هل يحقّ للأكاديمي تنزيه الذات.. وشيطنة الموضوع؟
Students sit in the library of the university KU Leuven "Katholieke Universiteit Leuven" in Leuven, Belgium April 18, 2019. Picture taken April 18, 2019. REUTERS/Piroschka van de Wouw

هل يمكن فصل الأستاذ الجامعي عن البيئة الاجتماعيّة والسياسيّة والإقتصاديّة التي تحتضنه؟ بعبارة أخرى، عندما يستخدم الأستاذ الجامعي شبكة العلاقات التي تؤمّنها له البيئة الجامعية التي ينتمي إليها من أجل أن يُنتج فكراً ويُحصّل مالاً وشهرة ومنظومة علاقات، هل يمكنه أن ينفض يديه، في لحظة ما، من بيئة توفّر له معظم ما يريده؟

أقرت جامعة هارفرد هذا الأسبوع، وبعد تردّد طويل، أنّها تتحمّل مسؤوليّة تاريخيّة عن مشاركتها ودعمها لنظام العبوديّة في أمريكا واستفادتها منه. شعار جامعة هارفرد هو “الحقيقة” (Veritas)، ولا يسع المرء إلاّ أن يتساءل مع بعض السخرية: لماذا أخذت الجامعة كل هذه السنين لتعترف أخيراً بالحقيقة؟ أهي مجبرةٌ أم بطلة؟ وهل أقرّت بكلّ الحقيقة أم ببعضها فقط؟

علاقة هارفرد، وجامعات كثيرة مثلها، بنظام العبوديّة عميقة ومتشعبّة. فقد سمحت هذه الجامعات المرموقة باستخدام الكثير من المُستعبدين السود كخدم في أحرامها لأغراض فرديّة أو جماعية؛ في هارفرد تحديداً، حدث ذلك بين سنتي 1636 (عام تأسيس الجامعة)، و1783 (عندما مُنع الرق في ولاية ماسّاشوستس حيث تقع الجامعة). لكن الموضوع لا ينتهي هنا، إذ بعد سنة 1783 استمرّت هارفرد بقبول التبرّعات الماليّة من أثرياء وخرّيجين كوّنوا ثرواتهم من خلال استغلال العبيد، أو كانوا من داعمي النظام العنصري في أمريكا.

إقرار جامعة هارفرد لم يرضِ بعض الأكاديميّين الذين يُصنّفون أنفسهم في خانة “الليبراليّين” في الولايات المتحدة، وبينهم أساتذة وتلامذة وموظّفون في هارفرد نفسها، اعتبروا الخطوة ناقصة وطالبوا الجامعة بدفع تعويضات للمتضرّرين (من هم هؤلاء هو موضوع آخر). نفاق الأكاديميّين الليبراليّين في أمريكا لا يعلو عليه نفاق، لأنّهم ينسوا – عن قصد أو عن غير قصد – أنّهم هم أيضاَ ورثة نظام العبوديّة وأنّ عليهم مسؤوليّة لا تقلّ عن مسؤوليّة جامعات مثل هارفرد، لأنّهم يستفيدون مباشرةً من الثروات التي جُمعت بعرق وكدح العبيد ونظام العبوديّة. لا نجدهم مثلاً يرفضون رواتبهم والعطاءات السخيّة التي قدّمتها وتقدّمها لهم جامعاتهم، ولا نجدهم يتشاركونها مع “المتضرّرين” من نظام العبوديّة. ألا ينبغي بالمنطق نفسه الذي نطالب به جامعة مثل هارفرد أو غيرها أن تدفع تعويضات لضحايا نظام العبوديّة أن نطالب أيضاً مَن كوّن الثروة والشهرة في البيئة الحاضنة لنظام العبوديّة أن يدفع أيضاً جزءاً من التعويض ويتحمّل بعض المسؤوليّة الفعليّة؟

هنا ندخل في إشكاليّة المسؤوليّة الفرديّة مقارنةً بالمسؤوليّة الجماعيّة. ثمة قول بأنّه لا ينبغي ملاحقة الناس على الجرائم التي اقترفها أسلافهم. إذا كان من ضرورة لذلك، فيجب حصر ذلك بالمسؤوليّة الجماعيّة، وعادة ما تكون شكليّة. أمّا المسؤوليّة الفرديّة في هكذا أمور، فلا وجود لها في عقل المفكّر الجامعي إلاّ من باب رفع العتب. أقلّ ما يقال في هكذا عرف أنّه إجرائي وليس أخلاقياً.

لا يمكن للأكاديمي أن يعمل وينجح من دون هذه البيئة الاجتماعيّة السياسيّة الإقتصادية التي تؤمن عيشه في ظروف جيّدة وتُوفر له ظروف النجاح: الحرية النسبية، الوقت والتمويل للتفكير والكتابة، التسهيلات لنشر أفكاره، فرص التواصل مع مفكّرين آخرين وقرّاء. هل بإمكانه أن ينتج هذه كلها بمفرده؟ قطعاً لا

مثلاً، هناك موضة سائدة الآن عند بعض الأكاديميّين الليبراليّين بأن يُشهّروا بجامعاتهم عبر قولهم إن حرم هذه الجامعة أو تلك تم الإستحواذ عليه بطريقة غير شرعيّة من سكّان أمريكا الأصليّين. الفكرة جميلة جداً، لكن هل هذا يعني أنّ هذا الأكاديمي سيرفض إمتلاك منزل في ذلك الحرم؟ قطعاً لا. هل سيقاطع الجامعة حتّى تعيد المكان إلى أصحابه الأصليّين الذين هُجّروا منه؟ قطعاً لا. إنّه مجرد كلام، والقصد منه إيجاد مخرج رخيص لمأزق أخلاقي عميق حتّى لا يكون الأكاديمي – بينه وبين نفسه على الأقلّ – مسؤولاً عن الإرث الرهيب الذي هو في صلب القدرات الهائلة للبيئة التي تحتضنه وتمكّنه وتوفر له الشهرة.

لا يمكن للأكاديمي أن يعمل وينجح من دون هذه البيئة الاجتماعيّة السياسيّة الإقتصادية التي تؤمن عيشه في ظروف جيّدة وتُوفر له ظروف النجاح: الحرية النسبية، الوقت والتمويل للتفكير والكتابة، التسهيلات لنشر أفكاره، فرص التواصل مع مفكّرين آخرين وقرّاء، إلخ. هل بإمكانه أن ينتج هذه كلها بمفرده؟ قطعاً لا. وهل بمقدوره أن يحقّق النجاح ذاته إذا كان عليه أن يكدح من أجل تحصيل مدخول يكفيه وأسرته، أو إذا كان خائفاً على حياته، أو إذا لم يجد من ينشر مقالاته وكتبه أو من يقرأها، إلخ.؟ قطعاً لا.

عندما يستفيد الأكاديمي من نظام ما يستغلّ الآخرين من أجل أن يوفر له التسهيلات والتمويل حتى يتمكن من إنتاج فكره وتسويقه، فهذا يجعله شريكاً في الاستغلال مهما حاول التحايل على ذلك بفجاجة أو لباقة. التلطّي وراء المسؤوليّة الجماعيّة أو رمي المشكلة في حضن المؤسّسة هو نوع من النفاق والمزايدة والمكابرة.

في هذا الزمن تحديداً، وأعني زمن النيوليبراليّة، من المستحيل أن تُنتج هذه التبعيّة للبيئة الماليّة والاجتماعيّة والسياسيّة (مع تشابكها ببعضها البعض) مفكّراً أكاديميّاً مستعدّاً للتضحية بمصالحه من أجل أفكاره ومبادئه. وقبل أن أجيب عن الغير، أجيب عن نفسي وأقول بأنني شخصيّاً لست مستعدّاً للتضحية بالإمتيازات التي توفرها الجامعة لي (أقول ذلك بكل شفافية حتّى لا يُعتقد أنّني مهتم فقط بوعظ الآخرين) والأهم أنّنا ضحايا نظام لا يمكننا أن نغيّره بما لدينا من وسائل كأفراد.

إقرأ على موقع 180  تحولات الهوية في لبنان: الدولة أولاً

من دون شك، هذا الكلام سوداوي ومتشائم، وإن دلّ على شيء فهو على حجم المأزق الذي يعيشه الأكاديميّون في زمن النيوليبراليّة، حيث أصبحت المزايدة في الخطابات والمواقف سمة المفكّرين عامّةً، والأكاديميّين خاصّةً، في ظل العجز عن تحقيق تغيير جدّي في المجتمع. أصبحنا نطالب الآخرين بالقيام بأشياء نرفض أو نعجز عن أن نقوم بها أنفسنا. نعطي لأنفسنا كثيراً من التبريرات ونحجبها عمن ننتقدهم. نصنع حائطاً ليحمينا من المأسي والمشاكل التي تسبّبها البيئة التي تحتضننا.

جرت العادة أن يُلام الأكاديمي على أنّه أسير زنزانة فكريّة. في زمن العولمة والنيوليبراليّة، توسّعت هذه الزنزانة لتصبح مكانيّة (الحرم الجامعي والمكتب الجامعي). وأصبح الـ office كالقفص، وأصبحنا كالنعامة ندفن رؤوسنا في كتبنا ومختبراتنا لعلّنا لا نرى العالم من حولنا على حقيقته. وسبب ذلك أنّ الجامعات تحوّلت فعليّاً إلى شركات تجاريّة، هدفها الربح. لذلك، أصبحت عاجزة عن مجاراة مشاكل العالم، وما كان ممكناً قبل زمن العولمة والنيوليبراليّة، أصبح مستحيلاً معها.

مثلاً، إذا نظرنا في قيمة ما تملكه جامعة هارفرد كمخزون استراتيجي (Endowment)، نجده يتعدّى الـ 53 مليار دولار تستثمره الجامعة وتستخدم جزءاً بسيطاً منه (حوالي 5% من المردود السنوي) لسدّ بعض نفقاتها، وأهمّها رواتب الأساتذة والمنح الجامعيّة. الأمر ذاته يحدث في جامعة ييل التي يتعدّى مخزونها الإستراتيجي الـ 42 مليار دولار. منظومة جامعة تكساس (تتكوّن من ثماني جامعات) يقارب مخزونها الـ 43 مليار دولار. الجامعة حيث أدرّس (وهي صغيرة مقارنةً بالجامعات الكبيرة) لديها مخزون قيمته ملياران وستمائة مليون دولار. أضف إلى ذلك، الأملاك والعقارات وشبكة المصالح والخرّيجين وجهاز العلاقات العامّة واللوبي، فنكون فعليّاً نتحدّث عن شبه جمهوريّات معقّدة، لم يعد التدريس والبحث همّها الوحيد، وأصبحت مجالس الأمناء فيها كمجالس الإدارات التي تدفع عشرات الملايين من الدولارات من أجل تبنّي أجندتها.

هذا التغيير في العالم الأكاديمي في أمريكا أصبح الآن نموذجاً تصبو إليه معظم الجامعات حول العالم. ومع تمدّد وانتشار هذا النموذج، تزداد تبعيّة المفكّر أو الباحث الأكاديمي لمؤسّسته وللبيئة التي تحتضنه.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  التطبيع السعودي فرصة لفلسطين.. وإلا لاتَ ساعة مندم