الجماعة الإسلامية وحزب الإسلام الخالص وحزب الإسلام التابع لحكمتيار والاتحاد الإسلامى وحزب الانقلاب (الثورة) الإسلامى.. إلخ.
ولكن نظرا لأن هذه الأحزاب كانت تعبر فى الوقت ذاته عن إثنيات وقبليات متعددة داخل أفغانستان، فقد نشأت منافسة داخلية بينهم أدت فى بعض الأحيان إلى الاقتتال الداخلى بين المجاهدين.
وبالإضافة لهذه الحركات الإسلامية السنية فقد انضم لمقاومة السوفييت أيضا بعض الحركات الشيعية فى وسط أفغانستان، وبعض الحركات الماوية المدعومة من الصين، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من المجاهدين العرب من الشباب الذين انضموا دعما للحركات الجهادية متأثرين بسرديات الصحوة الإسلامية ومدفوعين أيضا بنجاح الإسلاميين فى إيران فى إزاحة النظام العلمانى وإنشاء الجمهورية الإسلامية الإيرانية!
كان الدعم الأكبر للمجاهدين الأفغان هو دعم أمريكى خالص؛ ففى عام ١٩٧٩، وبرغم توتر العلاقات بين إدارة الرئيس الأمريكى جيمى كارتر وبين الرئيس الباكستانى ضياء الحق بعد أن قام الأخير بإعدام رئيس الوزراء والرئيس الباكستانى السابق ذو الفقار على بوتو، إلا أن ضياء الحق وخوفا من الخطر السوفيتى على بلاده من ناحية وخوفه من تأثير أزمة اللاجئين الأفغان على الأوضاع فى باكستان من ناحية أخرى قرر طلب دعم أمريكى للمجاهدين الأفغان، وهو ما استجاب له الرئيس الأمريكى كارتر خوفا من خسارة حلفائه فى جنوب آسيا بعد أن خسر بالفعل النظام الإيرانى لصالح الثورة الإسلامية هناك.

ثمة شواهد عديدة تؤكد أن أسامة بن لادن ورفاقه قد تلقوا دعما غير مباشر من المخابرات الأمريكية وتحديدا عن طريق حكمتيار، أحد أهم شركاء بن لادن، حيث تعاونا معا لنقل العديد من المجاهدين العرب إلى الحدود مع باكستان لتلقى التدريبات العسكرية الأمريكية

***

إقرأ على موقع 180  حتى لبنان كان في انتظار لافروف في أبو ظبي

قررت الإدارة الأمريكية فى البداية توجيه المخابرات المركزية الأمريكية لتقديم دعم غير عسكرى للمجاهدين الأفغان، فنفذت الأخيرة العملية المخابراتية التى اتخذت الاسم الكودى «الإعصار» بتخصيص ٧٠٠ ألف دولار أمريكى كمساعدات طبية وغذائية للاجئين الأفغان، ولكن وبعد الغزو السوفيتى تم رفع الدعم لـ٣٠ مليون دولار فى العام الواحد ووصل فى ١٩٨٧ إلى أكثر من نصف مليار دولار فى شكل مساعدات عسكرية متقدمة للمجاهدين من أجل القضاء على الوجود السوفيتى هناك، بل ومن أجل جر السوفييت إلى مستنقع مماثل للمستنقع الذى وقع فيه الأمريكان فى فيتنام ورغم الكلفة العالية لهذه العملية المخابراتية إلا أنه يعتقد أنها ساهمت بالفعل فى استنزاف الاتحاد السوفيتى عسكريا واقتصاديا وهو ما انتهى بانهياره مع بداية العقد الأخير من القرن العشرين!
لم يكن الدعم الأمريكى للمجاهدين ممثلا فقط فى الأموال والعتاد العسكرى، ولكنه اشتمل أيضا على تدريبات لوجستية وعسكرية متقدمة تمت معظمها على الحدود الباكستانية ــ الأفغانية واشتملت دعم العديد من القادة الأفغان وفى مقدمتهم نجم الدين حكمتيار وأحمد شاه مسعود وجلال الدين حقانى وبرهان الدين ربانى وغيرهم من القادة الذين انقلب بعضهم لاحقا على الولايات المتحدة الأمريكية رغم كل الدعم المادى والعسكرى الذين حصلوا عليه خلال سنوات الحرب!
وقد كانت واحدة من أكبر الانتقادات التى وجهت إلى الولايات المتحدة هى أنها ومن خلال هذه العملية المخابراتية قد دعمت قيادات منظمة “القاعدة” الإرهابية، مثل أسامة بن لادن، الذين انقلبوا على الولايات المتحدة في ما بعد، ورغم أن كثيرين ينفون هذه التهمة مؤكدين أن الدعم الأمريكى اقتصر على المجاهدين الأفغان ولم يشمل أيا من المجاهدين العرب (عرفوا أيضا باسم العرب الأفغان) والذين يقدر عددهم بنحو ٣٥ ألفا، إلا أن ثمة شواهد عديدة تؤكد أن أسامة بن لادن ورفاقه قد تلقوا دعما غير مباشر من المخابرات الأمريكية وتحديدا عن طريق حكمتيار، أحد أهم شركاء بن لادن، حيث تعاونا معا لنقل العديد من المجاهدين العرب إلى الحدود مع باكستان لتلقى التدريبات العسكرية الأمريكية ولهذا حديث منفصل.

ملحوظة: متاح على موقع المخابرات الأمريكية على الإنترنت تقرير سرى تم الإفراج عنه يتضمن ٧٤ ورقة كانت قد أصدرتها المخابرات الأمريكية فى أكتوبر ١٩٨٠ بعنوان «الغزو السوفيتى لأفغانستان: تأثيرات للتحذير» يتضمن معلومات قيمة عن جبهات القتال فى السنة الأولى للحرب وموقف المخابرات الأمريكية وتقديرها للموقف، وقد اعتمتد هذه المقالة على هذا التقرير فى بعض تفاصيله.

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
أحمد عبدربه

مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة وأستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر

Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  جبهة البحر الأحمر في صلب معادلات حرب غزة