مُظفر النوّاب.. عابر القلوب بلا إستئذان

"قلبي.. يا ابن الشّكِ/ أرحني مِن أحزاني/ تَعِبت بحملِ التعبانين". نشر كاظم غيلان نصاً غير منشور لمظفر النوّاب قبل فترة، وإذا كان الشعر نبوءة كما يقال فأظن أن النوّاب بهذه القصيدة ودّع الحياة قبل أن يدخل غيبوبته الأخيرة التي امتدت سنوات في مشفى الشارقة حيث فارق الحياة.

عندما يرحل مبدعٌ تتزاحم الأقلام  للكتابة عنه وينعيه كبار القوم، وبهذا الصدد توجهت طائرة إلى مطار الشارقة لتنقل جثمان النوّاب.

لم يكن العراق محظوظاً في أن يحظى ترابه بأشلاء أي من عظماء شعرائه، وهم كثر، من أيام المتفرد بدر شاكر السيّاب إلى الآن. كانت الشام لها النصيب الأكبر فمن حصتها محمد مهدي الجواهري والسيد مصطفى جمال الدين بمقبرة الغرباء بالسيدة زينب، تلاهما قبر عبد الوهاب البياتي بزين العابدين منطقة الشورى، كما دُفن شاعر العراق العظيم عبد الرزاق عبد الواحد بعمان. أما القاهرة، فكان من حصتها رائدة الحداثة العظيمة نازك الملائكة. أما فوزي كريم وسعدي يوسف فقد ظفرت بهما لندن، فكان أن غاب دفء شعرهما في برودة طقسها. أما غزالة الشعر العراقي وعشتاره لميعة عباس عمارة فقد دفنت بأمريكا وعينها متجهة نحو “العمارة” ولياليها وسطوحها.

إنها المنافي يا سادتي؛

هنيئاً لمظفر النوّاب أن يتمسك به العراق بعد موته، وأنا كنت شاهدة على وفود كثيرة ذهبت إلى الشارقة تطلب عودته فرفض أن يعود لبلد غاب دكتاتوره ليحل محله شعيط ومعيط ومن لف لفيفهم من الأحزاب الفاسدة ملتحفة الدين ستاراً. وكلنا يعرف جيداً نظرة مظفر النوّاب لهؤلاء. يقول في حوار معه نشر في جريدة “الحياة” عن الموت: “من الصعب تقبل أن يموت أمامي إنسان أعرفه وكان يتحدث معي ولديه عواطفه وأحاسيسه وسيصبح تراباً ويأكله الدود. صعب استيعاب الأمر وتهزني التجربة من الأعماق على رغم قناعتي، تتصارع القناعة مع المظهر المادي الذي يحصل أمام عيني. وهذه هي أزمة كلكامش مع انكيدو”. وكان يقول أيضاً: “العراق زبون جيد للموت بل هو أكثر البلاد رفداً له”.

كان مظفر النوّاب توّاقا للعدالة الإنسانية ويحلم أن نحيا حياة فيها قيمة للإنسان، عاملاً كان أم فلاحاً أم حاكماً. لم يُفرّق هذا الرجل بين الناس وكان على قدر كبير من التواضع

يعتبر النوّاب رمزاً من رموز الشعراء الذين ثاروا على محيطهم الديكتاتوري فكانت الكلمة هي سلاحه وهي الطلقة التي قاوم بها وكانت نصوصه تنتشر بسرعة البرق.

غاب صاحب الريل وحمد النص الذي يتردد على شفاه المغربي والمشرقي على حد سواء؛، له الفضل الأول والأخير في انتشار الشعر العامي وبرغم صعوبة فهم اللهجة وفك طلاسمها إلا أن النوّاب فعلها ودخل قلوب الناس بغير إذن:

“مرينا بيكم حمد

وحنا بغطار الليل

وسمعنا دك كهوة

وشمينا ريحة هيل”.

إنه مظفر النوّاب الهارب من حفرة حفرها مع زملاء بسكينة فاكهة وقضيب صغير. وهي حكاية ممتعة رواها النوّاب لوالدي بمنزلنا بالقامشلي، في ذلك اليوم عزف والدي على الربابة وأنشد النوّاب إلى جانبه:

شلون بيه وبيك يابن آدم/ شالو جميع الناس يابن آدم/ وأنا بمكاني

مظفر سيرة شاهد على عصر بأكمله .لم أشهد على سيرة شاعر ملأ الدنيا وشغل الناس مثله، فهو شاعر الحزن بلا منازع. خروجه المبكر من العراق وتطوافه حول العالم جعله يشعر بالحزن المبكر، فمن أمٍّ كانت تعزف على البيانو في العشرينيات بمنزل يطل على نهر دجلة وله شريعة ومعروف في اللهجة العراقية أن الشريعة هي مكان ترسو به القوارب، والشرائع النهرية كانت حكراً على الأغنياء فمكان بيت أهل مظفر يسمونه شريعة النوّاب. غنى أحد مغني بغداد لا يردني اسمه الآن:

بشريعة النوّاب يسبح حبيبي

وبجاه خضر الياس يصبح نصيبي

لأن مقام خضر الياس يبعد قليلا عن الشريعة.

طريق النضال الطويل الذي مشى فيه الشاعر أبعده تماما عن الهناء والوداعة اللذين عاشهما في طفولته السعيدة ثم تبدلت حياته تماما:

مو حزن لكن حزين

مثل ما تنقطع جوّا المطر

شدّة ياسمين

مو حزن لكن حزين

مثل صندوق العرس

ينباع خردة عشق

من تمضي السنين.

كان النوّاب توّاقا للعدالة الإنسانية ويحلم أن نحيا حياة فيها قيمة للإنسان، عاملاً كان أم فلاحاً أم حاكماً. لم يُفرّق هذا الرجل بين الناس وكان على قدر كبير من التواضع. زرته مرة بقرية بمحيط مدينة القامشلي اسمها جمعاية وكان ضيفاً على أسرة فقيرة ببيت طيني متواضع مسقوف ببعض من القش، وكان في غاية السعادة يجلس على بساط كردي وأرض طينية.

شهادة حق أقولها عن الرجل شاهدته بأم عيني وجلست معه أنا وأبي نشرب الشاي ونتجاذب أطراف الحديث. كان ذلك في منتصف التسعينيات. وقتها لو أراد أن يغيّر أو يتنازل لفتحت له أبواب قصور كل الحكام العرب الذين كان يقول بيني وبينهم القدس. فتلك هي عروس عروبتنا سأسكت عنهم عندما تعود.

لكن للأسف صاحب المقولة التي هزت عروشهم:

أولاد القحبة لا أستثني منهم أحدا

رحل عن دنيانا وبقي لنا أولاد القحبة لم ينقص منهم أحد. نعم تبدلت بعض وجوههم لكن ما أرادوه لنا بحمد الله باقٍ معنا للأسف.

إقرأ على موقع 180  مظفر النواب.. شاعر الحواس المتأهبة (2)

أخيراً؛ “أبو عادل” الغالي كما كنت تحب أن يناديك أحبتك: نم قرير العين. فنحن من ننام على ضيم، ودعني أستذكر معك قبل أن تنزل إلى قبرك ما قلته يوماً:

كان ما في الكون أصحاب وأيام له إلا الهوى

ما يومه يوم.. ولا أصحابه أصحاب

نخلة في الزاب

كان يأتي العمر يقضي صبوة فيها

ويصغي للأقاصيص التي من آخر الدنيا

هنا يفضي بها الأعراب

هب عصف الريح واه يوماه يوم

وانتهى كل الذي قد تاه من دنيا

ومن عمر ومن أحباب

ها هنا ينهل في صمت رماد الموت

يخفي ملعب الأتراب.

Print Friendly, PDF & Email
نوال الحوار

شاعرة وإعلامية سورية

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  مظفّر النوّاب.. نهر الحواس المتأهبة