في ماهيّة الإسلام.. أن نكون أعداءَ من كان منّا وكُنّا منه (21)

في سياق هذه السلسلة التي لم يتغير عنوانها الأول (في ماهية الإسلام)، أتوقف في هذه المقالة عند مسألة وعي هويّاتنا المتداخلة، وهو وعي يفضي إلى تحصين ذواتنا فنقف سداً منيعاً بوجه التطرّف الديني، لذلك يكره غلاة التطرف في مجتمعاتنا الإسلامية أي محاولة للتدقيق في الهويات ويكرهوننا عندما نحاول إختراق حواجزهم.

عندما اجتاح السلاجقة بلاد الشام بدءاً من سنة 1071، لم يكن هدفهم فقط السلطة السياسية، بل تأسيس أو دعم المذاهب السنّيّة فيها وإضعاف أو القضاء على المذاهب الشيعيّة التي كان يتبعها في تلك الفترة أكثريّة مسلمي بلاد الشام، خصوصاً الإثني عشريّة، الإسماعيليّة، النزاريّة (الذين يُلقّبوا تهكّماً بالحشّاشين)، والموحّدين (أتباع الحاكم بأمر الله الذين سمّوا فيما بعد بالدروز). وكان للشيعة تواجد على امتداد جغرافيّة بلاد الشام، وهو ما ساعدهم في حكمها، من حلب في الشمال والبادية الممتدّة منها إلى حدود الموصل شرقاً (والتي حكمها الحمدانيّون والمرداسيّون بعدهم)، مروراً بمنطقة حمص ودمشق والساحل المقابل لها غرباً، إلى فلسطين جنوباً (والتي كانت في قبضة الفاطمييّن). وكان هناك عدد كبير (أقرب إلى نصف السكّان إن لم يكن أكثر) من المسيحيّين منقسمين إلى فرق دينيّة وأعراق مختلفة.

قرنٌ تقريباً بعد الغزو السلجوقي (وهو غزو إستعماري بكل ما للكلمة من معنى)، حتى بدأ هذا النسيج يتغيّر، ونقُصَ عدد المسيحيّين والشيعة بشكل كبير، حتّى أصبح معظم سكّان بلاد الشام من أتباع المذاهب السنّيّة. وتكرّر الأمر في مصر بعد نهاية الدولة الفاطمية في سنة 1171 وقيام الدولة الأيّوبيّة.

هذا الزلزال الجيوسياسي كانت له تداعيات ضخمة على الهويّة الإسلاميّة. كان السلاجقة تكتّل من العشائر التركيّة من وسط آسيا اعتنقت الإسلام (المذهب الحنفي تحديداً) وقامت بنشره. لكن ما هو فريد في حالة السلاجقة أنّهم كانوا ـ وفق التعبير المعاصر ـ متطرّفين في استخدامهم ونشرهم للفكر الديني السنّي، وذلك نتيجة فقدانهم للشرعيّة السياسيّة. هُم، كما الكثير من الحكّام كالأيوبيّين والمماليك من بعدهم، اغتصبوا السلطة بالسيف والعنف، لا بقوّة الدعم الشعبي أو النسب. لذلك، اشتروا شرعيّة لهم كعرّابين لفكر سنّي معيّن وأحاط بهم بعض الفقهاء السنّة (أمثال الجويني والغزالي) معتقدين أنّ هكذا فرصة لا يجب أن تفوّت من أجل القضاء على أعداء السنة (في الداخل أو الخارج).

أهل بلاد الشام (سوريا، لبنان، الأردن، وفلسطين) هويّاتهم متداخلة عبر التاريخ. من شبه المستحيل أن نجد بينهم مسلماً ليس له أصل مسيحي، أو سنّياً ليس له أصل شيعي، أو علمانياً ليس له أصل ديني. وإذا تكلّمنا عن الأعراق، فحدّث ولا حرج: العربي والتركي والكردي والفارسي والسرياني والعبراني والقبطي والإفريقي والإغريقي، إلخ. إنّه خليط مثل ماء البحر المتوسّط

في بلاد الشام تحديداً، وجد السلاجقة في بعض فقهاء أهل السنة ضالتهم: مجموعة تتوق إلى قيام حكم سنّي ينهي الهيمنة الشيعيّة على الحياة الدينيّة والسياسيّة والفكريّة والإجتماعيّة والإقتصاديّة. فقام هؤلاء، بمساعدة علماء جاؤوا من الأندلس أو من بلاد الشرق (خراسان وإيران) ولأسباب شتّى، بخلق نهضة دينيّة أسّست لهويّة سنّيّة في بلاد الشام بقي أثرها حتّى اليوم. هذه الهويّة السنّيّة كانت مختلفة عن الهويّة السنّيّة التعدّديّة التي كانت مزدهرة في بلاد خراسان وإيران وحتّى في العراق، حيث نجد انتشار وازدهار الفكر الصوفي والمذاهب الصوفيّة على ألوانها؛ الفلسفة على أنواعها؛ وفرق الكلام على تشعّباتها، بين معظم أهل السنّة.

في بلاد الشام، إتخذت النهضة السنّيّة لوناً مختلفاً: التركيز شبه المطلق والأعمى على الحديث النبوي وتقديس رواته؛ حصر الفكر السنّي بأربعة مذاهب فقهيّة؛ رفض الفلسفة وعلم الكلام إلا في أمور سطحيّة جدّاً. الإتّجاهات الفكريّة الأخرى لم تجد أرضيّة قويّة أو شعبيّة عارمة في بلاد الشام، فأنتج تطرّف أهل الحديث هويّة سنّيّة متزمّتة دينيّاً وفكريّاً، لا تجد فائدة أو مصلحة في الرأي الآخر أو في وجود الآخر (فظهر أمثال ابن تيميّة، والمتشكّلين والمتشبّعين من هذا التطرّف البغيض، وبثّوا سمومهم في جسد الأمّة الإسلاميّة).

عندما نتحدّث عن العصر الذهبي للحضارة الإسلاميّة، فنحن نعني تلك الفترة عندما كانت التعدديّة في العالم الإسلامي رائجة ومحبوبة: تعدّدية في داخل الإسلام نفسه، ووجود أكثريّة عدديّة من غير المسلمين (نصارى، يهود، بوذيّون، زردشتيّون، هندوس، إيزيديّون، إلخ.) ساعدت المسلمين في خلق حضارة أغنتهم وأغنت العالم. بدأت هذه الحضارة بالإنهيار عندما إنتقل الثقل الفكري والديني من البلاد الإسلاميّة الشرقيّة إلى بلاد الشام وبعد ذلك مصر، حيث أصبح لأصحاب الحديث نفوذ ضخم في الحياة السياسيّة والفكريّة والثقافيّة والإجتماعيّة، فانتقل مفهوم العصر الذهبي من الفترة الممتدة بين القرن الثامن والقرن الحادي عشر، إلى الفترة المحبوبة عند علماء الحديث: عصر النبي وأصحابه (وهي خرافة لها مسؤوليّة مباشرة في بدء تخلّف المسلمين منذ ذلك الوقت وعجزهم منذ القرن التاسع عشر عن خلق نهضة دينيّة).

كان همّ أصحاب النهضة السنّيّة في بلاد الشام محصوراً في تجميع أمّهات كتب الحديث وكلّ ما يتطلّبه علم الحديث، فقاموا بالسفر إلى العراق وخراسان لاستحضار صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند أبي يعلى الموصلي ومسند ابن حنبل وأمثالها من كتب الحديث، وطبقات ابن سعد وتاريخ البخاري (أي الكتب التي تُعرِّف رواة الحديث)، وعدد قليل جدّاً من كتب العقيدة التي تختزل الإسلام بما يراه علماء الحديث ضرورياً ومناسباً. أسّس هذا التركيز الأعمى على علم الحديث في بلاد الشام ومصر منذ القرن الثاني عشر لنشر مفهوم أحادي عن الإسلام. هذا المفهوم وهذه المقاربة الأحاديّة للإسلام تمددا نحو الكثير من البلاد الإسلاميّة وكانت النتيجة أن بلاد الشام ومصر أصبحتا مع الوقت (نتيجة سياسة السلاجقة والأيوبيّين والمماليك) مركز الثقل عند أهل السنة (قبل القرن الثاني عشر، كان ثقل أهل السنّة في العراق وإيران وخراسان).

إقرأ على موقع 180  ما دخَلَ الدينُ السياسي بلداً إلا وكانت النتيجة حرباً أهلية!

مشكلة علماء الحديث أنّهم كانوا يردّدونه كما تردّد الببغاوات الكلام، من هنا كان تأثيرهم كارثياً إلى حد أنهم عرّوا المسلمين من كامل التراث والعوامل التي ساعدتهم على خلق حضارة فريدة. فأصبح كلّ موضوع لا يدخل فيه الحديث غير ضروري أو مرفوض، وأصبح المسلمون عاجزين عن المحافظة على قوة فكرهم الديني وتعدّديتهم الدينيّة. لذلك نجد أن معظم المسيحيّين في مصر (والذين كانوا أكثرية أهلها حتّى القرن الثالث عشر) أصبحوا أقليّة في ظل حكم المماليك، وذلك نتيجة عوامل كثيرة منها الإضطهاد على أشكاله (الديني والسياسي والإجتماعي)؛ القيود على العبادة وأماكنها؛ المصادرات للأملاك؛ الإغراءات الماديّة والسياسيّة؛ الهجرة (وهذه الأخيرة كانت قليلة قبل القرن العشرين). كذلك الأمر في بلاد الشام مع ما قام به المماليك من قتل أو تهجير لبعض سكّان ساحل جبل لبنان الدروز والشيعة والنصارى أو “تشجيعهم” على اعتناق السنّة، وتوطين سكّان سنّة على الساحل (وهي سياسة اعتمدها أيضاً العثمانيّون). وبقي هذا الرعب حتّى أوائل القرن التاسع عشر عندما قام الوهّابيّون بقتل كثيرين من الدروز والنصارى في البلقاء (الأردن) وحوران أو تهجيرهم إلى فلسطين ومناطق دمشق والبقاع وجبل عامل.

ما يمكننا فعله هو التقليل من ضرر وسموم الهويّة المختزلة والمتزمّتة. وعينا لهويّاتنا الدينيّة المتداخلة يجبرنا على قبول بعضنا البعض بدل أن نتمترس وراء هويّة  دينيّة أو طائفيّة واحدة، ونصبح أعداء لمن كان منّا وكنّا منه

انتشر مشروع تحويل بلاد الشام إلى أكثريّة سنّيّة على نطاق واسع أثناء حكم السلطان نور الدين (وأبيه عماد الدين زنكي كان من أمراء السلاجقة الذين أتوا مستعمرين إلى بلاد الشام). فقام بمصادرة مدارس ومكتبات وأملاك الشيعة وتحويلها إلى مدارس ومساجد سنّيّة، ومنع الشيعة من ممارسة الكثير من شعائرهم في المدن الكبرى. مثلاً، يقول ابن عساكر في تعداده لإنجازات نور الدين في حلب:

“أظهر بحلب السنة حتى أقام شعار الدين، وغير البدعة التي كانت لهم في التأذين، وقمع بها الرافضة المبتدعة، ونشر فيها مذاهب أهل السنة الأربعة..”.

واستمرّت هذه السياسة بعده في فترة صلاح الدين وحكم الأيّوبيّين، وأهم مثل على ذلك كان مصادرة الأزهر من الإسماعيليّين الشيعة وتحويله إلى مؤسّسة سنّيّة.

حتّى في مكّة والحجاز، كان معظم سكّانها من الزيديّة أو الإثني عشرية كما يذكر الرحّالة ابن جبير عندما زارها لواجب الحجّ في سنة 1183. أين ذهب هؤلاء الشيعة؟ هل تبخّروا في الهواء، أم أصبح معظمهم سنّة نتيجة سياسات الأيّوبيّين والمماليك؟ والسؤال يتكرّر في كثير من الأماكن. دمشق تحوي كثير من المزارات الشيعيّة، ومن المؤكد أن لا الأمويين ولا العبّاسيّين هم من شيّدوها، بل شيعة دمشق بدعم من الفاطميّين. أين ذهب شيعة دمشق؟ وما أصل العائلات الشاميّة (الأشراف) التي تزعم أنّها من عترة النبي؟ ألم تكن هذه العائلات في فترة حكم الفاطميين شيعة وأُجبرت على ـ أو “استحسنت” ـ التحوّل إلى المذهب السنّي؟

المقصود من كل هذا الكلام ليس استحضار الماضي من أجل بث الخلاف. بالعكس، علينا إستحضار الماضي عندما تصبح السرديّة الكلاسيكيّة عن الماضي (والتي فيها كثير من التضليل) خطراً علينا في حاضرنا ومستقبلنا. أهل بلاد الشام (سوريا، لبنان، الأردن، وفلسطين) هويّاتهم متداخلة عبر التاريخ. من شبه المستحيل أن نجد بينهم مسلماً ليس له أصل مسيحي، أو سنّياً ليس له أصل شيعي، أو علمانياً ليس له أصل ديني. وإذا تكلّمنا عن الأعراق، فحدّث ولا حرج: العربي والتركي والكردي والفارسي والسرياني والعبراني والقبطي والإفريقي والإغريقي، إلخ. إنّه خليط مثل ماء البحر المتوسّط. عاداتهم ترشح منها هوياتهم المتداخلة، بحيث إذا قلنا أنّ هناك مسلمون يتشبّهون بالمسيحيّين (أو العكس) يكون كلامنا بعضه صحيح وبعضه خطأ، لأنّهم بالحقيقة يتشبّهون بجزء من تراثهم. ويصبح الأمر أكثر تعقيداً مع رمي هويتنا القديمة وإرتداء هويّة جديدة سواء عن رغبة أو عن إكراه. هذه سنّة الحياة وليست فقط أشياء من الماضي. لا يمكن إعادة دوران عجلات التاريخ إلى الوراء أو أن نعكس ما قام به السلاجقة وغيرهم. كلّ هويّة نكتسبها (طواعيةً أم كراهيةً) تصبح في جيناتنا، شئنا ذلك أم أبينا.

في الخلاصة؛ ما يمكننا فعله هو التقليل من ضرر وسموم الهويّة المختزلة والمتزمّتة. وعينا لهويّاتنا الدينيّة المتداخلة يجبرنا على قبول بعضنا البعض بدل أن نتمترس وراء هويّة  دينيّة أو طائفيّة واحدة، ونصبح أعداء لمن كان منّا وكنّا منه.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  مكسيم رودنسون: من يُعبّد الطريق للأصولية الإسلامية؟