حياد فنلندا والسويد لم يكن ناشئاً عن عبث. هو وضع فرضه صعود روسيا كقوة عظمى منذ بطرس الأكبر في القرن الثامن عشر. السويد إلتزمت الحياد منذ هزيمة ملكها كارل الثاني عشر الذي غزا روسيا بأربعين ألف جندي عام 1709، وعاد منهم ألفان فقط وجدوا ملاذاً آمناً في أراضي الإمبراطورية العثمانية. وبعدما خرجت فنلندا من عباءة القياصرة الروس بعد ثورة 1917، مرت بتجربة مريرة مع ستالين عقب إندلاع الحرب العالمية الثانية بعدما هاجمها الجيش الأحمر ووجد صعوبة بالغة في دحر القوات الفنلندية التي إنضمت إلى قوات المحور بقيادة ألمانيا، وبعد الحرب قررت هلسنكي الوقوف على الحياد، وكانت في ذروة الحرب الباردة، بمثابة صلة وصل بين الغرب والإتحاد السوفياتي.
وبما أن الحرب الروسية-الأوكرانية هي الحدث الأكبر على الساحة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، كان من الطبيعي أن يترك ذلك إرتدادات جيوسياسية هائلة، فيهز تحالفات قديمة وينشىء تكتلات جديدة، وأن تروم دول تشعر بأنها مهددة، الحماية من دول أكبر، وأن تنتهز دول أخرى الإنزياحات السياسية والعسكرية الكبرى لتحقيق مكاسب هنا وهناك على حساب الدول الأضعف.
من توسيع الناتو إلى شمال أوروبا، إلى العقوبات الإقتصادية المتصاعدة، إلى تزويد كييف بالأسلحة الثقيلة، وإنسداد آفاق الحل السياسي، كلها مؤشرات تدل على أن الغرب يعمل من منطلق مقولة وزيرة الخارجية البريطانية ليزا تراس بأن “عهد الإنخراط مع روسيا قد إنتهى”
والحقيقة تقال أن علاقات فنلندا والسويد مع الحلف الغربي لم تكن معدومة أو منقطعة تماماً، إذ كان ثمة تنسيقاً عسكرياً ومناورات مشتركة دورية، وتستورد الدولتان السلاح من الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية، وفنلندا والسويد هما عضوان في الإتحاد الأوروبي، أي أن البلدين هما ذا توجهات غربية، بإستثناء إحتفاظهما أيضاً بعلاقات جيدة مع روسيا، وكانتا تتجنبان إستفزازها عسكرياً.
بيد أن تجربة ستالين جعلت فنلندا تبني قوة عسكرية لافتة للإنتباه. فهذه الدولة ذات الملايين الخمسة، تستطيع في أوقات الحرب تجنيد 900 ألف جندي، وهي مزودة بملاجىء وتحصينات ومواد غذائية أساسية بما يكفي لستة أشهر على الأقل، ويخضع جنود الإحتياط فيها حتى سن الستين عاماً إلى دورات تدريبية على نحو دوري. وعندما خفضت الدول الأوروبية موازناتها العسكرية بعد إنتهاء الحرب الباردة، كانت فنلندا من قلائل الدول التي أبقت على موازنة عسكرية عالية نسبياً.
واعتبرت ناتاليا دروزدياك في مقال بموقع “بلومبرغ” الأميركي أن عضوية فنلندا “سترسم خطاً أمام عهد كان فيه الجار الروسي العملاق يمارس كثيراً من النفوذ على علاقة هذا البلد مع بقية أوروبا. وبالنسبة للسويد سيمثل ذلك وضع حد نهائي للحياد الذي تميزت به هذه الأمة على مدى قرنين من الزمن”.
وفي ما يتعلق بحلف شمال الأطلسي، فإن دول الشمال الأوروبي لن تضيفا إليه قدرات عسكرية فقط. بل هناك الناحية الجغرافية، بحيث ستُقللان من الخطر المتأتي من الضفة الشمالية الشرقية، وذلك من طريق زيادة 1343 كيلومتراً في طول الجبهة البرية مع روسيا، مما يعزل على نحوٍ فعلي جيب كالينينغراد الروسي الواقع بين بولندا وليتوانيا على بحر البلطيق. وجوهر الفكرة هنا، هي أن جمهوريات البلطيق ستكون في موقع أقوى بمواجهة أي غزو روسي محتمل.
بدوره، وزير الدفاع الليتواني أرفيداس أنوسوسكاس، لم يستطع كبت سعادته بهذا التطور قائلاً “في حال نشوب نزاع فهناك فرصة لإغلاق خليج فنلندا.. هذه فرصة جديدة، وأمر لم نفكر به من قبل”. لكن محرر شؤون الأمن القومي في مجلة “ذا ناشيونال إنترست” مارك أبيسكوبوس، يرى أن إنضمام فنلندا والسويد إلى الناتو “قد يثبت أنه أكثر خطورة مما تتوقعه قيادة الحلف”. ويشير إلى أنه “من بين الأسباب التي دفعت روسيا إلى غزو أوكرانيا، كان القلق من إحتمال زحف الناتو إلى حدودها الشرقية منذ إنتهاء الحرب الباردة. وقريباً، قد يصل الحلف إلى أقرب مسافة من حدود روسيا، مما ينذر بتصعيد للنزاع الروسي-الغربي من حرب بالوكالة في أوكرانيا إلى مواجهة أوروبية أوسع، مع نتائج لا يمكن التنبؤ بها أو عواقب كارثية محتملة”.
ويقدم هنري فوي في صحيفة “الفايننشال تايمز” البريطانية تقويماً متشائما حيال التطورات، إذ يقول “إن حصيلة (التطورات الجارية) هي قارة تنتشر فيها الأسلحة.. والجنود في حال تأهب لم تشهدها منذ عقود، لكن من دون قنوات الأمان التي وفّرت ضمانات إبان الحرب الباردة، وبذلك تضحي أوروبا أقل أماناً اليوم، من أي وقت منذ عام 1945.
وهذا ما أثار تساؤلاً حيال ما إذا كانت الحشود الأطلسية قد جعلت أوروبا أكثر حماية، أو أنها زادت في تأجيج وضع متوتر أصلاً. إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ينظر إلى هذه الخطوات على أنها تؤدي إلى وضع أكثر تهديداً، مما يبرر هجومه على أوكرانيا.
الصحافي هنري فوي: الجنود في حال تأهب لم تشهدها منذ عقود، لكن من دون قنوات الأمان التي وفّرت ضمانات إبان الحرب الباردة، وبذلك تضحي أوروبا أقل أماناً اليوم، من أي وقت منذ عام 1945
وتنظر روسيا بكثير من الحذر والترقب للخطوة الفنلندية-السويدية. وعدا عن قرار شركة “غازبروم” الروسية بوقف صادرات الغاز بوقف إمدادات الغاز الروسي إلى فنلندا، لمّح نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي ديميتري ميدفيديف إلى إحتمال نشر أسلحة نووية في البلطيق من قبيل “إستعادة الردع” في المنطقة. وأطلق نائب المندوب الروسي الدائم إلى الأمم المتحدة ديميتري بوليانسكي التهديد الأكثر مباشرة حيال هلسنكي وستوكهولم حتى الآن قائلا :”إنهما (فنلندا والسويد) يعلمان أنه في اللحظة التي تصيران فيها عضوين في الناتو، فإن ذلك سيؤدي إلى خطوات مضادة من الجانب الروسي. وإذا ما كان ثمة وحدات أطلسية على أراضي هاتين الدولتين، فإن هذه الأراضي ستتحول أهدافاً لضربة روسية محتملة”.
وفي نهاية المطاف، فإنه من توسيع الناتو إلى شمال أوروبا، إلى العقوبات الإقتصادية المتصاعدة، إلى تزويد كييف بالأسلحة الثقيلة، وإنسداد آفاق الحل السياسي، كلها مؤشرات تدل على أن الغرب يعمل من منطلق مقولة وزيرة الخارجية البريطانية ليزا تراس بأن “عهد الإنخراط مع روسيا قد إنتهى”.